Hayatımdan Görünümler: Yarı Otobiyografik Bir Anlatı
لمحات من حياتي: سيرة شبه ذاتية
Türler
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل الأول
الفصل الثاني
Bilinmeyen sayfa
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
لمحات من حياتي
لمحات من حياتي
سيرة شبه ذاتية
تأليف
Bilinmeyen sayfa
ثروت أباظة
الفصل الأول
لم يدر بذهني يوما أن أكتب هذه المذكرات، فأنا شخصيا لا أرى في حياتي ما يستحق الرواية، ولكن حدث في الأسبوع الماضي أن قصد إلي مذيع ليدير معي حديثا عن حياتي استغرق حوالي الساعة - وتركت نفسي على سجيتها - ورحت أروي للميكرفون بعض ذكريات من حياتي كان بعضها يمسك برقاب بعض وتستدعي الذكرى صاحبها، ولاحظت أن المذيع يضحك في سعادة غامرة مما أروي، فلما انتهى الحديث ساءلت نفسي: وما لي لا أروي هذه الذكريات لقارئي ربما وجد فيها من المتعة ما وجده هذا المذيع.
والذي بيني وبين القارئ أمر ميسور، فهو يستطيع أن يضم دفتي الكتاب الذي بيده ويقطع صلته به وأذكر له بيت الشعر القديم:
كأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
وحسبه الله بعد ذلك فيما خسر من ثمن الكتاب، فإن وجد المتعة التي أتمناها له وأنشدها وأسعى إليها، فالحمد لله على الحالين وليمض في قراءة الكتاب.
وربما زاد من ترددي كتاب كتبته قبل هذا بعنوان «ذكريات لا مذكرات»، ولكني قضيت على هذا التردد بأن كتابي الأول كان يحمل صلاتي بمن عرفتهم من مشاهير وغير مشاهير.
ولكنني أعتقد أن هذا لن يكون المنحى الذي سأنحوه في كتابي هذا الذي بين يديك، أما كيف أنحو فعلم هذا عند علام الغيوب، فما خططت خطة بذاتها ولا انتهيت إلى رأي معين، وإنما سأسير وإياك عبر أيامي منذ وعيت الحياة حتى اليوم الذي بدأت فيه كتابة هذا الكتاب، وإني إن شاء الله واجد له عنوانا، ولكنك لا بد أن تعلم أن هذا العنوان قفز إلى ذهني وأنا أكتب هذا الكتاب ولم أضعه قبل بدء الكتاب كما كان ينبغي أن أفعل، فقد خشيت أن يحول العنوان بيني وبين الترسل الذي أحب أن أتركه يحدو قلمي، ويسير به سيرا متحررا من كل قيد بعيدا عن القيود جميعها.
من الطبيعي أن أبدأ بالسنوات الأولى من حياتي:
Bilinmeyen sayfa
قيل لي إنني ولدت بمنزل بشارع جوهر القائد بحي المنيرة، ولكنني لم أر هذا البيت إلا مرورا به، وأشارت إليه والدتي وكنت أركب معها السيارة، وقالت إنني ها هنا ولدت فما وعيت منه إلا اللمحة العابرة التي تتيحها سيارة تمضي في طريقها ولا تتوقف، أما البيت الذي نشأت فيه وأقمت فبيت كان ملكا لأبي بشارع الملك الناصر رقم 24 بحي المنيرة أيضا، وكان البيت هو المبنى الثاني في الشارع من ناحية شارع الدواوين، وكان المبنى الأول مدرسة أهلية دخلتها وانتظمت فيها لبضعة أشهر، وقد كان المبنى المقابل لها مستشفى الملك، ولا بد أن اسمها قد تغير حين أرادت الثورة حذف الملكية من تاريخ مصر، وكان يلاصق المستشفى مدرسة الخديو إسماعيل التي لا أدري اسمها الآن هي أيضا، فإن الثورة قررت أنه لم يكن في مصر خديو اسمه الخديو إسماعيل إلا أن يذكر مشتوما ملعونا، أما أن يذكر بدون تعليق فأمر لا ترضاه الثورة الاشتراكية.
نشأت في هذا البيت ودخلت المدرسة الملاصقة لبيتنا، وأذكر أن والدي ووالدتي كانا يطلان علي من إحدى نوافذ بيتنا، وكان أبي يحرك لي منديلا في يده حتى أتنبه إلى وجودهما بالنافذة، وأذكر أنني في اليوم الأول لذهابي إلى هذه المدرسة رفضت أن أذهب إلا إذا صحبت محمد أبو عثمان الذي كان يعمل طباخا في بيتنا، وكان يلاعبني ويضاحكني وكنت معجبا به كل الإعجاب، وهو ما زال على قيد الحياة أطال الله عمره، وقبل ناظر المدرسة أن يدخل محمد أبو عثمان الفصل معي، وكان في الفصل يقف بجانب الباب، فكان وقوفه هذا يرد عني الوحشة التي كانت تلم بي وأنا مع تلاميذ لا أعرفهم ولا يعرفونني.
وفي اليوم التالي كنت بالفصل أكثر أنسا حتى لم أنتبه إلى أن محمد غادر الحجرة إلا بعد حين، وسألت عنه فوجدته بالمدرسة ما زال فعادت إلي الطمأنينة. أما في اليوم الثالث فقد صدر الأمر من والدي أن يصحبني محمد إلى باب المدرسة الذي كان يقع بشارع الدواوين ثم يتركني وحدي، وقد بكيت لهذا الإجراء بكاء حارا، ولكنه كان أمرا صارما لا رجعة فيه، ذكرياتي في هذه المدرسة تكاد تكون معدومة ولا أذكر من رفاقي بها أحدا؛ إلا أنها كان لها الفضل أن أذهب إلى مدرسة المنيرة لرياض الأطفال وأنا غير مضطرب الفؤاد ولا هالعا، والذي أذكره عن المدرسة الجديدة أن ناظرة المدرسة كان اسمها السيدة روفية رمضان، ولا زالت صورتها في ذاكرتي حتى اليوم، وأذكر من مدرساتها أيضا السيدة توحيدة الدمرداش، وكانت ترعاني بحدب ورضاء، وأذكر أن أستاذة الرسم كان اسمها الأستاذة نعيمة التي جعلتني أرسم رسما جميلا، الأمر الذي لم يتكرر في المدرسة الابتدائية أو الثانوية رغم أن الذي كان يدرس لي الرسم في المدرسة الابتدائية الأستاذ الفنان الكبير حسين بيكار، كما كان يدرس لي فنان الكاريكاتير العظيم الذي اشتهر باسم مفرد هو رمزي، ومع ذلك كنت دائما لا أجيد الرسم مطلقا لدرجة أن والدتي وأنا أنتظر نتيجة الابتدائية كانت دائما تقول إنها خائفة أن أرسب في مادة الرسم، والعجيب أن حدسها أوشك أن يتحقق وحصلت في مادة الرسم في شهادة الابتدائية على أربع درجات من عشرين، وهي الحد الأدنى للمرور ولا أقول النجاح.
قضيت في مدرسة الروضة سنتين وأذكر أنني كنت متقدما لأنني سبقت زملائي في تعلم اللغة العربية والحساب على يد الشاعر الأستاذ أحمد القرعيش ببلدتنا غزالة، وقد كان مدرسا بالمدرسة الإلزامية بها، وكان أول من علمني بادئا بالخط الأفقي والخط الرأسي، وأذكر أنه كان يشكل هذه الخطوط على الرمال، فقد كنا نجلس على أريكة خارج المبنى الذي يعمل به كتاب الحسابات لزراعة أبي، وأشهد أن الأستاذ القرعيش هو أحسن أستاذ تلقيت عنه العلم، فقد كان قديرا على تيسير المعلومات علي، وكان حريصا على تشجيعي حتى إنه كان يحمل معه أقراص النعناع الصغيرة يتحفني بواحد منها كلما أجدت الإجابة، فإذا علمت أنه كان من كبار البخلاء أدركت التضحية التي كان يقوم بها ليصل بتلميذه إلى أحسن مستوى. وقد كان الأستاذ القرعيش شاعرا مجيدا، وحين بلغت السنة الثانية الثانوية كنت أقرأ معه ومع قريبنا الشاعر العصامي توفيق عوضي أباظة الذي علم نفسه ولم يختلف إلى مدرسة في حياته لشدة فقره، كنا نقرأ معا الشوقيات في بيتنا بالقرية، وكنا نبدأ القراءة بعد أن يصعد أبي إلى الدور الأعلى من المنزل في حوالي الساعة التاسعة مساء، ونظل نقرأ على الكلوب الذي ينير بالجاز حتى يطلع علينا الصبح، ونقرأ على ضوء الشمس وكنت أنا الذي أقرأ، والشاعران يستمعان ويستجيدان ويعلقان. وللأستاذ القرعيش فضل علي لا أنساه أبدا، فقد كنت أكثر من اللحن في قراءتي، وكان يصحح لي، وقال لي إذا كنت تريد أن تكون أديبا فلا بد أن تقيم لسانك وإلا فلن تصبح أديبا مطلقا، ويا ليته عاش حتى اليوم حتى يرى مقتل اللغة العربية على أيدي أدبائها. لا علينا. خجلت من هذه الملاحظة، فحين ابتداء العام الدراسي في السنة الثالثة الثانوية أعدت قراءة النحو، وأخذت نفسي طوال السنة الثالثة الثانوية - وهي تقابل السنة الأولى الثانوية اليوم - أن أقرأ كل المواد العربية من تاريخ وجغرافيا وطبيعة وكيمياء بصوت مرتفع وأصحح لنفسي الإعراب في كل قراءتي، حتى إذا جاءت الإجازة، وبدأ ثلاثتنا قراءة الشوقيات فوجئ الشاعران بي وأنا لا أخطئ في النحو مطلقا أو أكاد، وهكذا استقام لساني العربي، كما استقامت كتابتي والفضل في ذلك لمعلمي العظيم الأستاذ أحمد حسين القرعيش.
