فقال الحاكم بحدة: لقد سخط الوزير دندان على اعتقالهم في المرة الأولى، فلن أسمح به مرة أخرى.
فقال جمصة البلطي بأسى: على أي حال، إني أخوض معركة بقوة لا تعرف الهوادة.
فقال الحاكم: لا بد من ضبط الأمن وإلا عزلتك!
هكذا غادر جمصة البلطي دار الإمارة يجر أذيال الإهانة لأول مرة في حياته.
9
غضب حيال الإهانة، فهيمنت عليه طبيعته القوية المتحدية .. غاصت نوازع الخير فتوارت في أعماق بعيدة .. تصدى للهزيمة بوحشية رجل يستبيح أي شيء في سبيل الدفاع عن سلطته .. لقد استوعبته السلطة وخلقته خلقا جديدا فتناسى الكلمات الطيبة التي تلقاها على يد الشيخ في الزاوية على عهد البراءة .. سرعان ما جمع أعوانه، فصب عليهم السيل الذي انصب عليه في بهو الإمارة، وفتح نوافذ الجحيم على مصراعيها .. وكلما وقع حادث جديد، قبض على عشرات بلا دليل أو قرينة، وعذبهم بلا رحمة .. وخفت تبعا لذلك متابعته للشيعة والخوارج، فضاعفوا من نشاطهم، وحرروا الصحائف السرية تطفح بتجريم السلطان والولاة، وتطالب بالاحتكام إلى القرآن والسنة .. وجن جنونه، فاعتقل الكثيرين حتى خيم الخوف على الحي جميعا، ومادت به الأرض .. واستفظع الهمذاني عنف الإجراءات، ولكنه أغمض عينيه طمعا في الفرج .. على ذاك كله ازدادت الحوادث عدا وعنفا.
10
انهزم جمصة البلطي، ولكنه أبى الاعتراف بالهزيمة .. وجعل يبيت ليالي عديدة في دار الشرطة، حتى تسلط الإرهاق على قوته الخارقة .. وغلبه النوم مرة في حجرة عمله، فاستسلم له كأسد جريح .. لم يفز بالراحة المنشودة، ولكنه طرح تحت ثقل وجود غليظ احتل جوارحه .. همس في حيرة: سنجام!
فجاء الصوت مقتحما وجدانه: أجل يا كبير الشرطة!
فسأله مستنكرا: ماذا دعاك إلى الحضور؟ - غباء من يدعون الذكاء! - تنور عقله فجأة، لم تجر له في خاطر، فقال: الآن عرفنا سر قطاع الطريق الذين لا يعثرون لهم على أثر! - الآن فقط؟ - من أين لي أن أخمن أنك صاحبهم؟! - اعترف - رغم غرورك - بأنك غبي.
Bilinmeyen sayfa