وفي آخر عام 1928 وأوائل عام 1929 يلقي طه حسين في الإسكندرية سلسلة من أربع محاضرات عن الشعر العربي السياسي، والهجائي، والغزلي، وعن التأثير الفارسي في الأدب العربي، وقاعة المحاضرات تغص دائما بالمستمعين والمستمعات أيضا، ومن بينهم من يكتشف روعة التراث العربي لأول مرة، وتحدث هذه المحاضرات في الثغر السكندري حركة أدبية نشطة يتمنى أهل الإسكندرية ألا تهدأ. وفي الإسكندرية أدباء نابهون يتحدثون إلى طه حسين عن انشغال مدينتهم بالتجارة والمال وانحصار كل نشاط ثقافي له قيمة في أوساط الجاليات الأجنبية، وطه حسين يقول لا بد للإسكندرية من إحياء جامعتها ومكتبتها واستعادة مكانتها لتعود منارة من منارات الثقافة العربية في حوض البحر الأبيض المتوسط. •••
وفي حديقة منزل طه حسين في مصر الجديدة، في ظل الأشجار التي نمت نموا ظاهرا، يجلس لطفي السيد مع طه حسين، لطفي يقول كعادته: «سأسأل أنا»، ويضحك طه حسين ويقول له: «آخر مرة سمعت فيها هذا التعبير كانت عندما أقبلت ابنتي أمينة تناقشني على طريقتك التي سمعتها منك، قالت لي: إذا كانت الحلاوة الطحينية حلوة، وإذا كنا يجب أن نحب الحلاوة، فلماذا تحرمني أمي منها؟»
فيقول لطفي السيد: «عظيم! إذن سيكون لنا ذات يوم آنسة من الفلاسفة والعلماء، بل إنها ستتخرج في جامعة منزلية، عندك هنا؛ لأننا لا نقبل البنات في الجامعة.»
ويقول طه: «هذا موضوع هام، لماذا لا تقبل الفتيات في الجامعة؟ لماذا نحكم على نصف الأمة بالجهل؟ إن كلمة «مصري» الواردة في القانون ليس معناها الذكور من المصريين فقط، «المصري» تعني المصري والمصرية، تعني جميع أبناء مصر، فليس هناك إذن مانع قانونا من قبول الفتيات في الجامعة إذا كان لديهن ما تتطلبه الجامعة من زملائهن من المؤهلات»، ويرد لطفي السيد، بعد تأمل، بأن هذا الكلام مقنع، يبقى التنفيذ، ويرد طه بأن التنفيذ في يد السيد المدير، أي في يد لطفي السيد نفسه.
وتدخل «أمينة» لتسلم على الضيف الكريم، ثم تقول لوالدها: «وجدت عصفورا في الحديقة لا يستطيع الطيران، رجله مكسورة وأنا لذلك أعنى به وأعطيه الأكل والماء، وسأظل أعتني به حتى يستطيع أن يحلق عاليا في السماء.»
ويقول لطفي السيد: «إذن لن تكون عندنا آنسات يحملن آراء الفلسفة والعلم فحسب، بل يحملن كذلك لواء الرحمة والطموح.» •••
وتجيء إجازة نصف العام، ولا بد لأمينة ولأخيها من الانطلاق بعيدا عن المدرسة، وعن البيت، وعن القاهرة، وهناك دعوة من آل عبد الرازق لزيارتهم في «أبو جرج» في مديرية المنيا.
والعطلة في «أبو جرج» بالنسبة لأمينة وأخيها هي الحقول الممتدة إلى غير نهاية، والحديقة الواسعة ذات الأشجار والثمار يمرحان فيها كما يشاءان، ويأكلان من ثمارها ما يشاءان، ولكن العطلة تنتهي فيعود الطفلان مع والدتهما ومع جدتهما لأمهما (التي كانت تزور مصر للمرة الثانية) إلى القاهرة، سعداء بهذه الأيام التي قضوها في الريف وبما لقوا فيها من ترحيب وإكرام. وتمر أسابيع ثلاثة بعد عودتهم فتحس أمينة بحرارتها ترتفع، ولا تستطيع مغادرة فراشها، ويحضر الطبيب، فتؤكد له التحليلات التي يجريها أن الصغيرة مريضة بالتيفود، ولا تمر أيام حتى يصاب أخوها بنفس المرض، ويبذل الطبيب أقصى جهده، ويعطي الصغيرين كل عنايته، وهما يتماثلان فعلا للشفاء، ولكن أمينة تعود فتنتكس، ثم يشتد مرضها وتتعرض للخطر، والدتها تلازمها، ووالدها يسهر الليل إلى جوارها، حيران قلقا يدعو الطبيب بعد الطبيب، والأطباء يتشاورون، يصفون العلاج ثم العلاج، يتفقون ويختلفون، والوالد ترهقه من جديد ذكرى أخته نفيسة وأخيه محمود، وتذوب نفسه ألما وهو يتجه إلى الله - تعالى - يدعوه أن يرحم صغيرته ويشفيها، نعم ويزور طه حسين ضريح السيدة زينب ذات يوم ليبتهل هناك إلى الله.
ويرحم الله الوالد والوالدة والصغيرة، فتترك أمينة فراش المرض بعد ملازمته أسابيع، ضعيفة قد أنهكتها الحمى، مبتهجة لأنها تستطيع الآن أن تمشي في الحديقة وأن تشارك في حياة الأسرة التي حرمت من المشاركة فيها طوال مدة المرض الثقيل الخطير. •••
كان محمد محمود باشا لا يزال يشدد من قبضته على شعب لا يستجيب له ولا يخضع، ولكن حكومة المحافظين في إنجلترا تسقط وحزب العمال الإنجليزي يصل إلى الحكم في أول الصيف، فينقل لورد لويد
Bilinmeyen sayfa