نعود إلى مدرسة المنيرة لرياض الأطفال التي مكثت بها كما أخبرتك سنتين، وقد وقع لي مع هذه المدرسة نادرة طريفة، فقد دعاني ناظر مدرسة لا أعرفها وأنا كاتب بالأهرام أن أعقد ندوة مع تلاميذ مدرسته ولبيت دعوته وذكر لي العنوان، وذهبت وفوجئت أنني أعرف معالم المدرسة، وإن كانت معرفة باهتة، كما يقول الشاعر عن ذكرياته أنها تلوح كباقي الوشم بظاهر اليد. وما لبثت أن تبينت أن المدرسة التي أعقد بها ندوتي هي روضة الأطفال التي كنت أتعلم بها وأصبح اسمها مدرسة المنيرة الابتدائية، وقد سعدت بهذه المصادفة كل السعادة.
دخلت بعد ذلك مدرسة المنيرة الابتدائية متقدما عن سني بسنة؛ لأنه كان من المفروض أن أظل سنة ثالثة بالروضة، إلا أن أبي رأى أن أقفز سنة، وهكذا لم يكن غريبا أن أرسب في السنة الأولى الابتدائية، وأذكر أن أبي استاء كل الاستياء من رسوبي هذا، وكان له صديق قريب إليه كل القرب وهو عبد الله أفندي العربي من بلدة الخيس القريبة من بلدتنا غزالة بمركز الزقازيق، وقد فاتني أن أذكر لك أنني حين ولدت بالقاهرة رفض أبي أن يقيدني من مواليد القاهرة، وقد ولدت في 28 يونيو عام 1927م، فانتظر أبي إلى أن ذهب إلى غزالة، وقيدني بها في 15 يوليو 1927م حرصا منه أن أنتسب إلى بلدتنا غزالة التي كان يحبها كل الحب، حتى إنه كان يوقع مقالاته السياسية بتوقيع الغزالي أباظة.
نعود إلى عبد الله أفندي العربي صديق أبي الذي اكتسب لقب أفندي من أنه كان مدرسا بالمدارس الابتدائية، وكان يدرس لشقيق أبي الأصغر عبد الله بك فكري أباظة حين كان تلميذا بالمدرسة الابتدائية، وكان معجبا بطريقة تدريسه.
وكانت صلة الأستاذ العربي بوالدي وثيقة غاية الوثوق حتى إنه كان يسافر معه إلى الخارج على نفقته الخاصة، فقد كان ميسور الحال، وقد لبست أول ساعة في حياتي هدية من عبد الله أفندي العربي.
حين رأى عبد الله أفندي الحزن يخيم علي لرسوبي في السنة الأولى الابتدائية ورأى الاستياء الشديد من أبي لهذا الرسوب جاء إلى منزلنا قبيل المغرب في يوم من هذه الأيام ودعاني أن أخرج معه ليرفه عني، وذهبنا إلى مقهى بالجيزة ربما يكون هو المقهى الذي تعود بعض الأدباء أن يجلسوا به، وقد كنت أشاركهم في الجلوس به في بعض الأحيان، ولو أنني لست واثقا أنه نفس المقهى فقد صحبني إليه عبد الله أفندي في أوائل الثلاثينيات وجلست مع الأدباء في الستينيات، فمن الصعب أن أؤكد إن كان المقهى هو نفسه الذي جلست به وأنا طفل، واشترى عبد الله أفندي لي وله جبنا وسلطانية زبادي ورغيفا لكل منا من الخبز الإفرنجي، فكانت من أمتع الأكلات التي طعمتها في حياتي. وإني أروي هذه الواقعة على بساطتها لأن عبد الله أفندي العربي قال لي في هذه الجلسة جملة لم أنسها حتى اليوم، وكانت تمثل لي في ذلك اليوم ضوءا ساطعا من الأمل في ظلام اليأس الذي ران علي من سقوطي في السنة الأولى الابتدائية؛ قال: يا بني لا تخف ... لا بد أنك ستفلح في حياتك ... فإن الخير الذي قدمه أبوك للناس لا يمكن أن يذهب هباء ... سيكرمه الله فيك إن شاء الله ... لا تخف.
بعد ذلك بسنوات - ما دمنا نذكر عبد الله أفندي العربي - مرض رحمه الله نتيجة إبرة طبية كسرت في فخذه وهو يتداوى بها، وحين كنا ننتظر نتيجة الشهادة الابتدائية، وكنا قد انتقلنا إلى العباسية كان هو طريح الفراش، وفي أحد الأيام دق جرس التليفون في الساعة السابعة صباحا ليبشرني عبد الله أفندي العربي أنني نجحت في الابتدائية، فقد صحا مع الفجر ليعرف نتيجة الشهادة التي كانت تنشر في صحف الصباح في هذه الأيام.
Bilinmeyen sayfa
والعجيب أن عبد الله أفندي العربي مات في اليوم نفسه، وكأنه كان يستمهل الموت حتى يبشرني بنجاحي.
كانت مدرسة المنيرة الابتدائية من أعظم مدارس مصر، وكان ناظرنا فيها الرجل العظيم فهمي بك الكيلاني والد المذيعة المتميزة سميرة الكيلاني، وكان لها أخ يزاملنا في المدرسة اسمه سمير، وكان بها أساتذة من أحسن أساتذة المدارس أذكر منهم الأستاذ الشيباني الذي لا أنسى واقعة لي معه، يوم دخل إلى الفصل وكتب على السبورة بضعة أبيات أذكر مطلعها:
انظر لتلك الشجرة
ذات الغصون النضرة
وكان اسم القصيدة «الله» جل جلاله، وألقى بالطباشيرة والتفت إلى التلاميذ وسأل من يستطيع أن يقرأ هذه الأبيات، فرفعت أصبعي، وكنت لطول قامتي أجلس في آخر الفصل، وأوليت ظهري للسبورة وألقيت أبيات القصيدة جميعها، وحين استدرت صفق لي التلاميذ ووجدت الأستاذ مذهولا، وقال لي: ماذا أقول لك يا ابني، ماذا أقول؟ ابن الوز عوام.
وأعطاني الدرجة النهائية.
أذكر أن هذا كان في السنة الثانية الابتدائية، وقد كنت متفوقا في هذه السنة تفوقا لم تشهده حياتي الدراسية قط، لدرجة أنني في أحد امتحانات الفترة كان ترتيبي الخامس، وأعتقد أن هذا التفوق كان نتيجة لرسوبي في السنة الأولى.
ومن المدرسين الذين أذكرهم في مدرسة المنيرة الأستاذ محمد البابلي والد الممثلة الرائعة سهير البابلي، وكان هناك أيضا حبشي أفندي الذي أعتقد أن كل زملائي في مدرسة المنيرة يذكرونه معي، وكان دائما يسأل التلاميذ مين باباتك بس، فيجيب التلميذ حبشي أفندي بس، وفي مرة قال لي: يلعن أبوك. وكان متعودا أن يقولها للتلاميذ ولا يعلقون. أما أنا فاستهولت الأمر ونقلته إلى أبي، وأعتقد أنه كان في ذلك الحين وكيلا لمجلس النواب، وكان من عظماء مصر بشخصيته وبتاريخه الشاهق في ثورة 1919م، ولم يكن محتاجا إلى منصب، فقد كان الجميع يحترمونه ويقدرونه لذاته لا لمنصبه.
وذهب إلى الناظر فهمي بك الكيلاني، وقال ربما يكون ثروت قد أخطأ، فما ذنبي أنا، واستدعى الكيلاني بك حبشي أفندي، وسأله: هل لعنت أبا ثروت؟ فقال: نعم. وقبل أن يغضب أبي استمهله حبشي أفندي ثم نظر إلي: مين باباتك بس. - قلت حبشي أفندي بس.
ونظر إلى أبي: سعادتك لا شأن لك بالموضوع أنا أشتم نفسي.
Bilinmeyen sayfa
ولم يملك أبي إلا أن يضحك وينصرف.
وقبل أن أبتعد عن القصيدة التي ألقيتها فور كتابتها أذكر أن أبي كان يجتمع في كل يوم بمكتبه بالمنزل بجماعة لا أعرف منهم أحدا، وفهمت أنهم كانوا يعدون لإقامة حفلة تأبين في ذكرى شاعر النيل حافظ إبراهيم، وحدث أن فتحت الغرفة بمظنة أن أبي وحده، ولكني وجدت معه هذه الجماعة، فاستدرت لأخرج، ولكن أبي ناداني وطلب إلي أن ألقي بينهم شيئا من محفوظاتي، فألقيت الأبيات التي عنوانها الله سبحانه وتعالى والتي مطلعها:
انظر لتلك الشجرة
ذات الغصون النضرة
فإذا بواحد من الجالسين يصيح: رفع الله رأسك كما رفعت رأسي ... أنا صاحب هذه الأبيات.
وعرفت أن الشاعر هو محمد الهراوي ، وقد كان صاحب شهرة هائلة في هذا النوع من السهل الممتنع الذي كان يحفظه تلاميذ المدارس في ذلك الحين.
وما دمت قد ذكرت هذه الاجتماعات فلا بد أن أذكر ما نتج عن تجمعها فقد أقيمت حفلة تأبين ضخمة في دار الأوبرا المصرية، وقد شهدت هذا الحفل، ولا أنسى الأستاذ إبراهيم عبد القادر المازني الذي كان بين المتحدثين، وقد كان معروفا عنه وعن أستاذنا العملاق عباس العقاد أنهما كانا من أشد المهاجمين لأمير الشعراء شوقي ولشاعر النيل حافظ إبراهيم.
وأذكر أن الأستاذ المازني العظيم تقدم إلى مقدمة المسرح وقال ما معناه: «أشهد الله والحق أننا هاجمنا شوقي وحافظ لنهدمهما ونقف على أنقاضهما، فلم ننل إلا من الحق ومن أنفسنا.»
وكنت في هذه السن الباكرة أصحب أبي في كل تنقلاته، وقد جعلني هذا التنقل أتعود مجالسة الكبار وأحترمهم دون أن أرهبهم، وأذكر أن محمد باشا محمود الزعيم النبيل كان يأتي أحيانا لزيارة أبي قبل أن يكمل أبي لبس ملابسه فيأمرني أبي أن أنزل إلى صاحب المقام الرفيع محمد باشا محمود، وأجلس إليه حتى يكمل هو ملبسه.
وكان الباشا يهش لي ويأنس إلي حتى ينزل أبي وأترك الكبيرين وأنصرف إلى ملعبي.
