Dil, Din ve Geleneklerin Bağımsızlık Hayatındaki Rolü
اللغة والدين والتقاليد في حياة الاستقلال
Türler
الإهداء
اللغة والدين والعادات
الإهداء
اللغة والدين والعادات
اللغة والدين والتقاليد في حياة الاستقلال
اللغة والدين والتقاليد في حياة الاستقلال
تأليف
زكي مبارك
الإهداء
إلى فضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي أهدي هذه الصحائف، تحية من رجل يضمر له أصدق الود، ويعرف فضله في إعزاز اللغة والدين، ومحمود التقاليد.
Bilinmeyen sayfa
المخلص
محمد زكي عبد السلام مبارك
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على جميع الأنبياء والمرسلين.
أما بعد، فهذا بحث أدرت معانيه في ذهني أسبوعين، ثم كتبته في سهرتين، وأنا أقدمه إلى الجمهور قبل أن أقدمه إلى لجنة التحكيم في المباراة الأدبية، أقدمه سمحا سهلا كما فاض به الطبع، بلا توشية ولا تنميق.
ولا يكن كل همي حين أنشأته أن أظفر بالجائزة الأولى، وهي مرصعة بمائة دينار، تعود على مثلي بأجزل النفع، وإنما كان أكبر همي أن تصل بعض آرائي إلى آذان قومي، وهذا مغنم ليس بالقليل.
وإني أعتذر عما اصطنعت من الإيجاز، فقد ضاق الوقت، وصرفتني الشواغل عما كنت أريد من الإطناب، وجهد المقل غير قليل.
زكي مبارك
مصر الجديدة في 12 المحرم سنة 1355 / 4 أبريل سنة 1936
اللغة والدين والعادات
Bilinmeyen sayfa
باعتبارها من مقومات الاستقلال
1
الدين واللغة والعادات من الظواهر التي يتصل بعضها ببعض أشد اتصال، ومن المؤكد أن اللغة تخضع في بعض ألوانها للدين والعادات، وقد يكون في صورها القديمة ما يؤثر في الدين والتقاليد، وهذه الظواهر الثلاثة تبدو مختلفة بعض الاختلاف، ولكنها عند التأمل ترجع إلى أصل واحد، هو التعبير عن الخلائق الأدبية؛ فاللغة مظهر من مظاهر الأناقة والدقة في الإفصاح، والدين صورة العقيدة التي يحيا بها الناس، والعادات مظاهر لما تأصل من كريم الشمائل والخلال.
فالإنسان المهذب تقوم حياته الأدبية على لسان فصيح، ودين حق، وعادات كريمة، تصل بينه وبين الأقربين من إخوانه في الوطنية، وقد تسمو فتصل بينه وبين الأبعدين من إخوانه في الإنسانية.
2
ونريد في هذا البحث أن نخص كل عنصر من هذه العناصر الثلاثة بشيء من البيان، فنقول:
اللغة في ذاتها شخصية استقلالية، فالذي يعبر بلغته يشعر بالقوة، وتنطبع نفسه على حب الكرامة والاستقلال، ويزيد هذا المعنى وضوحا ما نشعر به حين نضطر ونحن في بلادنا إلى التفاهم مع بعض الأجانب بغير العربية، فإننا حين ذاك نشعر بالتخلف، ونوقن بأن سلطاننا في العالم سلطان ضعيف، فقد يجيء الأجنبي إلى مصر، ثم تمضي عليه الشهور والأعوام بدون أن تقهره الظروف على تعلم العربية، ويكون معنى ذلك أن مصر ليست ملكا خالصا للمصريين، فإن الرجل لا يستطيع أن يتخذ باريس أو لندن أو برلين مقاما بدون أن يتعلم الفرنسية أو الإنجليزية أو الألمانية، ولكنه يستطيع أن يتخذ القاهرة مقاما بدون أن يتعلم العربية؛ لأن في القاهرة عصبيات أجنبية لها مدارس ومكاتب وجرائد ومسارح ومنتديات، ويستطيع الفرنسي أو الإنجليزي أن يعيش فيها سنين عددا وهو لا يتكلم غير الفرنسية أو الإنجليزية، وهو يستطيع بقوته الاستقلالية أن يقهر المصريين على مخاطبته بلغته الأصلية، ثم لا يستطيعون هم أن يقهروه على مخاطبتهم باللغة العربية.
أليس هذا من أنصع الدلائل على أن اللغة في ذاتها شخصية استقلالية؟
لقد كنت آسى كلما تذكرت تقصيري في تعلم الإنجليزية، ثم مرت ظروف حمدت فيها ذلك الجهل؛ لأنه على قبحه كان عنوانا على الشخصية الاستقلالية. وتفصيل ذلك أني أقمت عددا من السنين في باريس، وكنت ألقى فيها ناسا من النمسويين والبولونيين والهولنديين والألمان، فكان يتفق أحيانا أن يجري ذكر اللغة الإنجليزية، فكنت أعلن أني أجهلها كل الجهل، فكانوا يقولون: وكيف يصح ذلك ومصر في قبضة الإنجليز؟ فكنت أجيب: إنكم واهمون، إن مصر ليست في قبضة الإنجليز، وإنما هي ملك لأبنائها الصناديد، واللغة الإنجليزية في مصر لغة أجنبية، يرغب فيها من يشاء، وآية ذلك أني أحمل أكبر الألقاب العلمية، بدون أن أتعلم الإنجليزية.
3
Bilinmeyen sayfa
ومن أمراض الشخصية الاستقلالية في مصر، ما نشهده في المصالح والدواوين من كتابة أسماء الغرف والحجرات بلغة دخيلة تزاحم اللغة القومية، بلا تحرج ولا استحياء، فإن تلك الكلمات تشعرنا دائما بأن لنا في الوطن شركاء، وأن لغتنا لا تملك السيطرة والاستقلال، وقد اتفق أن رأيت في بعض قطارات فرنسا كلمات إنجليزية بجانب الكلمات الفرنسية، فدهشت، ثم سألت عن السر في ذلك، فعرفت أنه لم يقع تلطفا مع الإنجليز، وإنما وقع تألفا للسائحين من الأمريكان، وهو لم يقع إلا في القطارات التي تسيرها الشركات، أما قطارات الدولة فهي كمصالح الدولة، لا تكتب فيها كلمة أجنبية على الإطلاق.
