ولكنها لم تستجب. بفحيح أكثر انخفاضا وإلحاحا سألته: بس أنا عايزة أعرف. أرجوك أنت .. أنا ح اجنن عايزة أعرف .. ما وديتوش لوكاندة ليه؟ ما سبتوش يتحرق مع أهله ليه .. عملت كدة ليه. أرجوك قولي بس .. عشان ما اجننش!
كيف يخبرها وهو نفسه لا يدري لماذا أقدم على ما اقدم عليه. كان قد اتخذ قراره من زمن وكف تماما عن مساعدة أهل «زينين» وتوظيفهم والتدخل لقضاء المصالح. إن أهل بلده هؤلاء لا يكاد يبرز من بينهم واحد حتى يتسابقوا إلى جذبه إلى أسفل وإغراقه في حل مشاكلهم. مشاكل لو تفرغ لها لاحتاج لأضعاف أضعاف عمره، فلا يوجد إنسان إلا وله مشكلة حادة ملحة تطلب الحل وتستحثه، ومائة ألف نسمة في زينين وما حولها، بمائة ألف مشكلة، بقرار حاسم باتر منه أن تبقى له حياته الخاصة ومشاريعه وطموحه وأن ينفض عن نفسه هذه الأيدي الكثيرة التي تريد إنزاله وجره إلى حيث هم، وكأنما لا يطيقون رؤية البارز العالي ولا يستريحون حتى يبرك مثلهم ويعجز.
ولكن السكرتير جاءه قرب الظهر قائلا: إن أبا فهمي وعمه بالخارج، وأنهما يريدان رؤيته. وحياته ليس فيها إلا فهمي واحد، أول، وربما آخر، طفل أو إنسان يعترف الحديدي لنفسه أنه أذكى منه. كان فهمي إذا وقف ليجيب وقد عجز الفصل عن الإجابة التفت الحديدي بكليته ناحية، يتأمل ملامحه الشاحبة، ووجهه المليء بالعظام الناتئة، والذي تكسوه مع هذا غلالة من مهابة خفيفة، مهابة التفوق أو العبقرية، وكل كلمة ينطقها كان يتأملها وتبهره، حتى الطريقة التي ينطقها بها، فكل كلمة كانت الصواب بعينه، كل كلمة بالضبط ما يجب أن يقال وما يعجز الجميع عن قوله، فهمي كان يقولها ببساطة ودون أي جهد، في ذلك الفصل من المدرسة الإلزامية، ذي الجدران المتساقطة الطلاء، الكاشفة عن الطين الذي بنيت به الحيطان، الفصل ذي السبورة الكالحة البالغة الصغر، وكأنما هي سبورة خاصة لتلميذ واحد، المزدحم بعشرات الطواقي الصوف والبيضاء القطن وأحذية الإخوة الكبار أو ربما الآباء والقباقيب والحقائب القماشية التي صنعتها كل أم لابنها، أو خيطت على المكنة فوق البيعة مع الجلابية، الأيام الأولى التي كان الحديدي يتعرف فيها على مدخل العالم المقروء المكتوب ويحاول أن يحذق مبادئ أسراره، وفهمي رفيق تلك الأيام ومثلها الأعلى .. أيكون أهله هم من ينتظرونه بالخارج.
وأمر بدخولهم.
ومن باب الحجرة دخل ثلاثة أو أربعة أناس من حجم قصير تخين واحد. ورابعهم مثني على نفسه لسبب مجهول. أجال بصره فيهم. إن ملامح فهمي محفورة في ذاكرته لا تمحى أو تموت. وأجال بصره محاولا أن يعثر على من يصلح ليكون أبا لفهمي أو عمه .. ولكن ملامحهم بدت غريبة حتى على أهل زينين بشكل عام. - أمال فين فهمي؟
وتسابقوا في ارتباك عظيم يجيبون، وينتهون إلى الإجماع على الإشارة للشخص الرابع المثني على نفسه. - ده! - أيوة يا بيه! - أنت؟ - أيوة يا بيه .. هو! - أيوة .. يا ...
ورفع رأسه يواجهه رغم بقائه متنيا. وحدق الحديدي طويلا فيه كمن يفتش في كومة من قش قديم عن إبرة ملامحه لطفل صديق كان أعز عليه من نفسه. - أنت فهمي؟! - أيوة .. يا ... فاندي!
جاءه الجواب من وجه المومياء الخارجة لتوها من القبر أو المستعدة توا للدخول فيه، وجه منقبض بالألم، وكأنما ثبتت ملامحه عنده وحنطت عليه ! - أنت فهمي أبو ... - أيوة .. أبو عنزة يا بيه .. ده كان معاك في المدرسة .. بس حضرتك مش فاكر.
أمعقول هذا؟ من الطفل المرتب النظيف الذي تحيط بوجهه مهابة النبوغ، ومن العينين اللتين يطل منهما الذكاء النفاذ والقدرة المعجزة على الإدراك، أين هذا من ذلك الرجل الذي يبدو عجوزا محطما تجاوز الخمسين، المظلم القسمات كالأرض البور، المطفأ العينين لضيقهما كشريط اللمبة حين يحمر من تلقاء نفسه ويقصر ويحترق لدى فراغ الكيروسين.
وأحس بفجيعة ذات طعم خاص. كان دائما متأكدا أنه سيلقى فهمي يوما ما، وكان يعد العدة لهذا اللقاء الحافل. إن قدرا كبيرا من الرهبة التي يحسها لفهمي مبعثه أنه كان يتخيل دائما أن فهمي سيظل متفوقا عليه وعلى الآخرين. وأن الذي باستطاعته أن يتفوق كطفل لا بد باستطاعته أن يتفوق كشاب ثم كرجل. ولم يكن أبدا يتصور أن اللقاء سيتم على هذه الصورة، وأن الطفل الذي في ذاكرته سيمخض عن هذا الرجل. كان يدخر الحظة التي يقابله فيها كلاما كثيرا يريد قوله، وكيف أنه إذا كان قد أصبح الأستاذ الدكتور الحديدي، أكبر مرجع في الكيمياء العضوية في الشرق، وإذا كان قد أصبح رئيس مجلس إدارة مؤسسة كبرى، ومرشحا أكثر من مرة للوزارة، وعضوا في عشرات اللجان والهيئات العلمية في الشرق والغرب، فجزء كبير من هذا الفضل يرجع لفهمي، فقد كان الصوت الذي ظل لأكثر من ثلاثين عاما من الزمان يلهب طموحه ويدفعه للتفوق حتى ينتصر، ولو مرة واحدة، على الطفل العبقري، الذي ظل يحافظ عليه في ذاكرته كصور القديسين التي لا تمس. وها هو اللقاء، وها هو القديس. - أنت فهمي أبو عنزة؟ - أيوة يا بيه. - فاكر العنزة؟ - عنزة إيه يا بيه؟
Bilinmeyen sayfa