Bilinmeyen sayfa
وكان أبي يصحبني وأنا في هذه السن إلى مجلس النواب لأشهد الجلسات من شرفة الزوار، وأذكر أن رئيس المجلس في ذلك الحين كان توفيق باشا رفعت، وكان رجلا رقيق الجسم ضخم الشاربين ووقعت عينه علي في شرفة الزوار، ويبدو أنه تعجب من وجود طفل في مثل سني في هذا المكان، فشهدته يشير إلى الساعي الخاص بالرئاسة ويهمس في أذنه، فإذا بهذا الساعي يصعد ويسألني: من أنت؟ وقلت له وشهدته يعود إلى الباشا ويهمس في أذنه، ويهز الباشا رأسه موافقا.
وحين دخلت كلية الحقوق وجدت الغالبية الكاثرة من الطلبة لم يشهدوا جلسة واحدة لمجلس النواب أو الشيوخ، بل إن أغلبهم لم يذهب إلى البرلمان في حياته ولا مرة واحدة، كان أبي يحرص على أن أكون معه أغلب الوقت دون إخوتي ، أما إخوتي فهم شامل الذي نال الدكتوراة من تولوز بفرنسا، ثم ارتقى في الوظائف بالشركات حتى وصل إلى رئيس مجلس إدارة شركة الأقطان بالإسكندرية، كما كان عضوا بمجلس الشعب في انتخابات 1976م، وكم أسعدني أن أمر معه في الدائرة، فكان الناخبون يقولون لي في وجهي: نحن لا ننتخب أخاك ولا ننتخبك، وإنما ننتخب أباك، وكان قد مر على وفاة أبي قرابة ربع قرن، فقد توفي في يناير 1952م، ولا شك أن أغلب الذين كانوا يقولون لي هذا من أبناء من عرفوه أو من أحفادهم، وكان ربع القرن هذا الذي يفصل بين وفاة أبي وبين الانتخابات فترة كلها هجوم على الباشاوات والسياسيين الذين يمثل أبي فيهم صورة جلية الملامح، ولهذا لم يكن غريبا أن أقول يوما للدكتور ثروت عكاشة وهو وزير للثقافة والإعلام نحن إقطاعيون ولو أن الثورة لم تأخذ منا مليما واحدا ولا سهما من أرض، فنحن لسنا أغنياء، ولكننا إقطاعيون بحب الناس لنا، وبحبنا للناس، وهو إقطاع لم تستطع الثورة ولن تستطيع أن تمسه أو تنقص منه.
وشامل يصغرني بسنتين وبضعة أشهر، فهو من مواليد أبريل 1930م وأنا لا أذكر أحداث اليوم الذي ولد فيه، وإنما نشأت وأنا أجده، وشامل شاعر متمكن وإن كان قليل النشر، وقد نظم الشعر في سن باكرة مع أنه نال بكالوريوس التجارة ويعتبر اليوم من أكبر خبراء الاقتصاد في شئون القطن، وقد نال الدكتوارة في الإصلاح الزراعي، وهو أخي الوحيد وله ابنة (هدى) الحاصلة على ماجستير في الآداب ومدرسة بكلية الآداب، وإبراهيم الحاصل على ليسانس الآداب، ولي بعد ذلك أختان أكبرهما زينات، وأذكر يوم ميلادها ذكرا هشا فقد ولدت بغزالة، وأذكر أن البيت كان هائجا وقيل لي إن ذلك الهياج كان بسبب حالة الولادة، وقد تزوجت زينات ابن عمنا طوسون أباظة الذي تربى في المدارس الإنجليزية، وهذا ما يجعلنا نمازحه ونعتبره خواجة وقد أنجب الزوجان ابنا هو أبو بكر ونال بكالوريوس التجارة، ويعمل بالبنوك، وابنة أسمياها دلبار على اسم جدتي لوالدي، وقد نالت بكالوريوس الطب ولم تعمل بها، وإنما تزوجت وتقيم مع زوجها في أمريكا، وقد نشأت زينات متعلقة بالأطفال منذ صغرها، وإن فيها حنانا لو وزع على الكرة الأرضية لملأها رحمة ومحبة.
وأختي الصغرى هي كوثر، وأذكر مولدها في حلوان، وكنت في التاسعة من عمري، وأذكر في يوم مولدها أن أبي كان جالسا في حجرته وحلا له أن يعلمني بعض كلمات في الإنجليزية فكتب عشر كلمات، وقال احفظ هذه الكلمات، فأخذت الورقة ونظرت فيها لحظة وأعطيتها له، فدهش وقال في غيظ: اسمع أنت لم تكن ترى الورقة، فإن كنت حفظت في هذه اللحظة الوجيزة كل الكلمات فسأعطيك عشرة قروش، وإن أخطأت في كلمة واحدة سأضربك.
وأبي لم يكن ضربني حتى ذلك اليوم إلا مرة واحدة يوم أخبرته المربية العجوز أنني أذهب إلى المدرسة دون أن أغسل وجهي، ولهذا وقع تهديده من نفسي موقعا مخيفا، ولكن الله ستر وأخذت القروش العشرة.
وكوثر أختي كانت تعتبرني المربي الأول لها، فقد كنت أخالطها أكثر مما تخالط أبي، ولهذا كانت في طفولتها تخشاني ولكن ما لبثت هذه الخشية أن زالت مع الزمن وحل مكانها الحب الذي يكون بين أخ وأخته لا يرنق صفاءه شيء، وقد تزوجت كوثر من الطبيب الشهير أحمد عبد العزيز إسماعيل نجل الطبيب العملاق الأشهر عبد العزيز باشا إسماعيل، وقد أنجبا بنتين هما سناء، وهي حاصلة على الدكتوراة من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية وتدرس بها، وهي متزوجة من المهندس شريف نجل المستشار العظيم الخريبي بك، وأختها وفاء حاصلة على الماجستير من نفس الكلية وزوجها د. محمد الخولي طبيب أطفال وابن الطبيب الشهير الدكتور الخولي، كما أنجبت أختي وزوجها ابنهما الوحيد عبد العزيز وهو مهندس.
تلك هي أسرتي، وقد شهد أبي زواج زينات وزواج كوثر، وقد صحبها زوجها إلى أمريكا بعد الزواج مباشرة ليكمل دراسته بها، ولم يشهد أبي زواج شامل فقد تم بعد وفاته، ولو كان شهده لفرح به وباركه كل المباركة، فقد اختار شامل شريكة حياته ابنة محمود فهمي النقراشي باشا الذي كان صديقا لأبي في مطالع شبابهما، ثم افترق الصديقان فترة حين نشأ حزب الأحرار الدستوريين عام 1922م وكان أبي من منشئيه وأصبح أبي حرا دستوريا، وظل النقراشي باشا في الوفد حتى خرج عليه هو وأحمد ماهر باشا عام 1938م ليكونا حزب الهيئة السعدية، وقد ألف النقراشي باشا الوزارة، وكان أبي وزيرا فيها معه، ونال الباشوية فيها وعادت الصداقة تربط بينهما من جديد كأنهما ما تفرقا، وظلا صديقين حميمين إلى أن استشهد النقراشي باشا على يد أحد مجرمي الإخوان المسلمين.
الفصل الثاني
تراني أسوق إليك الحديث في عفوية ودون إعداد، فأنا لم أضع خطة للحديث إليك، وإنما أترك حياتي تتواكب في ترسل تمسك فيها الواقعة بالواقعة والمناسبة بالمناسبة، وما هكذا عهدت الكتب التي كتبت في السيرة الذاتية، ولكن أي بأس علي وأي بأس عليك أن يكون حديثنا حديث صديق لصديق أو أخ إلى أخيه في غير تنسيق أو تبويب أو تجمل. فخذ بيدي ولنمض معا على هذا الطريق، وأنا وإياك على فيض الكريم.
كان من بين الجماعة التي تنظم حفلة تأبين حافظ إبراهيم الأستاذ العظيم كامل الكيلاني، وكان في هذه الأيام قد بدأ كتابة مؤلفاته الرائعة في أدب الأطفال أو قصص الأطفال إن شئت، وهي مكتبة ليس لها مثيل في الأدب العربي أجمع، فقد استطاع الأستاذ الكيلاني أن يبسط الأدب العالمي ويجعل الطفل في سن باكرة يتعرف على أمهات هذا الأدب، وقد كانت أعظم هدية أتلقاها من أبي في هذه الفترة هي كتب كامل الكيلاني، وأذكر وأنا في الثامنة من عمري أن الأستاذ الكيلاني أهدى عشرة كتب من مؤلفاته إلى أبي وأعطاني أبي الكتب، ودخلت إلى غرفتي وانبطحت أرضا، وبدأت أقرأ الكتب فما زلت بها حتى أتيت عليها وأنا في عالم سحري عجيب. أعتقد أن هذه السنوات كانت أجمل سنوات حياتي وأجمل أوقاتها هي تلك التي بدأت فيها أتعرف على الكتاب وأصاحبه صحبة دامت حتى يومنا هذا.
Bilinmeyen sayfa
وقد استطعت بفضل مكتبة الكيلاني أن أنتقل إلى الأدب الكبير دون أن أشعر بأي جهد ، فحين بدأت قراءته سيطرت علي متعة القراءة، وانتقلت بعد ذلك إلى تيمور، ثم في غير ترتيب زمني رحت أقرأ للعمالقة مبهورا بهالة العوالم التي تفتحت آفاقها أمام عقلي ووجداني وكياني كله وأنا أقرأ لطه حسين وهيكل والعقاد والزيات وأحمد أمين والمازني الذي كثيرا ما جعلني أقهقه وأنا أقرؤه وحدي في غرفة مغلقة، وتعلو قهقهتي ويسمعها الذين بخارج الغرفة، والله وحده يعلم ماذا كان يظن بي الجالسون خارج الغرفة.
وأذكر في هذه الأيام أنني كنت في مدرسة المنيرة الابتدائية، وقد تضحك كثيرا إذا علمت أنني كنت في فريق الكشافة، ورقيت في هذا الفريق حتى أصبحت رئيسا للفريق، وقبل أن أحصل على الابتدائية اشترى أبي بيتا جديدا في العباسية، وظللت بضعة أسابيع أستقل ترام رقم 22 لأذهب من العباسية إلى المنيرة، ولكن هذا كان يكلفني أن أصحو مبكرا عن موعد المدرسة بساعة أو أكثر، وقد عشت عمري أكره شيء إلى نفسي أن أبكر في الاستيقاظ، وما هذا إلا لأنني كنت أسهر إلى ساعات متأخرة من الليل أقرأ، وكانت القراءة تستهويني، وتبتلعني حتى ما أفيق إلى الساعة التي أنا فيها، وقد ظللت عمري كله لا أنام إلا بعد أن أقرأ، وقد أقرأ أربع ساعات متصلة أو أقل أو أكثر، ولكن لا بد أن أقرأ على أي حال، حتى في رأس البر، ولم تكن الكهرباء متاحة لي فكنت أضع على صدري بطارية جيب وأقرأ عليها حتى يخفت نورها وتصبح الكلمات غير مقروءة فأنام مرغما.