4
قد يقال: وأين نحن من فرنسا؟ ونجيب بأن فكرة الاستقلال خليقة، بأن توحي إلينا التشبه بكرام المستقلين، والذي عرض هذا الموضوع للمباراة لم ينس أن يشير إلى أن للكاتب «مطلق الحرية فيما يبدي من آراء ومقترحات»، وأخشى أن أخون الواجب إن قصرت في تذكير الحكومة بواجبها في الاكتفاء بالكلمات العربية في جميع المصالح والدواوين، ولست أزهد في إرشاد من يفد على دور الحكومة من الأجانب، فأضن عليهم ببعض ما يعرفون من الكلمات، لا، وإنما هي مسألة قومية، لا يفرط فيها إلا من يستهين بما اصطلح عليه الناس من شارات الاستقلال.
ولنفرض أننا نكتب أسماء الغرف والحجرات بكلمات أجنبية لنرشد الأجانب، فكيف يجوز أن نفترض أن الأجانب لا يكونون إلا من الإنجليز؟ إن في الدنيا أمما كثيرة، شرقية وغربية، ولمصر مع الشرق والغرب صلات، فكيف صح عندنا أن الإنجليز هم وحدهم الجاهلون باللغة العربية، وأنهم الخليقون بالعطف والإشفاق؟
ومن المحزن أن هذه البدعة السيئة انتشرت في جميع المدن المصرية، حتى حي الأزهر الشريف، فأمام مسجد الحسين بائع «فول مدمس» زين واجهة المطعم بكلمات إنجليزية.
أتكون الصراحة التي دعانا إليها رئيس الحكومة فرصة لتذكير أولئك الغافلين بأنهم يجرحون القومية ويؤذون الاستقلال!
قلتم: إن التفضيل في المباراة سيكون ل «الرسالة العملية النتائج»، فأسرعوا غير مأمورين بدعوة الموظفين والجمهور إلى احترام اللغة العربية، احتراما يجعلها بلا مزاحم ولا شريك في المصالح والمتاجر والدواوين، ابدءوا أنتم باحترام اللغة في جميع دور الحكومة، وسترون كيف يتبعكم سائر الناس.
5 «اللغة من مقومات الاستقلال؟»
كذلك يقول صاحب الدولة رئيس الوزراء.
إذن ما رأيكم في لغة التعليم؟
Bilinmeyen sayfa
إن التعليم عند المستقلين يجب أن يكون باللغة القومية، لغة الآباء والأجداد، ومن العسير أن نجد في الدنيا أمة مستقلة تصطنع في التعليم لغة أجنبية.
أما مصر العزيزة فقد قسمت إلى مناطق؛ منطقة ضعيفة تسود فيه اللغة العربية، وهي المدارس الابتدائية والثانوية، ومنطقة قوية تسود فيها اللغة الفرنسية، وهي كلية الآداب وكلية الحقوق، ومنطقة أقوى تسود فيها اللغة الإنجليزية، وهي كليات الطب والهندسة والعلوم.
ومناصب التعليم في المدارس العالية أكثرها للأجانب، وهي بلية لا تصبر عليها أمة تسمو إلى كرامة الاستقلال.
إن الأمم الحرة لا تعطي مناصب التعليم غير أبنائها، واللغات الأجنبية ذاتها لا يدرسها الأجانب، وإنما يدرسها الوطنيون، ففي فرنسا مثلا أساتذة اللغات الأجنبية كلهم فرنسيون؛ ومن أجل هذا تملك فرنسا طائفة كبيرة من النوابغ في اللغات الأجنبية، أما في مصر، فيندر أن تجد من يتفوق في لغة أجنبية؛ لأننا نتعلم اللغات لغاية محدودة، هي الاستفادة من المؤلفات، ولو كان لنا مستقبل في تعليم اللغات الأجنبية لتبدل الحال غير الحال، وشعر شبابنا بأن لهم مصالح يخلقها التفوق في اللغات، وكان ذلك حجرا في بناء الاستقلال.
لا أريد أن يجرفني الاستطراد، فلأرجع مسرعا إلى ما كنت فيه، وأنا أقرر أن لغة التعليم في كليات الجامعة المصرية يجب أن تكون العربية، وأقول بصراحة: إن اللغة الإنجليزية لم تسد في كليات الطب والهندسة والعلوم لسبب معقول، إنهم يزعمون أن اللغة العربية تعوزها المصطلحات العلمية، وهذا وهم، أو هو عجز يستر بهذا الوهم المصنوع، فالمصطلحات العلمية لم تكن مما تفردت به الإنجليزية أو الفرنسية؛ وإنما هي ألفاظ، نحتت نحتا من اليونانية واللاتينية، وفي مقدورنا أن نأخذها كما أخذوها، بعد أن نصقلها صقل التعريب، فتضاف إلى اللغة القومية.
6
وتعليم العلوم بلغة البلاد يخلق فينا قوى جديدة، ويدفعنا إلى الترجمة والتأليف، ويرفع عنا إصر الكسل المخجل، الذي يتمتع به أساتذة الكليات، وهو كذلك يرفع عنا هذه الوصمة البشعة، وصمة الفقر في المكتبات، ففي الممالك المستقلة، يرى الإنسان في الأحياء الجامعية مكتبة خاصة بالطب، ومكتبة خاصة بالعلوم، ومكتبة خاصة بالفلسفة، ومكتبة خاصة بالطيران ... وهكذا دواليك، أما في مصر، فلا يجرؤ أحد من الناشرين على إنشاء مكتبة خاصة بعلم من العلوم، وإنما تتجمع العلوم والآداب والفنون والحكايات في مكتبة واحدة، تلتقي فيها قصة القط والفأر بكتاب أرسطو في الأخلاق.
