ن وقلب المحب في الخفقان
مستبدا كأنه الفارس المع
لم يبدو معارض الفرسان
ضرجته دما سيوف الأعادي
فبكت رحمة له الشعريان
ألقينا بالسمع وأمسكنا عن الكلام، فلما علا التسبيح هرولنا إلى سطيح، وإذا بالصوت الذي سمعته بالأمس ينادي صاحبي بقوله: «صاحب مذهب جديد، ورأي سديد، دعا القوم إلى رفع الحجاب، وطالبهم بالبحث في الأسباب، فألقوا معه نقاب الحياء، وتنقبوا من دونه بالبذاء. أي فلان، إذا مضت على كتابك خمسون حجة، وظهر لذي العينين أدلاؤك بالحجة، تكفل مستقبل الزمان بإقامة الدليل والبرهان، فلعل الذي سخر لجماعة الرقيق والخصيان من أنقذهم من يد الذل والهوان، يسخر لتلك السجين الشرقية، والأسيرة المصرية، من يصدع قيد أسرها، ويعمل على إصلاح أمرها.
أوصى نبينا بالضعيفين «الرقيق والمرأة»، فخالفنا وصيته، ولم نتبع سنته. قمنا إلى الأول فجببنا منه المذاكير، وعمدنا إلى الثانية فزججنا بها في سجن المقاصير، فقيض الله للأول من أعدائنا من دعا إلى عتقه، وسعى سعيه في تحريره من أسره ورقه، وتالله ليأتين يوم تقوم فيه النساء الغربيات تطالب برفع الحجاب عن أخواتهن الشرقيات، وهنالك يعرفون قدر كتابتك، ويقدرون مقدار خطئهم من مقدار صوابك، فانتظر - وإن طال الأمد - ذلك اليوم، ولا تبخع نفسك أسفا على أثر القوم؛ فهم أقل العالمين شكرانا، وأكثر خلق الله كفرانا.
وهل أتاك حديث تلك المصرية الصالحة؛ إذ رأت قومها يعانون أصناف الشقاء في دفن موتاهم؛ لوعورة طريق المقبرة، وقيام التلال في سبيلها، فأنفقت من مالها على تمهيد تلك السبيل؛ احتسابا للخالق ورأفة للمخلوق، فكان منهم أن كافئوها على ذلك العمل المبرور بأن سموا طريق المقبرة: «بقطع المره». فانظر إلى أي حد بلغ العقوق من نفوس قومها، واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا.»
ثم انقطع صوته، فأشفقت أن يكون نصيبي من رؤيته كنصيب الأمس، فقلت له: يا ولي الله، قد سمعنا صوتك ولم ننظر إلى شخصك، فهل لك أن تمن علينا برؤية شخصك الكريم، كما مننت علينا بسماع قولك الحكيم؟ فقال: لقد قدر أن تراني بعد أن كشف لك عن مكاني، فلا تقطع غدك الزيارة، واذكر ما بيننا من الإشارة. ثم أخذ في تسبيحه، وأخذنا في طريقنا إلى المنازل، وما زلنا نخوض في أحشاء الليل وفي صنوف الأحاديث حتى بلغنا منتزه الجزيرة، فإذا نحن بشابين يمشيان على الأقدام، فدانيناهما لنسمع ما يدور بينهما، فإذا الأصغر يقول للأكبر: هل لك أن تذكر لي أقصى أمانيك في هذه الحياة الدنيا؟ قال الأكبر: أقصى أماني أن أصبح «الرئيس الشرف» للمحكمة المختلطة، فأجلس في كل عام ساعة واحدة أنقد عليها ما يقوم بنفقة العام كله، فإن أسعد المصريين حالا، وأرخاهم بالا، من سهلت له الأقدار الجلوس على ذلك الكرسي الذي لا يسأل صاحبه عن الخطل، ولا يخشى عليه من الوقوع في الزلل. قال الأصغر: أف لك أن تتمنى الرزق في ظلال الكسل، والبعد عن الكد والعمل. أما أنا فأقصى أماني أن أكون مثل ذلك التلميذ الذي دخل منذ عامين في مدرسة المهندسين، فإنه قد بلغ من الإكرام والتعزيز منزلة لم تبلغها أولاد القياصرة، فإذا حق لمتعلم أن يفتخر، فهو الحقيق بالفخر؛ فإنه يتلقى دروسه على انفراد في «فصل السنة الأولى» من طائفة من المعلمين الإنكليز، ينقد أقلهم مرتبا خمسا وثلاثين قطعة من الذهب، ولو شاء القيصر تعليم نجله الوحيد لما فعل أكثر من ذلك. وهذا كله بفضل عناية ديوان المعارف، وحرص القائمين فيه بالأمر على التعليم.
قال الأديب: فامتلأنا عجبا من ذلك الحديث، وانطلقنا حتى إذا جاوزنا مربض الليثين، أخذ كل منا طريقه إلى داره. ولما بلغت منزلي أخذت مضجعي، فعاودني أرق الليلة الغابرة، فقلت: ما لهذا الأرق من دواء إلا لزوميات أبي العلاء. فقمت إليها وفتحتها، فأخذ نظري فيها قوله:
Bilinmeyen sayfa