وهكذا انتقلت إلى مدرسة العباسية الابتدائية في منتصف العام الذي كان مفروضا أن أتقدم فيه لنيل الشهادة الابتدائية.
والحقيقة أنني ليست لي ذكريات كثيرة في مدرسة العباسية إلا أنه كان لنا مدرس حبيب إلى نفوسنا نحن التلاميذ اسمه التاجي أفندي، ومنذ أسابيع قليلة التقيت بطبيب يحمل نفس الاسم، فإذا به ابنه الذي يبلغني أن أباه - أطال الله عمره - يتمتع بصحة جيدة والحمد لله، وكان الأستاذ التاجي هو المسئول عن فريق الكشافة وما إن علم أنني كنت رئيس الكشافة في مدرسة المنيرة حتى جعل مني رئيس الكشافة في مدرسة العباسية أيضا.
ومن بين تلاميذ فصلي زميل لي لن أذكر اسمه حفاظا مني على حق الزمالة، جاء في الحصة رسول إلى هذا الزميل فأبلغه بموت أبيه فرحنا جميعنا نعزيه وخرج التلميذ، وانقضى العام وتفرق فصلي.
ومرت أعوام ودخلت إلى كلية الحقوق وأصبح أبي وزيرا للأوقاف من بين الوزارات التي تولاها في هذه الفترة، وفوجئت بهذا الزميل يرسل إلي خطاب توصية لأعين حامله إماما بأحد المساجد، واهتممت بالشيخ وأخذته معي في السيارة لأذهب به إلى وزارة الأوقاف، وبعد المنزل ببضعة أمتار توقفت السيارة في حاجة إلى بنزين فنزلت وناديت خادما من بيتنا ليأتيني من والدتي بثمن البنزين، وكان كل ما أطلبه لا يزيد على عشرة قروش، فقد كانت سيارتي صغيرة وكان البنزين يباع في هذه الأيام بوحدة الجالون، وكان الجالون أربعة لترات، وقد كانت كافية أن أسير بالسيارة يومين أو أكثر، وفي انتظار القروش العشرة نزلت من السيارة أنا والشيخ، وإذا بالشيخ يخرج من جيبه ظرفا فيه بضعة نقود جديدة قدرت بالنظرة السريعة أنها خمسة جنيهات وقدم الشيخ النقود إلي، وفي لحظة وجدت الدماء تصعد إلى رأسي، وأتناول النقود وأمزقها وألقي بها إلى الأرض وما زلت ألوم نفسي على هذا الذي فعلته حتى اليوم، لا يخفف عني اللوم إلا أنني حين مزقت النقود لم أجعلها غير صالحة للاستعمال بعد ذلك.
وطردت الرجل الذي راح يلملم النقود وانصرف، ومرت السنوات وتزوجت وأقمت بشقة بالزمالك، وكنت مع زوجتي في سينما في الحفلة الأخيرة وعدت إلى منزلي الساعة الثانية عشرة مساء تقريبا، فوجدت هذا التلميذ الذي أبلغ بموت أبيه في فصلنا بالعباسية ودهشت لوجوده، فإذا به يبلغني أن أباه مات اليوم، وأنه لا يملك ما يدفنه به وطلب مني مبلغا من المال لم يكن من اليسير وجوده في هذه الأيام ورحنا أنا وزوجتي نجمع ما معنا حتى أكملنا المبلغ وأعطيته له وأنا أعلم كذبه، وأغلب الأمر أنه نسي أنني شهدت علمه بموت أبيه قبل اليوم الذي قصد إلي فيه بأكثر من أحد عشر عاما ولعله توهم أنني نسيت ذلك اليوم.
ولم أقل له إنني أذكر يوم وفاة أبيه، ولكنني لم أره بعد ذلك اليوم، ولعله رأى في عيني ما حاولت أن أخفيه عنه.
انتقلت بعد ذلك إلى مدرسة فاروق الثانوية وربما كانت أفخم مدرسة في مصر في ذلك الحين، فقد كانت حديثة الإنشاء والذي أنشأها رجل التعليم الشهير الأستاذ إسماعيل القباني على أساس أن تكون مدرسة نموذجية، وتولى هو نظارتها، ولكنني حين ذهبت إليها كان قد تركها، وكان الناظر فيها الأستاذ العظيم عبد الواحد بك خلاف، ثم تلاه الرجل العظيم الآخر نجيب هاشم الذي أصبح بعد ذلك وزيرا للتعليم، ثم سفيرا لمصر في الفاتيكان. ولعله من الطريف أن أروي أنه كان سفيرا في أول مرة أزور أنا فيها روما مقر سفارته، وقبل سفري عثرت على خطاب منه إلى أبي يشكو فيه من كثرة تغيبي عن المدرسة، وعلى ظهر الخطاب رد أبي الذي كتبه لينقله سكرتيره ويرسله إلى حضرة الناظر، وكان خطاب أبي يحث نجيب بك أن ينزل بي ما يشاء من عقاب، وأن أبي من جهته سيحرص على ألا أتغيب عن المدرسة، وقد استقبلني نجيب بك في روما أحسن استقبال وقدمت له هذا الخطاب الذي لا يشرفني، وضحكنا كثيرا مما يحويه، وقد تفضلت السيدة الكريمة باصطحابي أنا وزوجتي إلى كثير من معالم روما ونوافيرها، وكنت في ذلك الحين قد أصبحت أديبا معروفا وكنت حصلت قبل زيارتي لروما بعشر سنوات على جائزة الدولة التشجيعية، وهكذا كان نجيب بك سعيدا بي سعادة أب بابنه، وقد كان محقا في شكواه من تغيبي فقد كنت قارئا متهوسا، ولم أكن أترك المدرسة لأذهب إلى أي مكان، وإنما كنت أنزل من الطابق الأعلى في بيتنا وأتسرب إلى حجرة في الطابق الأدنى وأقفل الباب وأروح أقرأ في كتب الأدب.
وكان كبير الخدم عندنا اسمه عم أحمد، وكنا نناديه بلقب عم أحمد توقيرا له، وفوجئت يوما وأنا في خلوة قراءتي بباب الحجرة يكاد ينخلع من شدة الخبط عليه، وفزعت إلى الباب وفتحته، فإذا بوالدتي أمامي تتميز من الغيظ، ولولا أنني كنت قد تجاوزت الطفولة إلى مطالع الشباب لانهالت علي ضربا، وأمرتني أن أذهب إلى المدرسة فورا، فقد كانت أمي حريصة حرصا مبالغا فيه أن أنال الشهادة العالية لدرجة أنني كنت إذا ظهرت نتيجة العام وأنا لي ملحق في مادتين أو أكثر تمرض والدتي بضعة أيام وتمتنع عن الطعام. وكان حزن والدتي يتمثل في النوم، كانت إذا حزنت نامت، وهذا من لطف الله بها وكانت رحمها الله تستحق هذا اللطف من الله، فإني لم أعرف أما رءوما في مثل حنانها، وكانت تعين البائسين وذوي الحاجة، وتسعى لهم لدى أبي حتى يقضي حوائجهم، ولا أذكر أنها تأخرت عن قاصد لها مطلقا.
Bilinmeyen sayfa
لم أنته بعد من قصة أمي وضبطها لي متخلفا عن المدرسة، عدت من المدرسة وذهبت إلى والدتي، وكانت - رحمها الله - قريبة الرضى، وظللت أتلطف معها حتى عرفت أن الذي أبلغها بعدم ذهابي إلى المدرسة هو عم أحمد، ومن العجيب أنني في هذه السن قدرت له ما فعل وشكرته في نفسي، فما كان يبغي إلا مصلحتي من وجهة نظره، وبحثت عنه فقيل لي إنه ذهب إلى البلد هو وأسرته الكبيرة، وكلهم من بلدتنا غزالة، ولكنه كان يقيم مع زوجته وأولاده ببيتنا بالعباسية بحجرة بالبدروم، وكانت حجرته دائما غاية في النظام والنظافة، فقد كان هو دائما حسن الهندام نظيفا، وكذلك زوجته أم زكية التي أرضعتني على ابنها عبد العظيم، وكثيرا ما كنت أزورها في حجرتها بالبدروم، بل كثيرا ما كنت أتناول طعامي في هذه الحجرة.
طالت غيبة عم أحمد بالبلدة وهمس لي سائقنا الذي كان من البلد أيضا أن عم أحمد لن يعود. - لماذا؟ - لأنه قدر أنك ستكون غاضبا عليه.
ودهشت من إخلاص هذا الرجل، لقد وازن بين بقائه في عمله الذي هو مورد رزقه الوحيد وبين أن يغمض عينيه عن تخلفي عن المدرسة، الأمر الذي قد يؤدي إلى عدم فلاحي كما يعتقد، فأبلغ والدتي بأمري وترك عمله وتوكل على الله، وقد كان لصيقا بأبي، فقد كان خادمه الخاص، وكان يسافر معه أوروبا، ويعرف كيف يريحه ويلبي كل طلباته دون أن يطلبها، فقد قضى حياته كلها مع أبي هو وأبوه كذلك، وأقاربه جميعا يعملون في الأرض عند أبي.
سارعت فطلبت عم أحمد في غزالة بالتليفون، وطبعا لم يكن ببيتنا هناك، ولكني طلبت من الذي أجابني بالبيت أن يناديه لينتظر مني مكالمة ... وكلمته. - ماذا يا عم أحمد ... لماذا لم تأت؟
فقال في صوت به آثار ضحك: أتريدني أنت أن أجيء؟ - طبعا. - بكرة سآتي.
وأرجو الله أن أكون قد أكرمت هذا الرجل على قدر ما شهدت من تضحيته وحبه وإخلاصه لنا.