إن فقر مصر في الترجمة والتأليف يقع وزره على رجال الجامعة المصرية، فلو سلكوا مسلك الحزم والجد، وتذكروا أنهم يعيشون في بلد كان وطن المعارف والعلوم، لأقبلوا على لغتهم فاصطفوها، وجعلوها لغة التعليم، وأمدوها بكل طارف وتليد، وتسامت همتهم إلى جعلها لغة الشرق، فعاشوا بفضلها سادة أعزاء.
وفي مقدور سعادة مدير الجامعة أن يشير بهذه التجربة في حزم وجد، وما أظنه يخشى الإخفاق؛ لأن اللغة العربية لها ماض مجيد في الحياة العلمية والطبية، ومن السهل رجعها إلى مجدها القديم، ونحن لا تعجزنا الأصول، وإنما تعجزنا الهمم العاتية، التي تخلق الممالك والشعوب، وليس من الكثير أن نشقى عشر سنين في سبيل تجربة شريفة، نحفظ بها ذكرانا نقية بيضاء على وجه التاريخ.
أقدم يا مدير الجامعة المصرية على هذه التجربة، لتحول أساتذة الكليات إلى طلاب جادين، يشعرون بالعزة كلما تذكروا أنهم يحملون الأحجار لوضع أساس الاستقلال.
Bilinmeyen sayfa
7
إن مصر حين تعلم العلوم باللغة العربية، ستفتح أسواقا جديدة هي أشرف الأسواق، وحسبكم أن تتذكروا أن مصر ستصبح بحق زعيمة الشرق، وستكون مؤلفاتها عمدة الباحثين في المشرقين، فيتغنى بذكرها أهل المغرب والشام والحجاز واليمن والعراق.
أتحسبون أن من القليل أن يكون في الخارج مكاتب خاصة بالثقافة المصرية؟
إن من مجد فرنسا وإنجلترا أن يرى الإنسان في مثل القاهرة مكاتب فرنسية وإنجليزية، وتلك من أظهر علائم السيطرة الأدبية، عند من يتمتعون بنعمة الاستقلال.
إن اللغة العربية من أكبر لغات الشرق، ومصر في هذا الزمان على رأس الحركة العلمية في الشرق، ولا ينقصها إلا أن تجعل العربية لغة التعليم في جميع المعاهد، فتقهر الأساتذة على الترجمة والتأليف، وتسوقهم سوقا إلى اجتذاب الأمم الشرقية باسم الأدب الحق، أدب الفكرة والمنطق والفن الجميل.
كيف ندعي شرف الاستقلال، وليس عندنا معجم واحد يسجل تطور اللغة في العصر الحديث؟
كيف ندعي شرف الاستقلال، وليس عندنا مكتبة طبية أو علمية باللغة العربية؟
كيف ندعي شرف الاستقلال، وآثار مصر نفسها لم ينشر عنها كتاب واف باللغة العربية؟
كيف ندعي شرف الاستقلال، وليس عندنا كتاب في القانون خلت صفحة من صفحاته من سطرين، أو ثلاثة بلغة أجنبية؟
كيف ندعي شرف الاستقلال، ولا يستطيع رجل من علمائنا أن يكتفي في أي بحث بالمصادر العربية؟
Bilinmeyen sayfa
كيف ندعي شرف الاستقلال، وليس عندنا وزير واحد خلت بطاقته من الكلمات الأجنبية؟
كيف ندعي شرف الاستقلال، والمطبوعات الأجنبية هي أكبر محصول في دار الكتب ومكتبة الجامعة المصرية؟
كيف ندعي شرف الاستقلال، وفي القاهرة والإسكندرية مناطق لا تباع فيها غير الجرائد الأجنبية؟
كيف ندعي شرف الاستقلال، وفي الدواوين أقلام لا تدون ملفاتها بغير الإنجليزية؟
كيف ندعي شرف الاستقلال، ولغتنا منسية في معاهدنا ومدارسنا ومكاتبنا؟ وأخشى أن أقول إنها منسية في دور الوزراء والأمراء وأكثر المتحذلقين من أبناء الزمان؟
إن مدير الجامعة مسئول أمام الوطن، وأمام التاريخ عن هذا البلاء، وفي يده أن يكشف هذه الغمة، وأن يجعل لغة البلاد لغة الدرس والتأليف في جميع الكليات. نعم، يستطيع الأستاذ الجليل أحمد لطفي السيد باشا، أن يجمع أبناءه المخلصين، من أساتذة الجامعة المصرية، ويفرض عليهم اصطناع اللغة العربية في جميع المواد، وعلى الضعيف أو المتخلف أن يستقيل، فإن مصر تعاني أزمة تقض المضاجع؛ لأنها مستقلة رسميا، ولكنها محرومة من أشرف مظاهر الاستقلال.
أريد أن أعرف ما الذي يقهرنا على هذه التبعية العلمية للإنجليز والفرنسيس؟
إن اللغة الفرنسية ليس لها إلا سلطان ضئيل في كلية الحقوق وكلية الآداب، أما اللغة الإنجليزية فتطغى، وتستطيل في كليات الطب والهندسة والعلوم، وما أذكر أن هذا الطغيان كان من التحفظات المشهورة في التاريخ.
لنا عذر واحد: هو الكسل المعسول، الذي ينعم به الخامدون.
ولكن هل يعجز مدير الجامعة عن استئصال هذا الداء؟
Bilinmeyen sayfa
إن الوطن ينتظر منه هذه اللفتة؛ لفتة الوالد الحازم الذي يخشى على بنيه من انهزام العزائم وانحلال الطباع.
8 «إن اللغة من مقومات الاستقلال.»
كذلك يقول دولة رئيس الوزراء.
وهذا والله صحيح، ألم تروا كيف يحرص الغاصبون على نشر لغاتهم؟ إن فرنسا في مستعمراتها تنشر اللغة الفرنسية، وإنجلترا في مستعمراتها تنشر اللغة الإنجليزية، وإيطاليا في مستعمراتها تنشر اللغة الإيطالية.
