فلم يستطع جوابا، إلى هذا الحد بلغ منه الإعياء! وأقام الشيخ الصلاة، وما لبث سعيد أن غاب عن الوجود، حلم بأنه يجلد في السجن رغم حسن سلوكه، وصرخ بلا كبرياء وبلا مقاومة في ذات الوقت، وحلم بأنهم عقب الجلد مباشرة سقوه حليبا، ورأى سناء الصغيرة تنهال بالسوط على رءوف علوان في بئر السلم، وسمع قرآنا يتلى فأيقن أن شخصا قد مات، ورأى نفسه في سيارة مطاردة عاجزة عن الانطلاق السريع لخلل طارئ في محركها، واضطر إلى إطلاق النار في الجهات الأربع، ولكن رءوف علوان برز فجأة من الراديو المركب في السيارة، فقبض على معصمه قبل أن يتمكن من قتله، وشد عليه بقوة حتى خطف منه المسدس، عند ذاك هتف سعيد مهران: اقتلني إذا شئت، ولكن ابنتي بريئة، لم تكن هي التي جلدتك بالسوط في بئر السلم وإنما أمها، أمها نبوية، وبإيعاز من عليش سدرة، ثم اندس في حلقة الذكر التي يتوسطها الشيخ على الجنيدي كي يغيب عن أعين مطارديه، فأنكره الشيخ وسأله: من أنت؟ وكيف وجدت بيننا؟ فأجابه بأنه سعيد مهران، ابن عم مهران مريده القديم، وذكره بالنخلة والدوم والأيام الجميلة الماضية، فطالبه الشيخ ببطاقة الشخصية، فعجب سعيد وقال: إن المريد ليس في حاجة إلى بطاقة، وأنه في المذهب يستوي المستقيم والخاطئ، فقال له الشيخ إنه يطالبه بالبطاقة ليتأكد من أنه من الخاطئين؛ لأنه لا يحب المستقيمين، فقدم له مسدسه، وقال له: ثمة قتيل وراء كل رصاصة ناقصة في ماسورته، ولكن الشيخ أصر على مطالبته بالبطاقة قائلا: إن تعليمات الحكومة لا تتساهل في ذلك، فعجب سعيد مرة أخرى وتساءل عن معنى تدخل الحكومة في المذهب، فقال الشيخ: إن ذلك كله تم بناء على اقتراح للأستاذ الكبير رءوف، المرشح لوظيفة شيخ المشايخ؛ فعجب سعيد للمرة الثالثة وقال: إن رءوف علوان بكل بساطة خائن ولا يفكر إلا في الجريمة، فقال الشيخ: إنه لذلك رشح للوظيفة الخطيرة، ووعد بتقديم تفسير جديد للقرآن الشريف، يتضمن كافة الاحتمالات التي يستفيد منها أي شخص في الدنيا تبعا لقدرته الشرائية، وأن حصيلة ذلك من الأموال ستستغل في إنشاء نواد للسلاح، ونواد للصيد، ونواد للانتحار، فقال سعيد إنه مستعد أن يعمل أمينا للصندوق في إدارة التفسير الجديد، وسيشهد رءوف علوان بأمانته كما ينبغي له مع تلميذ قديم من أنبه تلاميذه. وعند ذاك قرأ الشيخ سورة الفتح، وعلقت المصابيح بجذع النخلة، وهتف المنشد: يا آل مصر هنيئا فالحسين لكم ...
وفتح عينيه فرأى الدنيا حمراء، ولا شيء فيها ولا معنى لها، ثم رأى الشيخ متربعا في هدوء يكتنفه البياض الناصع من الجلباب الفضفاض والطاقية واللحية، فلما ندت عن سعيد حركة لدى استيقاظه نظر الشيخ إليه في هدوء أيضا، وجلس سعيد في عجلة، ورنا إلى الشيخ كالمعتذر، وفي الوقت نفسه دهمته الذكريات في سرعة اللهب، وقال الشيخ: نحن في العصر، وأنت لم تذق طعاما.
نظر سعيد إلى الكوة، ثم أعاد إلى الشيخ النظر وهو يتمتم في ذهول: العصر! - نعم، قلت أدعه في نومه، وهداية الله تنزل في أي حال تريدها مشيئته!
وداخله القلق، ترى ألم يره أحد في نومه طوال النهار؟ - كنت أشعر في نومي بدخول أناس كثيرين! - أنت لم تشعر بشيء، ومع ذلك فقد جاء واحد بلقمة الغداء، وجاء آخر فكنس المكان، وسقى الصبارة والنخلة، وفرش الحوش استعدادا لاستقبال المحبين!
فسأل باهتمام: متى يجيئون يا مولاي؟ - مع المغرب، متى جئت أنت؟ - مع الفجر ...
وصمت مليا، ثم مسح الشيخ على لحيته وقال: أنت تعيس جدا يا بني!
فتساءل في قلق: لمه؟ - نمت نوما طويلا، ولكنك لا تعرف الراحة، كطفل ملقى تحت نار الشمس، وقلبك المحترق يحن إلى الظل، ولكن يمعن في السير تحت قذائف الشمس، ألم تتعلم المشي بعد؟!
فقال سعيد وهو يدعك عينيه اللوزيتين المحمرتين: فكرة مزعجة أن يراك الآخرون وأنت نائم!
فقال الشيخ بلا اكتراث: من غاب عن الأشياء غابت الأشياء عنه!
ومر بيده بخفة فوق جيب المسدس، وساءل نفسه: ترى ماذا يصنع هذا الشيخ لو أنه صوب نحوه مسدسه؟ متى يمكن أن يهتز هدوءه المثير؟ وعاد الشيخ يسأله: أنت جائع؟ - كلا.
Bilinmeyen sayfa