في مدرسة فاروق بدأت رحلتي مع الملاحق، فكنت دائما أنتقل من السنة إلى الأخرى بملحق حتى حصلت على شهادة الثقافة، وهي تعطى لمن يتجاوز الامتحان في السنة الرابعة الثانوية، وهي السنة السابقة على شهادة التوجيهية التي أصبح اسمها الثانوية العامة.
وقد كان يوم حصولي على شهادة الثقافة يوما مشهودا في حياتي، كنت في ذلك اليوم أترقب ظهور مقالتي الثانية في مجلة الثقافة التي كانت تصدرها لجنة التأليف والترجمة والنشر، وهي أعظم لجنة أدبية عرفها تاريخ مصر، فقد كانت تضم عمالقة الأدب جميعا بلا استثناء.
ومع أنني كثيرا ما رويت كيف نشرت أول مقالة لي في حياتي إلا أنني أعتقد أنني لن أستطيع أن أقدم إليك هذا الكتاب دون أن أذكر بداية حياتي مع الكتابة، وأنا قبل كل شيء وبعد كل شيء كاتب، وفي العام القادم أكون قد قطعت من عمري خمسين عاما في الكتابة.
كنت طالبا في الثقافة السنة الرابعة الثانوية في مدرسة فاروق الأول الثانوية، وكان يدرس لنا اللغة العربية أستاذ طيب اسمه الأستاذ ضاحي كتبت له موضوع إنشاء استعملت فيه كلمة تساءل فيما أذكر، فإذا يضع تحتها خطا ويقول لي: تساءل على وزن تفاعل، وتفاعل لا تكون إلا في تبادل الشيء بين شخصين فاستعمالك لها غير صحيح.
Bilinmeyen sayfa
وعجبت من هذا الذي يقول، فما إن ذهبت إلى المنزل حتى هرعت إلى القاموس وما لبثت أن تبينت أن الأستاذ أخطأ خطأ فادحا، وكان خطأ الأساتذة في ذلك الحين كبيرة من الكبائر، كتبت كلمة عنوانها تصحيح أوراق، وكان الأستاذ الشاعر العظيم العوضي الوكيل قد عرف أبي وعرفني بصديق امتدت صداقتي الوطيدة به حتى اختاره الله إلى جواره هو الأستاذ عثمان نويه. وكان والد عثمان نويه يعمل في ذلك الحين مدرسا بمدرسة خليل أغا زميلا للشاعر العوضي الوكيل شيخا معمما، وكان والدي زميلا لأحمد بك أمين الذي كان في ذلك الوقت عميدا لكلية الآداب، وأديبا من أدباء الصدارة في العالم العربي، وكان قبل ذلك زميلا لوالد عثمان نويه في مدرسة القضاء الشرعي، وكان أحمد بك أمين يعتبر نفسه والدا روحيا لابن زميله عثمان نويه.
قرأ عثمان نويه الكلمة الصغيرة التي كتبتها عن خطأ الأستاذ وقال سأعرضها على أحمد بك أمين.
وانتظرت عودة عثمان من زيارة أحمد بك أمين بصبر نافد، فقد كنت في السادسة عشرة من عمري، وكان نشري بمجلة الثقافة التي كانت تحتل هي وأختها الرسالة مكان الصدارة في الحياة الأدبية أمرا يفوق كل أحلامي.
وعاد عثمان نويه، وقال إن أحمد بك رضي عن الكلمة وسينشرها، ولم أصدق ورحت أسأل عثمان عن تفاصيل ما دار بينه وبين العميد الجليل، فقال إنه قرأها ... سأل: هل هي لمدرس زميلك؟
فقال عثمان في سرعة بديهة: بل هي لصديق محام.
ولم يجرؤ أن يصارحه أنها لطالب في الثقافة، ونشرت الكلمة، وكان زملائي في مدرسة فاروق يقرءون الثقافة والرسالة ويهتمون بالأدب حتى أننا أنشأنا لأنفسنا مكتبة خاصة في الفصل يضع فيها التلاميذ كل الكتب التي يشترونها في دولاب أحضرته أنا من منزلنا، وتظل الكتب في الفصل طوال العام الدراسي، ويسترد كل تلميذ كتابه بعد أن يكون الفصل كله قد قرأه.
ولم أكن أخبرت أحدا من زملائي شيئا عن كلمتي التي أرسلتها للثقافة فكانت المفاجأة مذهلة وعرف الزملاء أنني صاحب الكلمة على الرغم من أنني وقعتها بتوقيع: «تلميذ قديم»، وتبادل تلاميذ المدرسة كلها وأساتذتها أيضا قراءة الكلمة، واستدعاني نجيب بك هاشم - رحمة الله عليه - وطلب إلي في لطف وكياسة ألا أهين أساتذتي وأذكر أنني قلت له: ما دمت أملك قلما فلا يستطيع أحد أن يظلمني. ولك أن تقدر كبر هذه الكلمة من صبي يافع ما زال تلميذا بالثانوي. ولم تنشر له إلا كلمة صغيرة بدون توقيع، وحتى يومنا هذا كلما ذكرت هذه الكلمة تأكد عندي أن الغرور لا يكون إلا مع المبتدئين، وأنه يتلاشى ويتخافت ويذوب كلما كبر المرء وبلغ مبالغ النضج.
كان من الطبيعي بعد أن نشرت الكلمة أن يصارح الأستاذ عثمان نويه أحمد بك بأن الكاتب تلميذ بالسنة الرابعة الثانوية، وطلب أحمد بك أن يلقاني وذهبت إليه، وكانت بداية تلمذة مني للأديب العملاق، وقد طلب إلي أن أقرأ بعض كتب التراث وسمى لي أسماءها، وسارعت إليها وقرأتها جميعا ووجدت في قراءتها متعة عظيمة، أذكر منها على سبيل المثال كتاب العمدة لابن رشيق، وكتاب الكامل للمبرد وغيرهما وغيرهما، وقد جعلني هذا أقرأ كتاب الأغاني ولم أستطع أن أكمله إلا حين أهدى إلي عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين كتاب الأغاني مختصرا ومرفوعا منه العنعنة الذي حققه هو والأستاذ إبراهيم الإبياري، وقد قرأت هذا الكتاب أكثر من مرتين أو ثلاث.
وأعطيت أحمد بك أمين مقالة أخرى عنوانها «شعراء مغمورون»، وكتبت فيها عن الأستاذ أحمد القرعيش والأستاذ توفيق العوضي أباظة.
وما لي لا أذكر لك ما اخترته لكل من الشاعرين في هذه المقالة.
Bilinmeyen sayfa
أما الأستاذ أحمد القرعيش فقد أخذت له هذه الأبيات:
قالت: أحبك صادق؟
قلت: الدلائل قاطعات
قالت: وعهدك؟ قلت:
باق ما رعت عهدي الحياة
قالت: وحبي؟ قلت: فصل
مثلته الغانيات
قالت: وعهدي؟ قلت:
ذاك هو الأماني الكاذبات
ضحكت وقالت: هكذا
Bilinmeyen sayfa
من قبلك العشاق ماتوا
أما أبيات توفيق العوضي، فقد كانت خطابا منه إلى المستشار الأديب المحقق جمال الدين بك أباظة عم الشاعر العملاق عزيز باشا أباظة، وفي الأبيات يشكو توفيق إلى جمال بك ابن أخيه أنه أرسل إليه خطاب تحية فلم يرد عليه، تقول الأبيات :
جمال الدين والدنيا سلاما
يضوع شذى كأنفاس الخزامى
وبعد فهل أتاك حديث قوم
نكلمهم فيأبون الكلاما
بعثت إلى عزيز القول شعرا
أحييه فما رد السلاما
فإن يك أكبر الشعراء طرا
وأعظمهم وأسماهم مقاما
Bilinmeyen sayfa
فقد نادى إله الناس موسى
وناجى العبد من خلق الأناما
وبنت النمل كلمها نبي
وبادلها المحبة والوئاما
فلست أقل من نمل ضعيف
وليس أجل من ملك تسامى
وكان إعطائي المقالة لأحمد بك أمين مواكبا في الزمن مع فراغي من الامتحانات واستعداد منزلنا للذهاب إلى رأس البر للمصيف، فقد كانت الحرب العالمية على أشدها وانتقل المصطافون من الإسكندرية إلى رأس البر.
وذهبنا إلى رأس البر، ومكثت أترقب ظهور المقال، وقد كنت لا أطيق أن أبحث عنها مع بائع الجرائد، بل كنت أستبق الزمن وأذهب إلى شارع النيل في رأس البر أنتظر المركب الذي كان يأتي بالصحف، وأشتري المجلة، ولكني لا أجد بها المقالة فتضيق بي الحياة، وأحسب اليوم أن انتظاري لظهور المقال كان يؤزني إذا لم أشعر به في انتظار نتيجة شهادة الثقافة، وكنت قد أخبرت أبي أنني أعطيت مقالة لأحمد بك أمين، وكان يشعر بحزني كلما ظهر عدد من مجلة الثقافة وليس به مقالتي.
حتى كان ذلك اليوم المشهود الذي بدأت به هذا الحديث إليك، في ذلك اليوم ذهبت أستحم في البحر، وطبعا نزلت إلى البحر بدون نظارة النظر التي كنت قد بدأت لبسها قبل هذه الفترة بسنتين تقريبا وأنا بها أرى حتى السطر الأخير من اللوحة بدرجة 6 / 6 وبغيرها يكون نظري ضعيفا لا أستطيع أن أحدد الأشياء البعيدة.
وفي البحر استطاع بصري أن يرى عن بعد رجلا مسنا يحتزم بقرعتين ليعيناه على البقاء طافيا على سطح الماء، ولا أدري لماذا اقتربت من هذا المسن، ربما لأنني منذ طفولتي أحس حنينا لكبار السن، وربما لأنني عجبت من استعمال القرع المجفف للطفو وكانت العجلات هي المستعملة في هذا الغرض.