فإذا كان الغاصبون يرون نشر لغاتهم من مؤيدات الاحتلال، أفلا يرى الوطنيون نشر لغتهم من مؤيدات الاستقلال؟
رحمة الله على ألفونس دوديه، فما تذكرت كلمته عن «الدرس الأخير» في «الألزاس» إلا ثارت نفسي، وتجدد إيماني بأن حفظ اللغة هو الأساس في حفظ الاستقلال، ونحن خليقون بأن نأخذ الدرس من غاصبينا؛ لأنهم أساتذة في علم النفس، وإليهم المرجع في تصريف الشعوب.
اللغة - كما قلت لكم - شخصية استقلالية، وهي وحدها من أهم مظاهر الاستقلال، فعضوا عليها بالنواجذ، إن كنتم تعقلون.
9
وما أحب أن تضيع هذه الفرصة بدون أن أذكر سعادة مدير الجامعة المصرية بمسألة خطيرة، تمس الاستقلال، وتلك هي مسألة الرسائل التي تقدم لنيل الدرجات الجامعية.
إن الرسائل التي تقدم لامتحان الدبلوم والدكتوراه يجب دائما أن تكون باللغة القومية، ففي جامعة باريس مثلا، لا تقبل الرسالة الأساسية بغير اللغة الفرنسية، ولو كانت في موضوع يتصل بإحدى اللغات الأجنبية.
Bilinmeyen sayfa
أما في مصر، فالأمر بالعكس، تقدم الرسالة إلى الجامعة المصرية بأي لغة أجنبية بدون اعتراض، ولو كانت في صميم الآداب العربية، أو الشريعة الإسلامية، وهي حين تقدم بالعربية يجب أن تكون مصحوبة بخلاصة فرنسية أو إنجليزية، ولو كان أعضاء الامتحان جميعا مصريين.
وقد قاومت هذه البدعة مرات كثيرة في جريدة البلاغ؛ لأن كلية الحقوق جرت في تقاليد الامتحانات العالية على إيثار تقديم الرسائل بلغة أجنبية، واتفق لها مرة أن قبلت رسالة كتبت باللغة الفرنسية عن الدية في الشريعة الإسلامية.
تذكروا أنكم دعوتمونا إلى تقديم ما نشاء من الآراء والمقترحات، فإن كنتم جادين فيما دعوتم، فنحن جادون فيما نقترح، ونحن نرى تقديم الرسائل إلى الجامعة بلغات أجنبية ينافي الحرص على مقومات الاستقلال.
قد تقولون: إنكم تريدون التعرف إلى الجامعات الأجنبية. ونحن نقول: إن لهذا التعرف وسائل كثيرة ، فاختاروا منها ما شئتم، إلا هذه الوسيلة التي تعلن تبعيتكم لثقافة الإنجليز أو الفرنسيس.
أنا أدعو إلى تعديل هذه الفقرة من لوائح الجامعة المصرية، وأوصي بجعل اللغة العربية لغة الرسائل العلمية والأدبية والتشريعية التي تقدم لنيل الدرجات الجامعية.
أترون في هذا الاقتراح شيئا من الشطط؟!
إن سعادة مدير الجامعة يعرف أني على حق، وإلى رأيه الموفق أكل تحقيق هذا الاقتراح النبيل.
10
ولكن ما هي اللغة التي تعد من مقومات الاستقلال؟
أهي اللغة المخدرة التي لا ترى الشمس، ولا يعرفها غير عشاقها المعدودين من كبار الكتاب؟ أهي تلك اللغة الهيوب التي تتعثر في كل حرف، وتسقط في كل فقرة، ويختلف من حولها العلماء في الصباح والمساء!
Bilinmeyen sayfa
إننا نريد «لغة من لغات المدنية» نريد لغة يفهمها الفلاح والملاح والنجار والبناء، نريد لغة سخية تسعد أبناءها جميعا بغير حساب، نريد لغة تجمع بين التواضع والجبروت، يرى فيها العوام ما يشاءون من البساطة والجمال، ويرى فيها الخواص ما يريدون من السمو والتحليق، نريد لغة مبذولة على نحو ما يبذل الضوء والهواء، يأخذ منها كل إنسان ما يناسب عينيه ورئتيه، وأنا بهذا أدعو إلى الديموقراطية اللغوية، أدعو إلى تيسير اللغة تيسيرا يقربها من جميع القارئين والسامعين، أدعو إلى القصد في احترام الألفاظ القاموسية، وأشير باحترام ما اصطلح عليه الناس من الألفاظ في مختلف الفنون.
ولن تكون اللغة العربية «لغة مدنية» إلا يوم تصبح أداة التفاهم بين جميع الطبقات، ويوم تحترم جميع الألفاظ الاصطلاحية، فترفع تلك الهيبة السخيفة التي يعانيها كل تلميذ يكلف موضوع إنشاء.
وأنا أقترح أن يتصل المؤلفون بالقراء، على نحو ما يتصل الأساتذة بالطلاب، فإن ذلك ينفع أجزل النفع، في تعريف المؤلفين بما يأخذون، وما يدعون، فقد رأيت العجب في حياة التدريس، وعلمت علم اليقين، أن التلاميذ يتهيبون اللغة، ويذهبون ضحية الحذلقة التي يلمسون آثارها فيما يقرءون وما يسمعون.
لقد كنت أجد من بين تلاميذي من يدنو مني في درس الإنشاء ويهمس: يا أستاذ، هل يصح أن أقول: «مشيت وحدي.» - نعم يا بني ، تستطيع أن تمشي وحدك بلا معين.
وكنت أجد من يقول: يا أستاذ، هل «خرجت» كلمة فصيحة؟
نريد أن يقبل الأساتذة والمؤلفون على التلاميذ والقراء، فيفهموهم أن الإفصاح أيسر مما يظنون، نريد أن يفهم الجمهور أن الإفصاح ليس وقفا على المتحذلقين من أساتذة الأزهر ودار العلوم وكلية الآداب.
