قلت وأنا أجلس في مواجهته: «لعلك لاحظت وجود مجموعة من روايات الكاتب البلجيكي جورج سيمنون لدي. والواقع أني مغرم به وببطله المفتش ميجريه. ورغم أن رواياته لا تقوم على الحركة، وهي أقرب إلى روايات الألغاز، إلا أنها تتفوق على آجاثا كريستي؛ بما تتميز به من عمق سيكولوجي وبعد اجتماعي. وهي تثبت أن كثيرا من النزعات المناقضة لسلوك المرء العادي تختزن في العقل الباطن. وفي لحظة معينة من تراكم هذه المخزونات، يحدث شيء مثل القشة التي قصمت ظهر البعير، فيصدر عن المرء فعل مناقض تماما لكل ما قام به من قبل، ويصبح الإنسان المسالم الذي لم يرتكب في حياته عملا واحدا من أعمال العنف، قادرا على ارتكاب أبشع جرائم القتل العمد.»
لم يعلق بشيء، وانهمك بكليته في الأكل بشهيته المعهودة. وجعلت أرقبه في صمت وهو يمسك فخذ الدجاجة بقبضة قوية، ويرفعه إلى فمه بيد ثابتة، ثم ينهش لحمه في استمتاع، ويلوكه بين أسنانه قبل أن يطحنه في تأن وإحكام، مركزا في الأمر جل اهتمامه.
وخطر لي أن ما أفتقده في حياتي، هو بالضبط هذه الطريقة في الأكل، النابعة من إقبال على الحياة، وعدم التردد في مواجهة أخطارها، والإصرار على قهرها.
فرغنا من الطعام، فرفعت الصحاف، وألقيت بها في حوض المطبخ. ثم مضينا إلى الحمام، فاغتسلنا. ولجأنا بعد ذلك إلى الحجرة الداخلية، فاستقر كل منا في مكانه.
أشعلت سيجارة، وما إن أخذت منها نفسين حتى استولى علي الخمول المألوف الذي أشعر به عادة بعد الأكل، وأحسست أن الإجهاد قد بلغ بي مداه، وأني في حاجة ملحة إلى إغفاءة قصيرة.
قلت له: «ألا ترغب في شيء من الراحة؟ أنا أنام عادة بعض الوقت عقب الغداء.»
أجابني في بطء: «ليس من عادتي أن أنام أثناء النهار. أما أنت فلا أظن أنك تملك إضاعة الوقت في النوم.»
أدركت ما يعنيه، فوجهت اهتمامي إلى صندوق البطاقات، وأخذت أقلب بينها، دون أن تعي عيناي الملتهبتان شيئا مما سطر فوقها.
أما هو فقد استرخى في مقعده باطمئنان، وثبت عينيه على السقف، في نقطة فوق رأسي، ثم استغرق في أفكاره تماما، فبدا كأنما استحال تمثالا.
شعرت بثقل رأسي، فأملته قليلا إلى الأمام، وكان الإغراء لا يقاوم، فأغمضت عيني، وإذا به يخاطبني فجأة في لهجة ملحة: «هل لك أن ترافقني إلى الخارج لحظة؟»
Bilinmeyen sayfa