Bilinmeyen sayfa
وفوجئت حين اقتربت أن هذا الرجل لم يكن إلا أستاذنا العظيم أحمد بك أمين الذي لقيني أجمل لقاء، وسألته عن مصير مقالتي فقال لي شيئا لم أكن أتوقعه قط، قال إنهم لم يشاءوا أن ينشروا شيئا عن عزيز بك أباظة، ولم يكن قد نال الباشوية بعد، وأنهم أرسلوا إليه خطابا يستأذنونه في نشر أبيات توفيق العوضي عنه، وقد أعجبت كل الإعجاب بمنطق المجلة وبخلق المشرفين عليها، وقلت لأحمد أمين إنني أستطيع أن أرسل أبياتا أخرى غير هذا فقال: «يكون أحسن.» وملأت نفسي الفرحة، وخرج أحمد بك من البحر وتبعته أنا ذاهبا إلى عشتنا وأخبرت أبي بسبب تأخير نشر المقالة، وبعد الظهر من اليوم نفسه ذهبت إلى مسرح برأس البر وحجزت لنفسي تذكرة لمشاهدة عميد الفن الكوميدي في مصر والشرق نجيب الريحاني، وعند عودتي كانت الشمس لم تغرب بعد، وإنما تميل إلى الغروب وجدت عامل تلغراف يدور بين العشش تائها، سألته عمن يريد؟ فقال: أريد عشة دسوقي بك أباظة. قلت له: أنا ابنه. فسلمني برقية من قريبنا المرحوم الأستاذ عبد الله عوضي أباظة الذي كان مدرسا بالثانوي، وكانت البرقية تحمل تهنئة بنجاحي في شهادة الثقافة، ومنذ ذلك اليوم وأنا أستبشر خيرا كلما رأيت الريحاني في السينما أو في التلفزيون، ذهبت في اليوم نفسه إلى عشة أحمد بك أمين ووجدت عنده العلامة القانوني العظيم السنهوري باشا، وسلمت أحمد بك مقالة أخرى فيها أبيات لتوفيق غير هذه التي أوقفت النشر.
وهكذا كان هذا اليوم يوما مشهودا في حياتي كما ترى، حدث بعد ذلك أن رافقت أبي إلى بلدتنا غزالة، وكانت المقالة قد نشرت، فوجدت الأستاذ القرعيش قد نظم أبيات تحية لي سأذكر البيت الأول منها فقط؛ لأنها تؤرخ الفترة جميعها يقول في مطلع الأبيات:
نال الثقافة وازدهى
ببراعة صدر الثقافة •••
في غمرة حديثي عن تلك المرحلة لم أذكر أن أبي تولى الوزارة لأول مرة في 26 يونيو سنة 1941م، وكنت في السنة الثالثة الثانوية، وكان توليه الوزارة قبل تاريخ مولدي بيومين، وقبل أن يتولى أبي الوزارة كان حزب الأحرار قد رشحه لرياسة مجلس النواب بينما رشحت الهيئة السعدية أحمد ماهر باشا وكان رئيس الوزارة المرحوم حسن صبري باشا، وقصة هذا الرجل مع أبي عجيبة، فقد حدث في سنة 1938م أن أبي كان بصفته سكرتير عام حزب الأحرار يقوم بإعداد أسماء مرشحي الحزب في الانتخابات، وكان رئيس الوزراء محمد محمود باشا، ولم يشترك أبي في الوزارة، وكان هذا موضوع دهشة كبرى من الناس ألا يشترك سكرتير عام الحزب في الوزارة، ولكن محمد باشا اعتذر له اعتذارا شديدا، وجد أبي نفسه مضطرا أن يقبله لما لمحمد باشا محمود من مكانة خاصة في نفسه، وبينما أبي مشغول بإعداد الانتخابات كلمه حسن باشا صبري في التليفون وكان في ذلك الحين وزيرا في وزارة محمد باشا، وكان مقربا من الإنجليز، وطلب إلى أبي أن يضع أحد الأسماء مرشحة في دائرة معينة، ولكن أبي اعتذر بأن هذه الدائرة بها عضو قديم في الحزب؟ ولا يستطيع أن يتخطاه فإذا بحسن صبري يقول لأبي: أتناقشني؟!
فوضع أبي سماعة التليفون في وجهه ...
وبعد ذلك ببضعة أشهر حدثت في الوزارة أزمة استدعت إخراج وزير الزراعة من وزارته، وكان مجلس الوزراء مجتمعا حين قال محمد باشا للوزراء إنه مضطر أن يفض الاجتماع؛ لأنه على موعد مع الملك ليوقع منه مرسوم تعيين وزير الزراعة، وسأله الوزراء: من الوزير؟
وقال محمد باشا: إنه برلنتة (أي شخص من ألماس). - من؟! - دسوقي أباظة.
فإذا حسن صبري باشا يقول: إذا دخل دسوقي أباظة الوزارة من هذا الباب، فسأخرج من الباب الآخر؟
وهكذا لم يعين أبي وزيرا في وزارة محمد باشا محمود، وظلت الوزارة بغير وزير زراعة حتى استقالت.
Bilinmeyen sayfa
وجاءت بعدها وزارة مستقلة يرأسها علي باشا ماهر لم يشترك فيها أحزاب.
ثم ألف بعد ذلك حسن صبري الوزارة، وكان طبيعيا ألا يشترك أبي في وزارته.
ولعل القارئ يدهش أن أبي رغم هذا الذي فعله معه حسن باشا صبري كان دائم المديح له في العلن، ولنا نحن أبناءه والمقربين إليه، فإنني لم أجد أحدا في العالم ولا في التاريخ يفصل بين الحق وبين مشاعره الشخصية، كما كان أبي يفعل.
وبهذه المناسبة أذكر لأبي قصة جديرة بأن تروى، كان المدرس الخاص الذي يدرس لي مادة الرياضة على صلة وثيقة بأسرة وزير وفدي كبير، وكنت خليقا أن أذكر اسم الأستاذ لولا خشيتي أن يكشف اسمه عن شخصية الوزير الوفدي، وهو أمر لا أقبله، فإنني إن فعلته أكون بهذا قد خرجت عن النهج الذي انتهجه أبي، والذي سيتضح لك من هذه القصة، جاء أستاذ الرياضة، وطلب إلى أبي أن يحدد موعدا ليلقاه فيه أخو الوزير الوفدي الكبير، وجاء الأخ والتقى بأبي وإذا به يقدم أوراقا لأبي تثبت أن الوزير الوفدي يأكل أموال إخوته ويغتصبها لنفسه، وطلب الأخ إلى أبي أن ينشر هذه الوثائق في جريدة السياسة التي كان يصدرها حزب الأحرار الدستوريين، وإذا بأبي يقول له: يا ابني نحن لا نحارب خصومنا السياسيين بالإيقاع بينهم وبين إخوتهم وأسراتهم، فهذه الأمور لا تتصل بالسياسة الشريفة، أنا لا أعرف أخاك معرفة شخصية، ولكنني مستعد أن أدعوه إلى بيتي، وأدعوك أنت وإخوتك معه وأصفي ما بينكم من خلافات في جلسة أسرية، أما أن أنشر هذه الخلافات الخاصة فليس من أخلاقنا.
وانصرف أخو الوزير الوفدي ومعه أوراقه.
ونعود إلى حسن باشا صبري.
وحدث أن اختلف السعديون مع حسن باشا صبري، وتركوا الوزارة، وجاء موعد انتخابات الرئاسة لمجلس النواب، وكان رئيس المجلس أحمد باشا ماهر، وكان لا بد أن تجرى الانتخابات حسب النص الدستوري، ورشح حزب الأحرار أبي كما قدمت، وكان نجاح أبي مرجحا.
وفي أثناء حملته الانتخابية، وقبل موعد الانتخابات بيومين، كنا جالسين مع أبي أنا وخالي علي واثنان أو ثلاثة من الأصدقاء وكان باب المكتب مغلقا، ففوجئنا بالباب يفتح بقوة، وتشريفاتي رئيس الوزراء واقفا به، وكان اسمه الأستاذ ميشيل ساويرس، وكان معروفا بأدبه الجم، وكان يعمل مع كل رؤساء الوزراء؛ لأنه لم يكن له شأن بالسياسة مطلقا، وإنما كان خبيرا بشئون وظيفته، صاح ميشيل ساويرس في دربة ومران: دولة رئيس الوزراء.
وقام أبي إلى بهو المنزل، وتبعناه، ورأينا حسن باشا صبري يحتضن أبي وهو يقول: أهلا سعادة رئيسنا العظيم.
ورحب به أبي ودخلا معا إلى حجرة الاستقبال، وأغلقت عليهما الأبواب، وبقي معنا في المكتب ميشيل ساويرس نتحدث في أي شيء ما عدا السياسة.
Bilinmeyen sayfa
وطالت الجلسة بين أبي وبين رئيس الوزراء، وأخيرا خرجا وودع أبي رئيس الوزراء وشملنا الحبور، فلو لم يكن نجاح أبي مرجحا ما زاره رئيس الوزارة لتصفو علاقته به، فقد أدرك أن الأمور لن تستقيم إلا إذا كان رئيس مجلس النواب على علاقة طيبة مع رئيس الوزراء.
وجاء موعد الانتخابات، وبدأ اليوم بداية طبيعية، وقد كان لافتتاح البرلمان في ذلك العهد مراسم رائعة. كان الملك يركب عربة تجرها خيول، والعربة مفتوحة وتسير في طرقات القاهرة من عابدين إلى مجلس النواب، ويكون رئيس الوزراء بجانب الملك في هذا الموكب تحف بهما الخيول يركبها الحرس الملكي ويتقدم الموكب الموتسيكلات وتقف جموع الشعب على الصفين تصفق وتهلل، شأنها دائما، حتى يصل الموكب إلى دار البرلمان وتنطلق المدافع مؤذنة بوصول الموكب، ويدخل الملك إلى قاعة مجلس النواب، ويجلس بين تصفيق الأعضاء على كرسي العرش بالمجلس الذي لم يعد موجودا الآن بالقاعة، وإنما نقل إلى متحف مجلس النواب، وبعد ذلك يبدأ رئيس الوزراء في إلقاء خطبة العرش، وكان المفروض أن الملك هو الذي يلقي خطبة العرش، ولكن لأن الدستور النيابي بدأ في عهد الملك فؤاد الذي كان لا يجيد العربية فقد استقر العرف الدستوري على أن يلقى رئيس الوزراء خطبة العرش باسم الملك فيقول: «وستعمل حكومتي»؛ لأنه يتكلم بلسان الملك لا بلسان رئيس الوزراء.
