الشباب هم من يحمل الدعوة
أول قضية تستوقفنا حول هذه القصة: أنهم كما أخبر الله ﷿ فتية، فقال الله ﵎: ﴿إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ [الكهف:١٣]، وقال ﷿: ﴿إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا﴾ [الكهف:١٠]، ولا شك أن هذا الوصف وهذه الكلمة لم تأت اعتباطًا كقضية تاريخية، يعني: أنت حينما تكتب مثلًا قصة تقول: كان محمد أبًا لأسرة فقيرة إلى آخره فاسم محمد هذا لا يعني شيئًا بالنسبة للكاتب ولا يعني دلالة، وحينما يقول: كان شابًا كان شيخًا طاعنًا في السن فربما لا يعني دلالة حتى عند صاحب القصة؛ لكن كلام الله ﷿ لا يمكن أن تأتي فيه كلمة عبثًا، فحينما يأتي وصف هؤلاء بأنهم فتية في موضعين والقصة أجملت أولًا في ثلاث آيات، ثم فصلت: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا * فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا * ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا﴾ [الكهف:٩ - ١٢] بعد هذا الإجمال قال الله ﵎: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ [الكهف:١٣].
إذًا: هذه الكلمة لا تأتي عبثًا، ولا تأتي مجرد وصف لا قيمة له، فماذا يعني وصف هؤلاء بأنهم فتية؟ يعني: دلالات عدة، أول هذه الدلالات: هي سنة الله ﷿ في هذه الدعوة، وهي دعوة التوحيد: ﴿إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [الأنبياء:٩٢]، فهذه أمة واحدة بدءًا بنوح وإلى أن تختم بالطائفة المنصورة إذ ينزل عيسى مجددًا وحاكمًا بشريعة محمد ﷺ، فهي أمة واحدة ودعوة واحدة.
وجاء هذا التعقيب وهذا الوصف بعد ذكر قصص الأنبياء في سورة الأنبياء، بعد أن ذكر الله ﷿ نوحًا ولوطًا وزكريا وإلياس وسائر الأنبياء أخبر أنها أمة واحدة، وكما قال النبي ﷺ: (نحن معاشر الأنبياء أولاد علات)، فهي سنة أن يكون أتباع هذه الدعوات هم من الشباب، وهذا النموذج أمامنا مجتمع يعج بالكفر والشرك بالله ﷿ يستفيق فيه هؤلاء الفتية وهؤلاء الشباب، ولهذا قال قوم نوح: ﴿وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ﴾ [هود:٢٧] هم أولئك الفئات السذج بسطاء الرأي الذين يتبعون كل ناعق.
وقال الله ﷿ عن أتباع موسى: ﴿فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ﴾ [يونس:٨٣] فهم ذرية، فأقران موسى ليسوا من الذين آمنوا بموسى، بل الذين آمنوا به الذرية، واستنبط ابن كثير ﵀ من هذه الآية قال: يخبر الله ﷿ أنه لم يؤمن لموسى إلا فئة قليلة من قومه وهم الشباب، وكذلك أتباع الأنبياء.
وفي قصة أصحاب الأخدود أخبر النبي ﷺ: أن هذا الحدث وتلك القضية كانت على يد هذا الشاب الذي لم يبلغ العشرين من عمره، وحين جاء النبي ﷺ أصبحت سيرته خير شاهد على ذلك، فالعشرة المبشرون بالجنة وهم من أوائل الذين دخلوا في الإسلام كان خمسة منهم دون العشرين في أعمارهم، ويعجب القارئ بهذه السير: كيف يصل هؤلاء إلى هذه المنزلة وكانوا لا يزالون في ريعان شبابهم، وربما كان بعضهم ليس في وجهه شعرة واحدة، وكثير من أوائل السابقين الذين اتبعوا النبي ﷺ وثبتوا على الإسلام في مكة كانوا من هذه الطبقة من الشباب: سعد بن أبي وقاص والزبير بين العوام وسعيد بن زيد وخباب بن الأرت والأرقم بن أبي الأرقم وعبد الله بن مسعود ﵃ وغيرهم كثير، بل أول من أسلم من أهل المدينة والأنصار وأول من يحفظ إسلامه كان غلامًا صغيرًا وهو إياس بن معاذ، قدم مع قومه، فرآه النبي ﷺ وهم يطلبون الحلف فقال: (ألا أدلكم على خير مما جئتم إليه؟ فدعاهم إلى الإسلام، فتكلم هذا الغلام وقال: هذا والله خير مما جئنا إليه) فزجره أحدهم، ثم قال: فكانوا يسمعونه يسبح ويهلل فما كانوا يشكون أنه مات مسلمًا.
وحين جاء أولئك الذين اتبعوا مصعب ﵁ إلى بيعة العقبة واجتمعوا مع النبي ﷺ، وجاء العباس وهو على دين قومه يطمئن على صدق هؤلاء الذين سينتقل
10 / 3