وأنا مع هذا أومن بأن في كل لغة نوعا من الأرستقراطية الأدبية، ولكني أنكر أن تكون لغتنا في كل مناحيها لغة أرستقراطية، لا يفهمها حق الفهم غير الخواص.
اذهبوا إن شئتم إلى مدينة مثل باريس، وانظروا كيف تنشر على الجماهير بعض الفقرات من خطب الوزراء؛ رحمة الله على تلك الليالي حين كنت أنظر أقوال هريو ودلادييه منشورة بأحرف من نور في أكثر الميادين، وهي في بساطة تذكر بتعابير الأطفال.
اقرءوا إن شئتم مؤلفات أناتول فرانس؛ ذلك الكاتب الفحل الذي حول الفرنسية إلى أحاديث حلوة عذبة لا يدق معناها على أحد من سواد الناس.
إن «البيان» الذي سمعتم عنه لا يعرفه إلا الأقلون من كتاب هذا الزمان، وإلا فأين الكاتب الذي استطاع أن يصل بقلمه اللعوب إلى أفئدة الجماهير من أهل الريف؟
Bilinmeyen sayfa
وعلى من يقع وزر هذه النكبة الوطنية؟
يقع وزرها على الأساتذة والمؤلفين، فهم الذين ملئوا أذهان الناس بالوسوسة اللغوية، وحرموهم نعمة الفهم الصحيح.
نحن نريد لغة تشبه لغة القوانين والمعاهدات، نريد لغة محددة الألفاظ، واضحة المعاني، نريد لغة موحدة يخاطب بها جميع الناس بلا تردد ولا تهيب، وهذه اللغة المنتظرة يجهد في خلقها كتاب الصحف اليومية الذين عرفوا بالتجربة أن لهم «زبائن» في جميع البيئات.
11
ويتصل بهذا الغرض إصلاح الرسم، وأنا أدعو إلى التفكير في اختراع حروف جديدة مشكولة، فإن الرسم الذي نكتب به ناقص أبشع النقص، ولن نصل إلى تحرير اللغة من اللبس إلا يوم نطمئن إلى أن الجماهير المختلفة تنطق الكلمات على نمط واحد، فقد اتفق لي مرات كثيرة أن أعدل عن كلمة إلى أخرى خوفا من اللبس الذي يوجبه فقد الشكل، ولو كنت أجد حروفا مشكولة في مثل مطبعة البلاغ لوصلت في الإفصاح إلى ما أريد.
والذي أعانيه من هذا الجهد يعانيه جميع الكتاب، والمهم في هذه المسألة هو إيجاد حروف مشكولة مع القصد في صناديق الحروف، فإن الشكل ليس بمستحيل، ولكنه غير مستطاع في الجرائد بسبب تعدد الصناديق وازدياد نفقات الجمع، وتستطيع الحكومة أن تقيم «مباراة خطية» عسانا نجد من يخترع لنا حروفا مشكولة لا يزداد بها عدد الصناديق.
ولتوضيح هذه المسألة أقول:
إن لحرف الفاء مثلا أربع صور هي: ف، ف، ف، ف.
ولو وضعنا لكل صورة ثلاث حركات لاحتجنا إلى اثنتي عشرة صورة لكل حرف، وبذلك تتعدد الصناديق، وتحتاج كل مطبعة إلى مضاعفة عدد الصفافين، وذلك عبء ثقيل.
وأنا بكل جرأة أدعوكم إلى توحيد الحروف، أدعو إلى الاكتفاء بصورة واحدة لكل حرف، فيكون له وضع واحد في أول الكلمة وفي الوسط وفي الطرف، ثم يصب من كل حرف ثلاثة أشكال فيها الكسر والضم والفتح، مع الاستغناء مؤقتا عن حركات الإعراب.
Bilinmeyen sayfa
وهذا الاقتراح يبدو غريبا لأول وهلة، لأنه يذهب بشيء من جمال الخط العربي، ولكن جمال الخط القديم لن يساوي ما نظفر به من الدقة والتحديد في الخط الجديد.
قد تقولون: إن هذا الاقتراح سيوجب أيضا زيادة الصناديق، وأجيب بأنها زيادة قليلة بالقياس إلى الزيادة المخوفة، التي يرهقنا بها اصطناع الشكل الكامل في الخط القديم.
على أنه لا مفر من التفكير في إصلاح الرسم؛ لأن البدعة التركية في اصطناع الحروف اللاتينية، ستلاحقنا بلا ريب، فإن لم نتدارك الأمر منذ اليوم، فسيكون لشبان الجيل المقبل آراء في استحسان ما صنع الأتراك.
فإن لم تفعلوا - وأرجو أن تفعلوا - فإني أخشى أن يكون مصير الخط العربي مصير أتعس السمكات الثلاث!
12
ولكن كيف السبيل إلى تقريب اللغة العربية من قلوب الناس؟
إن اللغة العربية لا يعرفها أهلها؛ لأن المؤلفات الحديثة خالية من الجاذبية في أكثر الأحوال، والمؤلفات القديمة مهجورة، لا أنصار لها، ولا أشياع، وآية ذلك أن مكتبة الأزهر يندر أن يفد إليها أحد من المطالعين، ومكتبة زكي باشا لم تجد من يقرؤها في قبة الغوري غير جماعة الفيران!
والناشرون في القاهرة لا تعيش مكتباتهم إلا بفضل زبائنهم في مختلف الأقطار العربية، أما الإسكندرية فأمرها عجب، ومن كان يظن أن تلك المدينة العظيمة ليس فيها مكتبة واحدة مصرية تضارع بعض ما فيها من المكتبات الأجنبية؟
وكذلك يقال في بور سعيد وأسيوط وأسوان.
وخلاصة القول: إن اللغة العربية - لغة التأليف - ليس لها في مصر قراء، وهذا عيب يمس كرامة الاستقلال.