بدأ حسن باشا صبري يلقي الخطبة، ولكن فجأة يسقط حسن باشا صبري على الأرض مصابا بأزمة قلبية لا تمهله دقائق ويلقى ربه، ويقوم الملك عن عرشه إلى حجرته بالمجلس ويعلن تأجيل افتتاح البرلمان لأول مرة في التاريخ ولآخر مرة أيضا، فإن هذا الحدث ليس من شأنه أن يتكرر ويموت رئيس الوزراء، وهو يلقي خطاب العرش، بل أحسب أن هذا الذي وقع لم يقع في أي بلد آخر على مدى تاريخ الحياة النيابية في العالم.
وألف الوزارة بعد حسن صبري المرحوم حسين سري باشا، ولم يشرك في الوزارة رشوان محفوظ باشا الذي كان طامعا فيها كل مطمع. ويغضب رشوان محفوظ فيطلب من أنصاره من نواب الصعيد ألا ينتخبوا مرشح الحزب الذي ينتمي إليه والذي كان أبي رغم صداقة رشوان باشا لأبي، فينسلخ من أنصار أبي أكثر من سبعة عشر صوتا، ويصنع الصنيع نفسه حفني محمود شقيق محمد باشا محمود للأسباب نفسها التي أغضبت رشوان محفوظ، وكان أنصار حفني محمود حوالي عشرة نواب، وهكذا يفقد أبي قرابة خمسة وعشرين صوتا ولم يكن محتاجا إلا لأحد عشر صوتا لينجح.
وهكذا شاء الله أن يسيء حسن صبري باشا إلى أبي حيا وميتا، حيا حين رفض أن يزامله في الوزارة، وميتا حين تسبب موته في انسلاخ ما يقرب من خمسة وعشرين صوتا عن انتخاب أبي لرئاسة مجلس النواب.
كان محمد باشا محمود على قيد الحياة أثناء هذه الانتخابات، ولكنه كان مريضا لا يترك غرفته، وقد زاره أبي وأبدى الرجل العظيم أسفه لتفتت كلمة الحزب وكان أكبر أسف الزعيم النبيل الذي اشتهر بهذا اللقب ما فعله أخوه حفني وما فعله قريبه رشوان محفوظ، ولكن أبي قال له ليخفف عنه سخطه على الحزب: إن الانتخابات قد جرت في غيبة الزعيم، وحين تسترد صحتك إن شاء الله ستعود وحدة الحزب وسيسترجع تماسكه.
وشاء الله أن يختار محمد باشا محمود إلى جواره، وانقسم الحزب حول الرئيس الجديد، حول من يختاره خليفة للزعيم الراحل، منهم من كان يؤيد مصطفى باشا عبد الرازق وعلى رأسهم أحمد باشا عبد الغفار لصلته الوثيقة بأسرة عبد الرازق وبحجة أن هذه الأسرة قد ضحت باثنين من زعمائها في سبيل الحزب.
والفريق الآخر كان يؤيد الدكتور محمد حسين هيكل باشا مرتئيا أنه أكثر خبرة بالحياة السياسية من مصطفى باشا الذي عرف عنه العزوف عن المجادلة أو المصاولة.
وأنت ترى كم كان كل مرشح من المرشحين يمثل قمة في الثقافة العربية وواجهة مشرقة مضيئة لمصر حتى يومنا هذا.
على أيه حال رأى الحزب أن يلجأ إلى عبد العزيز باشا فهمي يرجوه أن يقبل الرئاسة لفترة قصيرة حتى يستقر الحزب على واحد من المرشحين العلمين.
Bilinmeyen sayfa
وقبل عبد العزيز باشا رغم ضعف صحته، وأصبح رئيسا للحزب، وانتخب هيكل باشا نائبا لرئيس الحزب.
حين أصبح عبد العزيز باشا فهمي رئيسا للحزب، فإن أول ما قاله لأبي أنه لم يقبل رئاسة الحزب إلا ليرفع الظلم الذي أوقعه الحزب على أبي مرتئيا أن بقاءه بعيدا عن الوزارة طوال هذه المدة يدل على أن الحزب لا يعرف كيف يقدر رجاله، وكان عبد العزيز باشا يحب أبي غاية الحب، وأغلب الأمر أن ذلك الحب يرجع إلى تقارب أخلاق الرجلين تقاربا لصيقا، فقد كان كلاهما لا يخشى في الحق لومة لائم ولا يمنعه شيء عن محاربة الظلم وعن الانتصار للعدالة والشرف مهما تكلفا في سبيل ذلك من خسائر مادية كانت هذه الخسائر أم كانت أدبية، وكان عبد العزيز يضع يده على صدر أبي ويمررها عليه وهو يقول: هذا الصدر كله إخلاص، كله إخلاص. ويكررها.
وكنت أزور عبد العزيز باشا فهمي في رفقة صديق عمري عبد الفتاح الشناوي فكان يقول: «مفيش زي أبوك في كل السياسيين دول، مفيش زي أبوك.»
وأهداني مرة كتابه عن الحروف اللاتينية فكتب الإهداء: «لسيدي ثروت بك أباظة»، وكدت أدوخ من هول الكلمة الصادرة عن هذا الجبل الشامخ من العلم والسياسة والقانون والوطنية، وكنت ذاهبا في ذلك اليوم إلى عمي عزيز باشا أباظة، وكانت معي تجارب روايته العباسة، فلم أترك حقيبتي في السيارة، وإنما صحبتها معي، وقلت لعمي عزيز: تصور أن عبد العزيز باشا فهمي كتب لي إهداء يقول فيه كذا!
ولم يصدق عزيز باشا، وقال لي: الفضاء واسع.
وهي عبارة تقال حين يسمع الإنسان شيئا يتصور أنه «فشر»، ففتحت حقيبتي وأنا أقول: ولماذا؟ لا واسع ولا ضيق، هاك الكتاب.
وقرأ عزيز باشا الإهداء وبدا عليه الذهول الذي أصابني.
نعود إلى عبد العزيز باشا فهمي وأبي والوزارة، فوجئ أبي بعبد العزيز باشا فهمي يقول له: الرجل حسين سري يعتمد على حزب الأحرار وحده في المجلس ولا يمثل الحزب إلا خمسة وزراء فقط.
وبجرأة عبد العزيز باشا فهمي المعروفة قابل حسين سري، وأصر أن يمثل الأحرار الدستوريين في الوزارة سبعة وزراء، وتم التعديل فعلا في 26 يونيو سنة 1941م، ودخل أبي وزيرا للشئون الاجتماعية ورشوان محفوظ وزيرا للزراعة.
واستقبل تعيين أبي وزيرا برنة فرح كبرى في الشرقية وفي مصر جميعها، وأذكر أن مصورا فوتوغرافيا كان في شارع من أهم شوارع القاهرة وضع صورة أبي ورشوان باشا في معرض صوره الذي يطل على الشارع وكتب تحتها بخط أنيق: الوزيران الجديدان.
Bilinmeyen sayfa
بقيت هذه الوزارة في الحكم قرابة شهر، وكانت الشرقية تقيم حفل تكريم لأبي بمناسبة توليه الوزارة، وكان اليوم المحدد لهذا التكريم هو اليوم الذي استقالت فيه الوزارة، وكان سبب الاستقالة أن سري باشا كان قد أزال الخلافات التي كانت بينه وبين الحزب السعدي، وتم الاتفاق بينهما على أن يشارك الحزب السعدي في الوزارة ويمثله فيها خمسة وزراء، فكان طبيعيا أن تستقيل الوزارة ويعاد تشكيلها وينقص عدد الوزراء من حزب الأحرار الدستوريين إلى خمسة وزراء بدلا من سبعة، وكان طبيعيا ألا أذهب أنا أيضا إلى الزقازيق لحضور الحفلة فقد كنت يومها لا أدري إن كان المكرم أبي سيظل في الوزارة أم سيخرج منها.
وفي الساعة الرابعة من بعد ظهر اليوم دق جرس التليفون في منزلنا وكان أبي نائما في القيلولة، فما كان - رحمه الله - يعنيه أن يبقى في الوزارة أم لا يبقى، فقد كانت شخصيته أكبر من أي منصب، رفعت سماعة التليفون وجاء في الصوت على الطرف الآخر: منزل معالي الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظة. - نعم. - معالي الوزير موجود؟ - من يريده؟ - مجلس الوزراء؟
فلم أشأ أن أخبره أن أبي نائما وإنما تجرأت وقلت للمتحدث: نعم موجود.
وتجرأت مرة أخرى وأدخلت التليفون إلى أبي في قيلولته، وكان المتحدث يستدعي أبي للذهاب إلى مجلس الوزراء في الساعة السادسة، ووعد أبي بالحضور، وطلب مني أن أتركه ليكمل قيلولته، وكأن شيئا لم يحدث، كم كان عظيما لا يهزه عاصف من فرح أو غيره.
وعاد أبي إلى الوزارة في وزارة الشئون الاجتماعية، وخرج اثنان من وزراء حزب الأحرار الدستوريين، من بينهما رشوان باشا محفوظ الذي عين قبل شهر من الوزارة الجديدة، وكانت هذه آخر مرة يشترك فيها في الوزارة.
وبقيت هذه الوزارة في الحكم حتى 4 فبراير سنة 1942م الشهيرة حين حاصر الإنجليز القصر الملكي، وطالبوا بتعيين النحاس باشا رئيسا للوزارة أو يعزلوا الملك فاروق، وكان ما كان من اجتماع زعماء الأحزاب ورؤساء الوزارات السابقين بقصر عابدين، وعرض المجتمعون على النحاس باشا أن يؤلف وزارته مؤتلفة من الأحزاب ليواجه الحالة الخطيرة التي تمر بها البلاد، فرفض هذا العرض بكل إصرار، وصاح أحمد ماهر باشا في وجه النحاس بكلمته الشهيرة: إنك تأتي إلى الحكم على أسنة الحراب الإنجليزية. فلم يأبه النحاس بهذا، وخضع الملك لتهديد الإنجليز وأصدر مرسومه بتأليف الوزارة.
الفصل الثالث
ولا أنسى في اليوم التالي كنت أركب السيارة الخاصة، لا سيارة الوزارة طبعا مع أبي، وقلت له: كيف سيواجه النحاس الجماهير بعد هذا؟ وفي ذكاء السياسي العملاق قال لي: سيقول: لقد أنقذت عرش مصر.
