وكان عليه أن ينتظر قدوم الربيع ليتمكن من العودة إلى فرنسا، فانتظر ثلاثة أشهر كئيبة في بيروت، وفي أحد الأيام شعر بالحزن يملك عليه جميع مشاعره، فكتب إلى صديقه فيريو يقول: «لقد كتبت إليك أطلعك على النكبة التي نزلت بي فهدمت مستقبلي وجهمت في عيني جميع ألوان الحياة. وها أنا اليوم مسمر في مكاني ريثما يسمح لي الربيع القادم بالعودة إلى فرنسا ... أما حياتي في هذا العالم فقد انتهت، وأصبحت أعيش كما تعيش البهيمة ...»
وشاء لامرتين أن يروح عن نفسه، فترك بيروت في الثامن عشر من شهر آذار، وراح يطوف بين خرائب بعلبك ودمشق، في حين كانت زوجته الحزينة تزور الأماكن المقدسة. وفي اليوم الثلاثين من شهر نيسان، سافر الشاعر وزوجته والحاشية إلى يافا، ومنها إلى القسطنطينية، حيث صرفوا شهرين كاملين بعد أن أرسلوا تابوت جوليا إلى مرسيليا؛ على أن طارئا فجائيا طرأ على لامرتين في إحدى قرى البلغار، وفي كوخ قائم على قدم جبل هاموس؛ فقد أصيب بداء ذات الرئة، وهو بعيد عن أصدقائه لا يواسيه ويعتني بأمره، إلا زوجته الثكلى. ولقد كان الدكتور ديلاروايير وده بارسيفال قد تقدما الشاعر وزوجته إلى فرنسا، ولم يبق من الحاشية إلا ده كامبا، وهو رجل عجوز لا يستطيع أمرا. إلا أن العناية شاءت أن يشفى لامرتين من دائه ويواصل سيره إلى فرنسا ؛ ففي منتصف شهر تشرين الأول، في حين كانت زوجته تستريح في تورين مما ألم بها من الأتعاب والمصائب، قصد هو إلى مرسيليا ليجيء بتابوت ابنته، ولقد حمله توا إلى سان بوان ودفن الجثة في الكنيسة الصغيرة التي دفنت فيها بقايا والدته.
قال دارغو، صديق الشاعر، إن لامرتين صرف الليل الذي أعقب دفن الجثة في الكنيسة الصغيرة يتحدث إلى روح وحيدته. وقال دارغو نفسه إن لامرتين أرسل إليه في اليوم التالي كتابا يقول فيه: «لقد وضعت في الليلة الفائتة تابوت وحيدتي على تابوت أمي: كل ماضي وكل مستقبلي، ولقد انسحقت جسديا وروحيا ولم أبق أقوى حتى على الكتابة ...»
وفي العام 1834؛ أي بعد مرور أربعة عشر شهرا على موت جوليا، كتب لامرتين قصيدة لذكرى وحيدته، وقد نشرت هذه القصيدة في كتاب «رحلة إلى الشرق» قبل أن تنشر في صحيفة أو في ديوان، وقبل أن يقرأها لامرتين نفسه على مسمع من أصدقائه. وهذه القصيدة أصبحت اليوم مشهورة ولا تقل ذيوعا عن القصيدة التي نظمها فيكتور هيغو لذكرى ابنته ليوبولدين التي ماتت غرقا، وإنا لننقل هنا بعض فقرات منها:
رضعت الآلام من ثدي أمي، فقلبي لا ينفض إلا دموعا بدل الدم. ولقد اختطف الله مني لذة هذه الدموع فإنه جففها في قلبي. فالحسرة أصبحت عسلي، وأصبح الحزن غبطتي، وصرت أشعر بفطرة أخوية تجذبني إلى أي تابوت كان، وصرت لا أجد طريقا توقفني إلا إذا شاهدت فيها خربة أو حدادا!
كانت جوليا الحطمة الوحيدة من حطم عاصفتي الطويلة، والثمرة الوحيدة من تلك الأزهار التي قطفتها، كانت دمعة في رحيلي وقبلة في عودتي، وعيدا دائما في بيتي الطواف، كانت شعاعا من الشمس على نافذتي، وعصفورا غردا يشرب على فمي، ونفسا موسيقيا يتصاعد في الليل بالقرب من مرقدي.
بل كانت أكثر من ذلك كله، كانت - وا حر قلباه - صورة أمي، وكان يخيل إلي أن نظرات أمي تعود إلي في عينيها. كان صوتها صدى عشر سنوات من الغبطة، وكانت قدمها في البيت تملأ الهواء سحرا وعذوبة، وبصرها يصعد الدموع إلى عيني، وابتسامتها تضيء في قلبي.
ولم تكن نظراتي وقلبي، وهي تسكرني غبطة وصلاة؛ لتنتبه إلى أن جبينها يثقل ذراعي من يوم إلى يوم، وأن قدميها تثلجان يدي كالحجر ... جوليا! جوليا! لماذا تشحبين؟ ... فيم هذا الجبين المبلل؟ وهذا اللون المتبدل؟ تكلمي! ابتسمي لي! وافتحي لي عينيك لأقرأ فيهما! ...
إلا أن زرقة الموت كانت تزنر شفتها الوردية، وكانت الابتسامة تموت عليها حالما تولد، ونفسها المقتضب يزداد سرعة كخفقان جناح يجثم. وعندما حملت روحها في آخر نفس، مات قلبي في صدري كالثمرة التي تحملها المرأة في أحشائها ميتة باردة!
لئن كانت إيطاليا هي التي كشفت للشاعر مغاني النور، فالشرق هو الذي كشف له المدى الذي لا حد له، وجمال الصحراء القاحل. فأمام آثار بعلبك وأمام عظمة أرز لبنان رحبت مخيلة لامرتين، وفي وسط الآلام والوحدة وتجاه مشاهد الطبيعة والماضي اكتسبت مخيلته ذلك النشاط وتلك الرحابة اللذين بقي محافظا عليهما طوال حياته.
Bilinmeyen sayfa