Bilinmeyen sayfa
إن الشاب الفرنسي يقرأ في كل سنة نحو ستين كتابا، فكم كتابا يقرأ الشاب المصري؟ اسألوا أنفسكم عما تذكرون من المؤلفات الحديثة، أو القديمة التي توصون بقراءتها من يستفتيكم من الشبان، لقد قضيت في مهنة التعليم نحو عشرين سنة، واختبرت ألوفا من التلاميذ في المدارس المصرية والأمريكية والفرنسية، وكنت أحض الطلبة على القراءة والاطلاع، وكان الطلبة يسألون: ماذا نقرأ؟ وأقسم صادقا إني لم أوفق مرة واحدة إلى الجواب؛ لأني لا أجد ما أوصي بقراءته غير عدد يسير جدا من المصنفات، لا يفتن ولا يشوق.
إن التأليف في مصر مشلول بالرغم من طنطنة المؤلفين، والأمة التي تعجز عن تثقيف أبنائها لا تعرف مقومات الاستقلال.
ينبغي أن يكون في مصر مؤلفات لكل جمهور، وفي مصر نحو عشرة جماهير مختلفة المشارب والأذواق، فما الذي صنع كبار المؤلفين لتغذية تلك المشارب والأذواق؟
على أن من التعسف أن نلقي اللوم كله على المؤلفين، فهذه الجماهير مسئولة أيضا عن كساد التأليف، إن هذه الجماهير لا تعرف المكتبات العمومية أو الخصوصية، وأنت في الأغلب تقول في سبيل التعريف: إن المكان الفلاني قريب من المحافظة، قبل أن تقول: إنه قريب من دار الكتب المصرية.
فما السبيل إلى تشجيع التأليف، وخلق ذوق القراءة والاطلاع؟
لنبدأ بالموظفين الذين ننفق عليهم نصف الإيراد.
إن جمهور الموظفين لا يقرأ، ولا يهمه أن يقرأ، مع أنهم يمثلون الجمهور النظيف، فإن كنتم في ريب من هذا الحكم الصارم، فانظروا مصير أهم المؤلفات، فإن أعظم كتاب في مصر لا يطبع في كل مائة سنة أكثر من مرتين ، أكان يصح ذلك لو كان الموظفون من عشاق القراءة والاطلاع وهم يعدون بالألوف؟
قد تقولون: إنهم يعوضون ما ينقصهم بالاطلاع على الجرائد والمجلات، وهذا أيضا غير صحيح، فالموظفون - في الأغلب - منقطعون عن الحياة الأدبية، وقد يلقاني الرجل منهم فيوجه إلي أسئلة عن ناس لا يعرف أن صلتي بهم انقطعت منذ سنين، وقد اتفق منذ أيام أن أرسل إلي أحد كبار الموظفين خطابا على كلية الآداب، مع أني فارقت تلك الكلية منذ أشهر طوال، ونشرت عن بعض خصومي فيها أكثر من عشر مقالات، وكنت أظن أن مثل هذا الحادث يصل صداه إلى جميع الآذان.
هذا عيب من عيوبنا، فلندمغه غير هائبين.
13
Bilinmeyen sayfa
ولكن ما هو العلاج؟
أنا أقترح أن تؤلف في وزارة المعارف لجنة خاصة بتشجيع التأليف، تكون مهمتها فحص ما يصدر من المؤلفات لتختار ما يجب أن يقتنيه الموظفون، وفي هذه الحال أقترح أن تخصم الحكومة عشرة قروش في كل شهر من كل موظف، وتقدم إليه في كل سنة خمسة كتب أو ستة من جيد المصنفات.
ولو تحقق هذا الحلم لخلقنا في الجماهير المصرية ذوق القراءة والاطلاع؛ لأن الموظفين في مصر لهم إخوان وأبناء، وهم سيعدون بهذا المرض الجميل من يتصل بهم من سواد الناس.
قد تقولون: وبأي حق نقطع في كل شهر عشرة قروش من مرتب كل موظف؟
وأنا أعترف بأن في هذا حجرا على الحرية الشخصية!
ولكن مصر في هذه السنين تحتاج إلى مثل هذه التدابير، فنحن قوم حديثو عهد بالاستقلال، وللاستقلال مقومات على رأسها اللغة كما تعلمون.
إن اللغة لا تراد لذاتها، وإنما يقصد بها التعليم والتثقيف، ونحن في مصر نحتاج أشد الاحتياج إلى المصلح المستبد الذي يسوقنا سوقا إلى موارد العلوم والآداب والفنون.
أتذكرون ما صنع مصطفى كمال حين حرم لبس الطرابيش؟
لقد عطل نحو عشرة ملايين من الطرابيش كانت تقوم بألوف الجنيهات؛ لأنها لم تعوض إلا بمقادير عظيمة من القبعات.
وأنا لا أدعوكم إلى تبديد قروش الموظفين، وإنما أدعوكم إلى تجميل بيوتهم بنفائس المؤلفات ... أقدموا على هذه المحاولة الشعرية، فإن فعلتم، فستذكرونني ما عشتم بالخير الجزيل.
Bilinmeyen sayfa
14
وبجانب هذا الاهتمام بالتكوين الأدبي لجمهور الموظفين، يجب أن نهتم بالتكوين الأدبي لجمهور الشبان، ولا سيما تلاميذ المدارس الثانوية.
وأنا أقترح إلغاء دروس تاريخ الأدب في تلك المدارس؛ لأن تاريخ الأدب لا يفهم إلا بعد درس الأدب، وأكاد أوقن بأن دراسة تاريخ الأدب في المدارس الثانوية ليست إلا ضربا من تضييع الوقت، وإجهاد العقول بلا غناء، وهذا الحكم الصارم لا يؤمن بعدالته إلا من عانى تدريس تاريخ الأدب في المدارس الثانوية، وأنا عانيته نحو عشر سنين، وعرفت ما فيه من البلاء الذي يصب على رءوس الطلاب بغير حساب.
