لا يمر يوم دون أن تستقبل القرافة ضيوفا جددا، وكأن لم يبق لك من غاية إلا أن تقبع وراء الشيش لترى الموت في نشاطه الدائب، والمشيعون أحق بالرثاء، يذهبون في جموع باكية، ثم يعودون وهم يجففون الدموع ويتحادثون، وقوة أقوى من الموت نفسه هي التي تقنعهم بالبقاء، هكذا دفن الذاهبون من أهلك؛ عم مهران الكهل الطيب، بواب عمارة الطلبة، العمل والقناعة والأمانة، وقد اشتركت معه في الخدمة منذ الطفولة، ورغم البساطة والفقر كانت الأسرة تفوز في ختام يومها بجلسة هنية في الحجرة الأرضية بحوش العمارة، الرجل وامرأته يتحادثان والطفل يلعب. ولإيمانه بالله اعتنق الرضى، وكان الطلبة يحترمونه، ونزهته الوحيدة كانت في الحج إلى بيت الشيخ علي الجنيدي، وعن طريقه عرفت أنت بيت الشيخ .. يا سعيد، تعال معي، سأدلك على رياضة هي خير من اللعب في الحقل، ستذوق لذة العيش في جو البركة، بهذا يطمئن قلبك، وطمأنينة القلب هي خير زاد في الدنيا. وتلقاك الشيخ بنظرة عامرة بالحنان، فأعجبت أيما إعجاب بلحيته البيضاء، وقال يخاطب أباك: «هذا ابنك الذي حدثتني عنه؟ النجابة في عينيه، قلبه أبيض كقلبك، وستجده إن شاء الله من الطيبين.» والحق أنك أحببت الشيخ علي الجنيدي جدا، فتنتك وضاءة وجهه وإشعاع المحبة المنبثق من عينيه، كذلك أعجبتك الأنغام والأناشيد، فلعبت بأوتار قلبك حتى قبل أن يهذبه الحب. وقال له عم مهران يوما: «علم هذا الغلام ماذا يجب عليه أن يفعل.» فأجاب الشيخ وهو يحنو عليك بنظرة: «نحن نتعلم من المهد إلى اللحد، ولكن يا سعيد، ابدأ بأن تحاسب نفسك، وليكن في كل فعل يصدر عنك خير لإنسان!» واتبعت قوله على قدر استطاعتك، ولكنك لم تحققه على أكمل وجه إلا حين احترفت اللصوصية! وتتابعت أيام كالأحلام، ثم اختفى عم مهران الطيب، اختفى الرجل على نحو لم يفهمه الغلام، وبدا الشيخ علي الجنيدي نفسه عاجزا أمام اللغز، «يا بؤسك .. يا بؤسنا .. مات أبوك!» هكذا صاحت أمك وهي تصوت، وأنت تهز رأسك وتدعك عينيك لتفيق من النوم بعد أن أيقظك صراخها في الحجرة الأرضية بعمارة الطلبة، وبكيت فزعا لأنه لم يكن في وسعك أن تفعل شيئا، ولكن تجلت في تلك الليلة شهامة رءوف علوان، الطالب بكلية الحقوق؛ كان شهما في جميع الأحوال، وكنت تحبه كما تحب الشيخ علي الجنيدي وأكثر، وهو الذي سعى فيما بعد إلى أن تحل مكان أبيك في خدمة العمارة، أو أن تحل أنت وأمك في مكان أبيك وهو الأصدق، فنهضت بالمسئولية في سن مبكرة، ثم اختفت أمي، وكدت تهلك بسبب مرضها، كما لا بد أن يذكر رءوف علوان، ويوم النزيف الذي لا ينسى، يوم طرت بها إلى أقرب مستشفى، مستشفى صابر الذي تقوم كالقلعة وسط حديقة غناء، وجدت نفسك أنت وأمك في قاعة استقبال عند المدخل، فخيمة بدرجة لم تجر لك في خيال، وبدا المكان كله وكأنما يأمرك بالابتعاد، ولكنك كنت في مسيس الحاجة إلى إسعاف، إسعاف سريع، ودلوه على الطبيب الشهير وهو خارج من غرفة، فجرى إليه بجلبابه وصندله صائحا: «أمي ... الدم ...» فتفحصه الرجل بعينين زجاجيتين مستنكرا، ومد بصره إلى حيث استلقت الأم على مقعد وثير بثوب كالسخام، وثمة ممرضة أجنبية كانت تراقب ما يجري عن كثب، فبإزاء ذلك اكتفى بالاختفاء