وما لبث النحاس أن قال هذه الأضحوكة وكأن أبي كان في عقله حين توقع أنه سيدعي هذا الادعاء، والغريب أن الجماهير الوفدية تجمعت حول مجلس الوزراء لتهنئ النحاس ووزارته القادمة بالحراب الإنجليزية، وفي أثناء تجمعها حضر إلى مجلس الوزراء السير مايلز لمبسون، وكان ضخم الجثة بصورة غير مألوفة، فقد كان طويل القامة إلى حد بعيد، كما كان بالغ السمن، والعجيبة أن الجماهير الوفدية حملته على أكتافها وهتفت باسمه ولم تشعر بالهوان وهي تحمل المندوب السامي البريطاني على أكتافها بعد أن زلزل عرش مصر، وكان الملك إلى ذلك الحين محبوبا من الشعب حبا لم يحظ به ملك، وقد استطاع بغبائه الشديد أن يبدد هذا الحب بطريقة العربيد الأبله، الذي اختاره لنفسه واعتقد اعتقادا يقترب من اليقين أن أمه الملكة نازلي لها أثر كبير في اضطراب عقله ومسلكه جميعا بأفعالها المخزية التي كانت ترتكبها، والتي انتهت بزواجها من أحمد حسنين باشا، مما كان له أسوأ الأثر في نفوس الناس ومن باب أدق في نفسية الملك، وما فعلته بعد ذلك أدهى وأمر.
أعلنت وزارة النحاس حل البرلمان وإجراء انتخابات، وطلب حزب الأحرار مقابلة النحاس باشا للاتفاق على الأسس التي سيدخلون عليها الانتخابات، وتحدد موعد اللقاء واختار الحزب أبي وأحمد باشا عبد الغفار ليمثلا الحزب في مفاوضاته مع النحاس باشا، وكان اللقاء طريفا، ولذلك فإنه لم يفر من ذهني.
Bilinmeyen sayfa
قال لهما النحاس باشا: الانتخابات حرة، ولكم أن تقولوا ما تشاءون، على ألا تذكروا شيئا عن حادث 4 فبراير، ولا تهاجموا الإنجليز نظرا للظروف التي نمر بها، ولا تذكروا شيئا عن زوجتي، ولكم أن تقولوا بعد ذلك ما تريدون.
ودهش أبي ولم يتكلم، وتكلم أحمد باشا عبد الغفار قائلا في غضب: وماذا بقي أن نقوله ضد المرشح الآخر؟ أنقول له أبويا أحسن من أبوك؟ أم نقول له وشي أحلى من وشك؟
ولم يرد النحاس، وخرج أبي وأحمد باشا دون أن يتفقا مع النحاس، وعرفت بعد ذلك أن النحاس باشا حين روى هذه الواقعة للهيئة الوفدية قال: جاءني من حزب الأحرار معالي الأستاذ إبراهيم دسوقي أباظة والولد أحمد عبد الغفار.
مع أن أحمد باشا كان حاملا رتبة الباشوية عند هذا اللقاء.
وهكذا رفض حزب الأحرار والهيئة السعدية دخول الانتخابات، وانفرد حزب الوفد بهذه الانتخابات.
ولكن أبي كان حريصا على وجوده في مجلس النواب، وفي نفس الوقت لم يستطع أن يخوض الانتخابات العامة، وهو سكرتير حزب الأحرار الدستوريين.
وهكذا ارتأى أن يدخل أخوه عبد الله بك فكري أباظة الانتخابات، وكان في ذلك الحين سكرتير عام وزارة التجارة، ومرشحا أن يكون وكيل وزارة، وكان الدستور يقضي أنه إذا أصبح موظف عضوا بمجلس نيابي فله مهلة ثلاثة أشهر يختار في أثنائها بين البقاء في الوظيفة وترك المجلس، أو البقاء في المجلس وترك الوظيفة.
وبعد انقضاء المدة استقال عمي عبد الله من المجلس، وتقدم أبي للترشيح بالدائرة التي خلت، ورشح الوفد ضده أحد المحامين واسمه عبد العظيم الهادي رسلان، وكانت انتخابات مريرة غاية المرارة جيش الوفد لها كل جيوشه من شرطة إلى قوات مسلحة إلى تزوير علني لا يتوارى ولا يخجل، وفي هذه الانتخابات كسرت ذراع فكري أباظة باشا في بلدة قريبة من الغار بلد المرشح اسمها كفر عوض الله حجازي، وكان من فجور الوفد أنه في توزيع الناخبين كان يجعل البلاد المؤيدة لأبي تدلى بأصواتها في بلاد بعيدة عنها كل البعد، بينما يحرص على أن يجعل الناخبين المؤيدين لمرشحه يدلون بأصواتهم في بلاد قريبة غاية القرب منهم، فلا يتكلفون إلا مشية هينة، أما الناخبون المؤيدون لأبي فقد كان عليهم أن يركبوا السيارات أو يتعذر عليهم الإدلاء بأصواتهم.
أما معركة كفر عوض الله التي كسرت فيها ذراع عمي فكري فقد تجمع فيها بعض أنصار المرشح الوفدي، وبأيديهم العصي الغليظة، وأرادوا أن يمنعوا ممثلي أبي من الاقتراب إلى لجنة الانتخاب، فاعتدوا عليهم بالضرب دون أن يراعوا أي معنى للخلق أو قيم الوافدين عليهم.
وتمت الانتخابات، وكان فوز أبي واضحا، وتجمعت صناديق الانتخاب بنقطة شرطة ببلدة بردين، وهي البلدة التي سميت الدائرة كلها باسمها، وحرص شباب الأسرة أن يبيت فوق الصناديق يتزعمهم عمي عبد الله، وقد هيأ له مأمور دائرة الأمير طاهر باشا الذي يملك أبعادية في بردين مكانا مناسبا يبيت فيه، بينما لازم شباب الأسرة الصناديق، وحاولت الشرطة وقوات من الجيش أن يخرجوهم من النقطة، فكشفوا عن أسلحة مرخصة يحملونها.
Bilinmeyen sayfa
وكلم مدير الشرقية أبي في غزالة، وكنت بجواره، وقال المدير: إننا نرجو أن تأمر بالجلاء عن نقطة بردين.
فضحك أبي وهو يقول للمدير: لا أستطيع ... فإنني إن طلبت هذا المطلب من شباب أسرتي فلن يقبلوه.
وسلم المدير أمره إلى الله، وظل شباب الأسرة مع الصناديق حتى تم فرزها، وكنا واثقين أنه إذا تخلى الشباب عن الصناديق فإن الوزارة ما كانت لتخجل أن تحل مكانها صناديق أخرى لصالح مرشحها، وتم الفرز ونجح أبي نجاحا باهرا، وأحست الوزارة أن الشعب غير راض عنها، ولكن لا يهم ما دامت باقية في دست الوزارة.
الفصل الرابع
حين عاد أبي إلى مجلس النواب كان معارضا عنيفا، ولكن الأغلبية الساحقة كانت وفدية، وكان مكرم عبيد باشا قد انشق عن الوفد، وكون حزب الكتلة وأصدر جريدة للحزب، وفي ذلك الحين كتب كتابه الشهير المعروف باسم «الكتاب الأسود» وكانت الأحزاب المعارضة تتولى توزيع هذا الكتاب، وكانت نسخ منه كثيرة توزع من بيتنا، والكتاب جدير بأن نقول عنه إن أعظم التهم فيه لا تساوي شيئا بالنسبة لأيسر ما ارتكب في عهد الناصرية، فقد كان أعظم ما فيه اعتقال بعض الزعماء السياسيين، وقد كانوا يعتقلون في بيوت مريحة ويلقون كل رعاية وعناية، وما كان أهل هذا العصر يدرون ما يخفيه الزمان في عهد الناصرية من اعتداء على الأعراض والكرامات والأموال والأنفس مع الألوان التي لم تسمع عنها البشرية من التنكيل والعذاب، ولكن على أي حال في ذلك الحين كان الكتاب الأسود سبة في جبين الحكم وقد تقدم أبي باستجواب عن الاعتقالات التي تقوم بها الحكومة، وفي نفس اليوم المحدد لنظر الاستجواب اعتقلت حكومة النحاس مكرم عبيد باشا، ووقف أبي في مجلس النواب يندد بهذا التصرف، وصاح بالحكومة إننا متضامنون مع كل ما فعله مكرم عبيد باشا وكل ما كتبه ولتفعل بنا القوى الغاشمة ما تريد ... وقد علق المرحوم كامل الشناوي على هذه الخطبة يومذاك بقوله: لولا خوفي على الرجل لألقيت بنفسي من شرفة الصحفيين لأقبل دسوقي أباظة.
وعاد أبي إلى البيت، وكنت أتلقى درسا في اللغة الإنجليزية من أستاذي الذي كان يشرف على دراستي جميعا الأستاذ لويس مرقص الذي أصبح فيما بعد د. لويس مرقص رئيس قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب، وذكر لنا أبي ما فعله بالمجلس، ثم نادى عم أحمد وأمره أن ينقل كل نسخ الكتاب الأسود ومنشورات أخرى ضد الحكومة إلى بيت ابن عمه الأصغر الضابط عمر أباظة - رحمه الله - متوقعا أن تفتش الحكومة منزلنا في نفس الليلة، وقد حدث أن فوجئنا بقوة من الشرطة قبيل منتصف الليل تحاصر المنزل وتقتحمه لتفتش عن الكتاب الأسود والمنشورات. ولكن أين هذا التفتيش مما فعله العهد الناصري بعد ذلك؟ شتان لا يقارن ما فعله النحاس بما صنعه بعد ذلك عصر الطغيان.
حسبك أن تعلم أن أبي أمسك بمسدسه، وقال لقائد القوة: نحن فلاحون وسأسمح لك بتفتيش البيت جميعه، ولكن لن تدخل الحجرة التي بها السيدات مطلقا.
وقبل الضابط، فما كان أهونه من تفتيش، وانصرفوا دون أن يعتقلوا أبي، وإنما قدموا له كل إجلال واحترام وتوقير.
الفصل الخامس
في يوم 7 أكتوبر عام 1944م طلبني أبي من حزب الأحرار الدستوريين وقال لي: إن وزارة النحاس أقيلت، وإن أحمد باشا ماهر يؤلف الوزارة الآن في لاظوغلي.
Bilinmeyen sayfa