ومن البلية ألا تقدم وزارة المعارف لطلبة المدارس إلا كتابا ألفه جماعة لم يعرف أكثرهم عقلية التلاميذ في المدارس الابتدائية ولا الثانوية، ولا دروا كيف يكون الرفق في مهمة التدريس، وإن كانوا من أعلام الزمان، وكان من العجب أن يفرض على طلبة السنة الثالثة أن يدرسوا تاريخ الأدب كله من عهد امرئ القيس إلى عصر حافظ إبراهيم، وهي دراسة سينمائية، لا يرضى عنها رجل يعرف مهنة التعليم.
وقد خفف البرنامج أخيرا بعض التخفيف، ولكنه لا يزال غير صالح، وإلا فكيف تنتظر من تلاميذ السنة الأولى في المدارس الثانوية أن يدركوا الفرق بين كاتب يغرم بالبديع، وآخر لا يتكلف البديع، وقد عرضت لي هذه المشكلة مع طلبة الليسيه فشرحتها مرات بالعربية ومرات بالفرنسية، ثم صدفت عنها صدوف اليائسين.
إن درس تاريخ الأدب بدعة نقلناها نقلا عن أوروبا، وهي مقبولة هناك؛ لأن الأدب الأوروبي يكثر فيه القصص والتمثيل، وهي موضوعات ألفها التلاميذ؛ لأنهم منذ الطفولة عرفوا القصص وعرفوا التمثيل، فلا يصعب عليهم أن يفهموا الفرق بين فن وفن، وعصر وعصر، وأسلوب وأسلوب.
أما في مصر، فالأدب في جملته يتحدث عن شئون جدية لم يعرفها الشبان من قبل، فمن العسير أن يدركوا كيف تطور واستحال من جيل إلى جيل.
إن تاريخ الأدب لا ينبغي أن يدرس إلا في المعاهد العالية، أما المدارس الثانوية فيدرس فيها الأدب الصرف، مع العناية بشرح النصوص، والبحث عن مواطن الجمال في النثر الجيد والشعر البليغ.
15
درس تاريخ الأدب في المدارس الثانوية جهد ضائع، وسنصبر عليه إلى أن تسوق المقادير إلى وزارة المعارف رجلا حاذقا من بين الذين عرفوا عقلية التلاميذ، وما أظن أننا سنصبر طويلا؛ لأن العناية بإصلاح التعليم تزداد من يوم إلى يوم.
Bilinmeyen sayfa
وإلى أن تحذف تلك المادة الفضولية نوصي أساتذة اللغة العربية بأن يتخيروا للمطالعة، والمحفوظات نصوصا لا تخرج عن العصر الحديث؛ لأنه أقرب العصور إلى أذهان التلاميذ، وقربه من أذهانهم يساعد المعلمين على بيان ما يتصل به من الملابسات الخلقية والاجتماعية، ويمكن التلاميذ من فهم ما فيه من أسرار البيان.
قلتم إن اللغة من مقومات الاستقلال.
فما الذي يمنع من تعريف التلاميذ بالمصاولات الأدبية، التي تتصل بالحياة السياسية؟
ما الذي يمنع من دراسة ما وقع بين رجال الأحزاب؟
ما الذي يمنع من دراسة المناوشات الحزبية التي عرفتها مصر في الثلاثين عاما الماضية؟
ما الذي يمنع من درس ما وقع بين كبار الكتاب من صنوف الجدل وضروب النضال؟
ما الذي يمنع من درس السخرية التي عاناها محمد عبده من معاصريه؟
ما الذي يمنع من درس رسائل عبد العزيز شاويش في نقد سعد زغلول؟
ما الذي يمنع من تقليب الصحف الفكاهية، ودرس ما فيها من النكت اللواذع التي صوبت إلى رجال الأحزاب؟
ما الذي يمنع من درس وطنيات حافظ؟
Bilinmeyen sayfa
بل ما الذي يمنع من درس المنشورات التي طبعت في سنة 1919؟
إنني أوصي بخلق الفرص لتشويق التلاميذ إلى درس الأدب الذي يحيي النزعة القومية، ويبعث فيهم روح الشوق إلى حياة الاستقلال.
أقول هذا، وأنا أعلم أن ما أوصي به آت لا ريب فيه، ولكن من الخير أن يعلم أبناؤنا أننا نفكر بعقول المستقلين، وأننا لا نمزح حين نتكلم عن مقومات الاستقلال.
16
ذلك ما نوصي به في التعليم الثانوي، فإذا انتقلنا إلى التعليم العالي، فرضنا على أبنائنا أن يتعمقوا في درس تاريخ الأدب العربي، ورضناهم على تذوق النصوص المختلفة، وانتظرنا منهم أن يكونوا من أعلم الناس بالأدب والتاريخ.
وفي هذه الحال لا يرضيني أن يكتفي أستاذ الأدب بالطواف حول حياة الكاتب أو الشاعر أو الخطيب؛ بل يجب أن يهتم بدرس الصلات بين الأدب والاجتماع، وأن يغري تلاميذه بخوض الحياة - حياة الجد والاقتحام - فتكون لهم مواقف يسجلها التاريخ، على نحو ما اتفق لأقطاب الأدب في العصر القديم.
والأستاذية في مثل هذه الأحوال توجب أن يكون رجال الأدب رجال أعمال، فقد شبعنا من تلك الشخصيات المصقولة، التي تحسن الأسمار والأحاديث، نريد أساتذة مقتحمين مغامرين يشتركون في الحياة النيابية، ويتصلون بأمتهم وتلاميذهم اتصالا قويا له أسباب وأوتاد من حياة المجتمع اللاجب الصخاب.
17
فإذا انتقلنا من الأدب، وتاريخ الأدب في المدارس الثانوية والعالية، تلفتنا نبحث عن الأديب المخلوق لدرس الحياة، ونحن نرجو أن يكون في أساتذة الأدب من يخرج على الذوق المتكلف والوقار المصنوع، نرجو أن يكون عندنا أساتذة يزورون تلاميذهم في بيوتهم، ويرافقونهم في الحفلات والسهرات، ويطوفون بهم على الأحياء الشعبية ليعلموهم كيف تكون الثورة على ما في حياة الشعب من بؤس وشقاء.
