ويثور ماشا ويقول لا يمكن أن أسمح لمندوب شركة أمريكية احتكارية رأسمالية متعفنة أن يعيث فسادا في مكنة أنتجتها أيدي الطبقة العاملة السوفييتية.
ويستشيط بيل غضبا ويقول: أيها الشيوعي ال...
وترتفع أكثر من مائة يد صعيدية وبحراوية، أيد مشققة وأيد ناعمة مثقفة، تحول بين الاثنين وتلطف الموقف.
ويعود العبوس العظيم يحتل وجه السيد عبد الحميد؛ فخلاف ماشا وبيل ليس نقمة، ولكنه نعمة تهبط أول ما تهبط فوق رأسه.
وتطور الخلاف وتبودلت الكلمات الزاعقة الطائشة، حتى عاد المعسكر إلى انقسامه، فلازم ماشا غرفته، وجلس بيل جلسة المتحفز أمام بابه، ووقف السيد عبد الحميد ينقل بصره بين المكنة المفتوحة البطن وبين قطعة الغيار الراقدة بجوارها، وهو لا يحس مطلقا بالشمس المنصبة فوق رأسه. وبآخر ما يستطيع من جهد حاول مرة أخرى أن يجمع ماشا وبيل كي يتفقا ويركب أحدهما أو كلاهما القطعة ويستأنف العمل، ولكنه ما كان يجمعهما إلا ليتشادا ويتفرقا.
وكل منهما يقف موقفا صلبا عنيفا، وكأنما قد استحضر في جسده الواحد عناد أمته بأسرها كل طاقتها على القتال. أجل .. في تلك البقعة النائية من شبه جزيرة سيناء، وتحت لفح نيران حامية تتأجج من صفرة الأرض وزرقة السماء، هناك حيث لا حياة ولا جمال، ولا شيء سوى الرمل والصحراء والجبل والعمل، هناك حيث المعسكر مقاما، كان يقف ماشا وبيل وجها لوجه، شابان متقاربان في السن، لهما نفس المهنة وربما نفس الهوايات، ولكن كلا منهما مستعد أن يقتل الآخر مثلا لو ظل الآخر على صلفه وعناده .. كل منهما عنيد صلب، يريد أن يذبح الآخر ويصفي دمه، كل منهما يعتقد أنه على حق، وأنه لو تراجع قيد أنملة فكأنما كرامة بلده وشعبه هي التي تتراجع.
والحقيقة أن السيد عبد الحميد لم يكن يقف يرقب المكنة وقطعة الغيار وحده، كان يقف معه محيي الدين، أو كما يسميه العمال «النمس»، وهو رغم نهمه الشديد وحبه لالتهام الطعام، رغم تزويغه من الشغل كلما عنت له فرصة، إلا أنه دائما جلاب المشاكل، عمل مع ماشا فالتقط منه الصنعة وعمل مع الألمان فتعلم الميكانيكا. ورغم هذا فيدوبك كان يفك الخط. ولكنه كان يقرأ الصحف بمهارة، متحمسا، أسمر، مبتور البنصر الأيمن، غزير العرق، شعره أكرت، قد أصبح له لون الصحراء الأصفر من كثرة ما علق به من تراب وغبار. ولكن أحدا في ذلك الوقت لم يكن يلقي بالا كثيرا إلى النمس أو إلى السيد عبد الحميد، فالجميع، حلقات، حلقات، مشغولون بتتبع أخبار المعركة الدائرة بين ماشا وبيل، وآخر أنواع الشتائم التي كان يطلقها كل منهما خلف الآخر وأمامه .. وعدد صفائح البيرة التي يقذفها ماشا، وعدد جرعات بيل.
واستمر الأمر هكذا، طيلة اليوم، وحتى غربت الشمس، وجزءا لا بأس به من الليل.
وفي الصباح فوجئ الجميع بشيء لم يكن يتوقعه أحد .. فوجئوا بالمكنة، منذ الصباح الباكر. تدور وقد ارتفع صوتها وتوالت تكتكاتها تشق عنان السماء.
كان النمس، على ضوء كلوب، وبمساعدة زميل له، قد قام، من وراء بيل وماشا ومن وراء الباشمهندس، في الليل، بتركيب قطعة الغيار الأمريكية والتصرف في أجزائها وصواميلها حتى طابقت تماما المكنة الروسية.
Bilinmeyen sayfa