صامتا، ورطنت الممرضة بلغة لم يفهمها، ولكنه شعر بأنها تشاركه بعض مأساته، وغضب غضبة رجل رغم حداثة سنة، صاح محتجا لاعنا، ورمى بمقعد إلى الأرض فأحدث دويا، وتطايرت قشرة مسنده، وجاء خدم كثيرون، وما لبث أن وجد نفسه وأمه وحيدين في الطريق المسقوف بالأغصان، وعقب شهر من هذا الحادث ماتت الأم في قصر العيني، وطيلة احتضارها ظلت قابضة على يدك، وتأبى أن تحول عنك عينيها، غير أنك في غضون شهر المرض سرقت، لأول مرة، سرقت طالبا ريفيا من نزلاء عمارة الطلبة، واتهمك الطالب دون تحقيق، وانهال عليك ضربا حتى جاء رءوف علوان فخلصك من قبضته، وسوى المسألة بلا مضاعفات، كنت إنسانا حقا يا رءوف، وفضلا عن ذلك كنت أستاذي أيضا، وحين خلا إليك قال لك بهدوء: لا تخف، الحق أني أعتبر هذه السرقة عملا مشروعا! ولكنه استدرك محذرا: ولكنك ستجد البوليس لك بالمرصاد، وقال لك أيضا ساخرا: ولن يتسامح القاضي معك مهما تكن بواعثك مقنعة، فهو أيضا يدافع عن نفسه، ثم تساءل بالسخرية نفسها : أليس عدلا أن ما يؤخذ بالسرقة فبالسرقة يجب أن يسترد؟ ثم هتف غاضبا: إني أتعلم بعيدا عن أهلي وأكابد كل يوم عذابا وجوعا وحرمانا. أين ذهبت تلك الحكم يا رءوف؟ لعلها ماتت كأبي وأمي وأمانة زوجتي، ولم يكن بد من أن تهجر عمارة الطلبة سعيا وراء الرزق في مكان آخر، وانتظرت عند النخلة الوحيدة في نهاية الحقل، حتى قدمت نبوية، فوثبت نحوها وقلت لها: لا تخافي، يجب أن أكلمك، أنا ذاهب، سأجد عملا أوفر ربحا، وأنا أحبك، لا تنسيني أبدا، أنا أحبك وسأحبك دائما، وسوف أثبت لك أني قادر على إسعادك، وعلى فتح بيت محترم لك، وفي تلك الأيام كانت الأحزان تنسى، والجروح تلتئم، والأمل يحصد الصعاب، فيا أيتها القبور الغارقة في الظلمة، لا تسخري من ذكرياتي!
ونهض من استلقائه فجلس على الكنبة في الظلام، وخاطب رءوف علوان كأنه يراه أمامه قائلا في سخرية: لو قبلت أن أعمل محررا في جريدتك يا وغد لنشرت فيها ذكرياتنا المشتركة، ولخسفت نورك الكاذب!
ثم تساءل بصوت مسموع: إلام أطيق أن أبقى في الظلام حتى تعود نور قبيل الفجر؟
واستولت عليه بغتة رغبة لا تقاوم في أن يغادر البيت للقيام بجولة في الليل، وانهارت مقاومته كما ينهار بناء آيل للسقوط في ثوان، وفي دقائق كان يغادر البيت في حذر، فاتجه نحو طريق المصانع، ومنه مال نحو الخلاء، وازداد بمغادرة المخبأ وعيا بإحساس المطارد، فشارك الفئران والثعابين مشاعرها حين تتسلل، وحيد في الظلمة، تتربص به المدينة التي تلوح أضواؤها في الأفق، ويتجرع وحدته حتى الثمالة، وجلس إلى جانب طرزان على أريكته ولم يكن بداخل القهوة إلا رجل واحد من مهربي السلاح وصبي القهوة، على حين ضج سفح الهضبة بالسمر، وسرعان ما جاءه صبي القهوة بالشاي، ثم مال طرزان نحوه هامسا: لا تقم في مكان واحد أكثر من ليلة!
وقال المهرب: اهرب إلى الصعيد!
فتساءل سعيد: لا أحد لي في الصعيد!
فعاد المهرب يقول: كثيرون تحدثوا عنك أمامي بإعجاب.
فتساءل طرزان بحنق: والبوليس هل يعجب به أيضا؟
فضحك المهرب حتى اهتز جسمه هزة غريبة كأنه يمتطي جملا مسرعا، ثم قال: البوليس لا يعجبه العجب!
فتمتم سعيد: ولا الصيام في رجب!
Bilinmeyen sayfa