نريد أساتذة يربون تلاميذهم على مرافقة العمال والصناع والفلاحين؛ ليكونوا في المستقبل من حملة الأقلام النورانية التي تبدد غياهب الجهل والخمول.
Bilinmeyen sayfa
نريد أدبا يبعث في الشعب روح التمرد على الفقر والمسكنة والذل، ويروضه على الطمع الشريف في الغنى والكسب والعزة والكبرياء.
نريد أدبا يطمعنا في استرجاع ما أضاع الزمان من مجد مصر والنيل.
نريد أدبا يرفعنا إلى صفوف الجوارح، نريد أدبا يعلمنا فضل المخلب والناب، نريد أدبا نسيطر به على الدنيا غير باغين ولا عادين.
18
ولن تكون اللغة من مقومات الاستقلال إلا حين تسود في وطنها سيادة قاهرة، فتسيطر على العقول والمشاعر والأذواق، ولا يتم لها ذلك إلا يوم يقوى أدبها ويستفحل، فيشغل الناس بدرس قلوبهم وأهوائهم وأخلاقهم، ويكون له شعراء وكتاب ومحدثون يغزون القصور والأكواخ، ومن الحزم أن نشير إلى وجوب العناية بتربية الشبان على حب وطنهم في ماضيه وحاضره، ولا يكون ذلك إلا بقهر الأدب على تصوير ما مر بمصر من نعماء وبأساء، وما شهدته من أنوار وظلمات، وما يساورها من مخاوف، أو يداعبها من آمال.
يجب أن يوجه الأدباء عنايتهم إلى خلق بيئة أدبية، يكون جدها وهزلها متصلا بحياة الوطن كل الاتصال، يجب أن تكون أحزاننا وأفراحنا، وإسفافنا وتحليقنا، وضلالنا وهدانا، وآلامنا وآمالنا مصورة فيما ننشئ من الرسائل، وما ننظم من القصائد، وما نكتب من المؤلفات، وما نتغنى به من الأناشيد.
إننا لا نحب وطننا أصدق الحب؛ لأن غرامنا به لم يشبه شيء من التصوف والروحانية، وكان ذلك لأن الشعراء لم يخلقوا في قلوبنا ذلك الحب، وكيف يخلقونه وقد غفلوا عن الإشادة بما انتثر من معالم الحب والمجد على ضفاف النيل؟
لقد جلست لحظة منذ أيام في ذهبية، ثم مرت سفينة فانتشيت، أتعرفون السبب؟ لقد طاف بالخاطر حراقات دجلة والفرات التي تغنى بها شعراء العراق.
أكنت أقاسي هذه الغربة الروحية لو أن شعراءنا شوقونا إلى سفائن النيل؟
أتذكرون قول الشاعر العراقي:
Bilinmeyen sayfa
يا ليت ماء الفرات يخبرنا
أين استقلت بأهلها السفن
إن هذا البيت أمة من الشعر الجميل، وكان مما يحفظ جميع أهل العراق، فهل تذكرون شاعرا مصريا حبب إلينا النيل على نحو ما فعل ذلك الشاعر في تمجيد الفرات؟
أين مآسينا، أيها الشعراء؟!
أين القصائد التي تصور ما عانته مصر يوم حريق الفسطاط؟
أين الشعر الذي يمثل مذبحة المماليك؟
أين القصص التمثيلية التي ترينا أشباح الليالي السود حين انهزم الجيش المصري في الموقعة التي لم يجف دمها إلى اليوم؟
أين القصائد والرسائل التي تصور عيوبنا الأخلاقية، وقد عانينا صنوف البلايا والأرزاء من شيوع المحسوبية والتزلف والنفاق؟
وأين مواسمنا الغر أيها الأدباء؟
أين القصائد والرسائل والخطب والمؤلفات التي تفصح عن عبقريتنا في مقاومة الخطوب؟
Bilinmeyen sayfa
إن صبر الجيش المصري على منازلة الجيش الإنجليزي في معركة فاصلة دامت ثلاث عشرة ساعة هو في ذاته نصر مبين، ولكن أين من يفهم دقائق المعاني في حياة الشعوب؟
دلوني على كاتب واحد استطاع أن يخلق في قومه الشعور بأنهم يعيشون في وطن نبيل؟
دلوني على كاتب واحد عمد إلى الجوانب القوية من زعمائنا وقادتنا في القديم والحديث، فأفصح عنها إفصاحا يجعلها مضرب الأمثال في المشرق والمغرب، على نحو ما صنع كتاب الإنجليز والفرنسيس والطليان والألمان؟
أيها الناس:
إن اللغة لا تكون من مقومات الاستقلال إلا يوم تشغلنا بمخاوفنا وأمانينا، ويوم تصبح من القوة بحيث يكون لها عشاق في المشرق والمغرب، ويوم تطغى في وطنها وتستطيل فلا يكون لها مزاحم ولا منافس ولا شريك.
وخلاصة القول: إن اللغة لا تكون من مقومات الاستقلال إلا يوم يشعر الناس جميعا بأن لها في وطنها سلطانا دونه كل سلطان، يوم يشعر من يدخل ميناء الإسكندرية أو بور سعيد أنه في حاجة إلى مترجم، وأن مصالحه تعطل إن جهلها كل الجهل، على نحو ما يقع لكل وافد يطأ الأرض الفرنسية أو الإنجليزية أو الألمانية.
وأول ما يجب لتحقيق ذلك هو إعزاز اللغة في أنفس أبنائها، وهي لا تعز في أنفسهم إلا حين تغنيهم أو تكاد تغنيهم عن جميع اللغات، حين تصبح لغة العلم والمدنية، فيجد فيها كل طالب ما يسعفه من المراجع في العلوم والفنون والآداب.
لا تكون اللغة من مقومات الاستقلال إلا حين تفي بأغراض الجد والهزل، وتربط أبناءها بماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم أوثق رباط، وسيكون هذا مصير اللغة العربية في مصر إن صحت العزائم وسلمت النفوس.
وهذا أمل ليس بالبعيد، فلا تحسبوني من الحالمين.
19
Bilinmeyen sayfa