كان يوم خميس. لا يزال عزام يذكره وكأنه مر بالأمس القريب. وذهب في موعده إلى نرمين. وكانت الجلسة تبدأ بينهما بالحديث مع كأس ويسكي، وكان لا يزيد عن الكأس قط، وكان الحديث يتناول أمورا خلقتها الزيارات المتكررة. ولم يكن بينهما في الحديث جسور مشتركة، فلكل منهما حياته البعيدة كل البعد عن حياة الآخر. كان هو يذاكر بجدية كاملة، وإذا أراد أن يروح عن نفسه فديوان شعر لشاعر من القدماء أو شوقي أو حافظ. وكان معجبا بشوقي غاية الإعجاب، وكان يعتبره أعظم شاعر في التاريخ العربي قديمه وحديثه. وكان يقرأ كل ما يظهر لأدباء عصره، أولئك الذي نشأ الأدب العربي الحديث على أيديهم: طه حسين، ومحمد حسين هيكل، والعقاد، والمازني، وأحمد أمين، وتوفيق الحكيم، ومحمود تيمور، والزيات، والرافعي. وكان جيل عزام يتلقف أدب هؤلاء نقطة نقطة، أو كتابا كتابا. كان جيله أشبه ما يكون بالجالسين على أبواب المطابع يختطفون كل كتاب يظهر. وهكذا كان الماء يصل إليهم رذاذا غير منهمر. فلم يكن العمالقة قد أكملوا أدبهم بعد، وإنما كانوا يصنعونه. وفي هذه الفترة التي يعيش عزام في ذكرياتها ظهرت مطالع روايات نجيب محفوظ وقصصه وقصص محمود البدوي ويوسف جوهر وأمين يوسف غراب ويوسف السباعي القصيرة، وبدأ جيل عزام يتعرف عليهم. ولكن كل هذا كان لا يمد هواة الأدب بمدد الينبوع الدائم الجريان، فكان عزام يقرأ مع هؤلاء كتب التراث مثل الأغاني والعقد الفريد والعمدة وغيرها، ويقرأ الشعر العربي القديم والحديث وهو مدد لا ينفد. والشعر ليس كالرواية. فقد يستطيع الهاوي أن يقرأ القصيدة مائة مرة، ثم يعود إليها، أما الرواية فهي مرة واحدة، فإن أعجبته غاية الإعجاب فمرتين.
كانت هكذا حياة عزام . ففيم كان يمكن أن يجري الحديث بينه وبين نرمين وهي لا تعرف اسما واحدا من كل هذه الأسماء إلا ربما هيكل باشا؛ لأنه كان وزيرا. وكانت طبعا لا تدري لماذا أصبح وزيرا، ولا تعرف أي صلة بينه وبين الأدب. بل هي لا تعرف عن الأدب شيئا إلا ما تقوله عنه مجلات تلك الأيام مثل المصور وآخر ساعة وروز اليوسف. ومع هذا التنافر في الاهتمامات نشأ نوع من الحديث بين عزام ونرمين. وكان الحديث ممتعا لكليهما. فقد كانت تروي له عن صديقاتها وصلاتهن وأصدقائهن. وكان يروي لها عن زملائه وعن بيته وعن أبيه وعن أمه وعن مجيدة وعن عمه عزت.
في ذلك الخميس الذي لا ينساه صنعت له كأس الويسكي وصنعت لنفسها كأسا وجلسا، وبدأت تقول: هيه، ما الأخبار؟ - أخبار السياسة؟ - أعوذ بالله! لا أكره شيئا قدها. - الأخبار يا ستي أن عمي عزت كان يزورنا من يومين. - وهيه، وما أخباره؟ - الحظ يحالفه في هذه الأيام ويتغلب على كل منافسيه في الطاولة. وكسب الشهر الماضي خمسة جنيهات من الطاولة وحدها. - أصبح ثريا إذن. - أضاعها في الضمنة.
وضحكت نرمين وهي تقول كلمتها المأثورة: شربات.
وقال عزام وعلى وجه غلالة من الجدية: أتعرفين يا نرمين، أنا لا أحسد أحدا في حياتي إلا عمي عزت! - أعوذ بالله! أنت قلبك لبن حليب، لا يمكن أن يحسد أبدا. - لا، فعلا أنا أحسده. - أنت تحسد؟ - نعم. عمي عزت. - أنت تحبه؟ - لا أفرق بينه وبين أبي مطلقا، ولكني أحسده. - أنت تعني شيئا لا أفهمه، فحب وحسد لا يجتمعان. - ربما كان المعنى الذي أقصده لا تعبر عنه كلمة الحسد التعبير الدقيق. - إذن. - أتمنى أن أكون مثله. - يا شيخ لا قدر الله. - ولماذا؟ - بل قل لي أنت، لماذا تريد هذا الذي تريد؟ - لا أحمل هما، طيب، لا أزعل من أحد ولا أجعل أحدا يزعل مني، الدنيا عندي طاولة وضمنة وتسلية. زوجتي تحمل هم البيت، وأخي يشرف على الأرض، وأنا أسعد خلق الله.
ونظرت إليه نرمين مليا وبدأت مطالع دموع تفور إلى عينيها وهي تقول: أهذه حياة؟ - وما الحياة؟ - أي شيء إلا هذا. - أرى في عينيك ... - نعم. - هل ذكرك حديثي بشيء؟ - كان أبي مثل عمك، إلا أنه كان يغامر بمبالغ طائلة حتى أضاع ثروته كلها. - بالطبع ليس هذا الذي أقصده. - وكانت النتيجة ما ترى. وهو على قيد الحياة ويعرف المهنة التي أحترفها. - ولكن عمي شيء آخر. - عمك لن يضيع ثروته، ولكنه يضيع حياته.
وتماسكت نرمين وغاضت الدموع. - ولكنه سعيد ولم يؤذ أحدا في حياته، وربما أعان بعض الناس. - لا تؤاخذني، الحمار أيضا سعيد، والثور سعيد. في الحياة لا بد أن يكون هناك فرق بين الإنسان والحيوان. والحيوان أيضا لا يؤذي أحدا، وإن كان عمك أعان أحدا فربما تكون هذه هي الحسنة الوحيدة في حياته. أتراها تكفي؟! - عمي شخص محترم بين الناس، وهو صديق لصديقه، يعينه عند الحاجة، ورجل طيب بمعنى الكلمة.
وصمتت نرمين لحظات قصارا وقالت: عندما يقترب أجله - أطال الله عمره - ويحتويه الفراش الذي يقدمه إلى السماء، وينظر خلفه، بماذا يستطيع أن يلقى في نفسه سعادة؟ إنه صنع شيئا ذا قيمة. كل ما سيذكره المارس الذي تغلب به على أحد أصدقائه. - لحظة ويصبح عند الذي لا ينفع عنده مال ولا بنون. - هذه اللحظة هي العمر كله، هي وداع حياة بأكملها.
وكان الذهول يستولي على عزام كلما تحدثت نرمين، حتى إذا انتهت إلى جملته الأخيرة وجد نفسه يحتضنها في قوة: أنت تخفين بكأس الويسكي الذي نشربه ثروة من الإنسانية. - لا أطلع عليها إلا من أحب. - إذن ... - نعم أحبك، ولكن أرد نفسي عن حبك.
ولم يسأل لماذا وإنما يطرق ثم يرفع رأسه: نرمين، أنا نلت اليوم من المتعة ما يزيد على كل الأيام التي التقينا فيها. كأنما تجمعت أيامنا كلها وتضاعفت مئات المرات اليوم. أنا سأنصرف.
Bilinmeyen sayfa