وكان في القرية ابن عمه نجيب المعلاوي، وكان يعمل سمسارا في الحبوب، وسمسار الحبوب أقل السماسرة دخلا. فالحبوب ليست مرتفعة الثمن عادة، ثم إن المدى الذي تتراوح فيه أثمانها محدود. ولهذا فما يناله السمسار أيضا محدود. يكفيه ذل السؤال ولا يصل به أبدا إلى حال من الغنى أو مشابه للغنى. وكان لنجيب ابن هو صفوت، وكان نجيب حريصا غاية الحرص على أن يعلم ابنه هذا. ولكن صفوت أيضا كان حريصا على اللعب حرصا لم يجد معه إصرار أبيه. وبين تنافر الحرصين من الأب وابنه حصل صفوت على الابتدائية وهو في السابعة عشرة من عمره، وقد كانوا يحصلون على الابتدائية في ذلك الحين في سن تتراوح بين العاشرة والثالثة عشرة على الأكثر. وهكذا لم يجد نجيب مناصا من أن يفقد الأمل تماما في تعليم صفوت وصحبه إلى الحاج خليل المعلاوي. - يمسك حساباتك وهو خير من الغريب. - أنا عندي كاتب حسابات، ولكن لا أستطيع أن أرفض لابن عمي طلبا؛ سأجعله يقف معي في المحل ويناول الزبائن. - افعل ما تشوفه. المهم ألا يقعد في البيت كالعمل الردي.
وعمل صفوت مع الحاج خليل، وما هي إلا سنوات قلائل حتى أدرك سر الصنعة وعرف كل المشترين، بل لقد تعرف أيضا على التجار الذين يشتري منهم عمه خليل. وبدأ هو نفسه يمارس تجارة صغيرة من حجرته التي استأجرها في طنطا. ومرت سنوات قلائل أخرى، واختفى صفوت من طنطا تماما دون أن يعرف أبوه أو الحاج خليل أين ذهب.
كان مع خيبته في المدرسة شعلة من الذكاء في التجارة. فما إن وجد في يده مبلغا من المال يصلح رأس مال صغيرا حتى قصد إلى القاهرة. ونزل من القطار الذي ركبه باكر الصباح إلى وكالة البلح. وكان يعرف طريقه كل المعرفة. ذهب إلى المعلم أخنوخ حنا: صباح الخير يا معلم. - أهلا صفوت. - تذكر حديثنا عن المحل الذي وعدت أن تجده لي. - هل جهزت المبلغ؟ - كله. - تعال معي.
واستأجر شبه حجرة في وكالة البلح، وكانت تجارة قطع الغيار في هذه السنوات قد انتقلت إلى وكالة البلح بعد أن أقفل النظام منافذ الاستيراد.
وانتعشت حال صفوت، وراح ماله يزداد زيادة جنونية. وكان من بين زبائنه رياض البحراوي، وهو شاب في كلية التجارة. كان أبوه زكريا صاحب عمائر، وحين ضاقت الحياة على أمثاله ضاقت عليه معهم، إلا أنه لم يقع تحت طائلة الحراسة ولا انتزع منه ملك، فاستطاع أن يشتري لابنه رياض سيارة صغيرة قديمة، فكان طبيعيا أن يشتري لها رياض قطع غيار لإصلاحها؛ فهي دائما في حاجة إلى إصلاح.
ومع كثرة تردده على صفوت تعرف صفوت على العائلة، وما كانت سيارة الأب بأحسن حالا من سيارة الابن؛ فهي أيضا تحتاج إلى كثير من الإصلاح وإلى كثير من قطع الغيار.
دعا رياض صفوت إلى البيت، وهناك رأى أخت رياض حنان، وتمنى أن يتزوجها. وكان صفوت حسن الملامح، وكان يحاول دائما أن يبدو في ملبس نظيف، فهو منذ أصبح صاحب تجارة يحرص أن يبدو في أحسن صورة، ينتقم بحسن ملبسه من أيام عمله مع الحاج خليل حين كان يلبس الجلباب والطاقية في الصيف. ثم لا يزيد هذا الملبس شيئا في الشتاء إلى جاكتة متهرئة. أما اليوم فهو يشتري أحسن الأقمشة، بل إنه أيضا يحرص أن يكون عماله في أحسن مظهر؛ فمعطف أصفر خفيف في الصيف، ومعطف أزرق ثقيل في الشتاء. أما العمال الذين لا يراهم الزبائن فحال ملابسهم شر من حال ملبسه هو حين كان عند الحاج خليل المعلاوي.
زيارة، ثم زيارتان، ثم قال صفوت لزكريا: أنا حاصل على الابتدائية.
وقال زكريا: وأنا حاصل على الابتدائية.
وقال صفوت: لعلك لم تتصور كم أكسب اليوم؟ - بل أكاد أتصور. - لا تستطيع. - لهذه الدرجة! - أنا لولا القوانين التي تحكمنا لبنيت عمارة في الزمالك أو جاردن سيتي. - لهذه الدرجة! - ولكن الظروف التي نحن فيها تحتم علي أن أعيش في شقة قديمة وأضع أموالي في خزينة حديدية في بيتي لا يستطيع أحد أن يراها أو يعرف مكانها، حتى ولو كان العفريت ابن العفريتة. - هذا الكلام طريق إلى كلام آخر؟ - ما رأيك؟ - أكمل الكلام. - لقد فهمته. - في مثل هذه الحالة لا يكفي الفهم، لا بد من التصريح. - حنان. - والله ... - طبعا أنا لن أستطيع أن أقول إنني ابن بك أو ابن باشا . وإذا حصل نصيب فستعرف عني كل شيء. أنا أبي سمسار حبوب في منشأة البكري في الغربية. لم أنفع في التعليم ونفعت في تجارتي هذه. ماذا ترى؟ - وهل أنا ابن بك أو ابن باشا؟ أنا أيضا كنت تاجر جملة، أقفلت تجارتي بعد الثورة بسنتين، وأعيش على ريع ثلاث عمارات. - أنا الحمد لله في غنى عن مالك. - اسمع يا بني، إن كان الرأي لي وحدي لقرأت معك الفاتحة الآن. ولكن البنت متعلمة. - أهي متعلمة؟ - يعني مثلنا كذا أنا وأنت. - الحمد لله. - ولا بد من أخذ رأيها. - الأمر لك.
Bilinmeyen sayfa