وبعد ذلك بعام أو نحوه حملتني الظروف إلى بغداد، وكنت أسير مع صديق عراقي في أحد الشوارع القريبة من وسط المدينة، عندما رأيت على الرصيف المقابل منزلا مكونا من طابقين، تحيط به حديقة صغيرة، ويحرسه عدد من الجنود بالملابس المموهة والمدافع الرشاشة. سألت صديقي عن صاحب المنزل فإذا به ينهرني بصوت خافت وقد أطرق برأسه إلى الأرض: «انظر أمامك ولا تتطلع إلى الناحية الأخرى.» فعلت كما أراد، وعندما ابتعدنا عن المنطقة قال لي: «أتريد أن تقضي علينا؟ هذا منزل «الدكتور»!» لم أجرؤ ساعتها على مزيد من الاستفسار؛ فلم أعرف حتى الآن ما إذا كان المقصود بذلك هو مواطني المعروف، أم شخص آخر، عراقي، ينازعه اللقب.
وإذ أعطيت الأمر الآن جانبا من تفكيري رأيت أنه يستوي في الحالتين؛ فلا يقلل من شأن مواطني أن يوجد منافس له في كل عاصمة عربية. وعلى العكس؛ فإن ذلك يعطي فكرة عن أوجه التشابه، إن لم يكن التطابق بين الاثنين، ويؤكد من جديد خطورة شأن صاحبي وأهميته.
ولعلكم لمستم اهتمامي بأمره؛ فمع تداعي الذكريات والانطباعات، ازددت اقتناعا بأني وجدت ضالتي أخيرا. قد لا يكون «الدكتور» معروفا بالقدر الذي يتمتع به المغنون والراقصات، إلا أنه بالتأكيد أكثر منهم فاعلية وتأثيرا، لا في حدود بلادي وحدها، وإنما على مستوى العالم العربي بأكمله. ولا شك في أنه يساهم بقدر كبير في صياغة الحاضر والمستقبل، فهل يكون ثمة من هو «ألمع» من ذلك؟
هكذا حزمت أمري على أن أجعله موضوعا للدراسة المطلوبة مني.
وضعت خطة بارعة تتلخص في قراءة كل ما كتب عنه من دراسات أو مقالات أو أنباء عابرة بالصحف، ثم مقابلته وتوجيه عدد من الأسئلة الذكية إليه أعدها بعناية، بحيث تسد الفجوات التي ستقابلني في قراءاتي، وأستكمل بها معالم شخصيته التي أنوي رسمها بدقة وإحكام.
على أني اضطررت إلى تعديل خطتي عندما لم أجد كتابا واحدا عنه. ويبدو أن أحدا غيري لم ينتبه إلى أهميته، ولم يجد فيه موضوعا جذابا، أو ربما كان الكتاب ينتظرون موته لتكتمل بذلك سيرته.
وبقدر ما سعدت لأني أطرق موضوعا بكرا لم يسبقني إليه أحد، شعرت بالصعوبات الناشئة عن ذلك؛ لهذا قررت أن أبدأ بمقابلته؛ فقد يدلني على شيء كتب عنه وفاتني العثور عليه، أو قد تكون لديه بعض المذكرات الشخصية التي لا يمانع في اطلاعي عليها.
ارتديت أفضل ملابسي، وحملت حقيبتي «السامسونايت» بعد أن أودعت بها مسجلة يابانية صغيرة الحجم، وكراسا جديدا، وعدة أقلام، وورقة صغيرة دونت بها رءوس الموضوعات التي أبغي طرقها معه.
انطلقت إلى مقر إحدى المؤسسات التي ارتبطت باسمه بعد أن حصلت على عنوانها من دفتر التليفون. وذكر لي موظف الاستعلامات أن «الدكتور» لا يتردد على مؤسسته في مواعيد محددة. وعندما أوضحت له حاجتي الشديدة للقائه - دون أن أذكر له بالطبع السبب الحقيقي - أحالني إلى إحدى السكرتيرات بعد أن فتش حقيبتي للاطمئنان على خلوها من الأسلحة والمتفجرات.
عاملتني السكرتيرة بجفاء، مؤكدة استحالة الفوز بمقابلة «الدكتور» في موعد قريب؛ فهو أولا لا يتواجد في مكتبه إلا نادرا لأنه دائم التنقل بين العواصم العربية بحكم أشغاله، وهناك ثانية قائمة طويلة من المنتظرين، ولا بد لي ثالثا من إيضاح مطلبي باستفاضة على ورقة مكتوبة بلغة سليمة تقدم إليها لتحيلها بعد ذلك إلى مدير مكتبه. وعرفت منها أن مدير المكتب هو نفسه أحد أساتذة الجامعات المعروفين الذين لمعوا في الستينيات، وارتبطت أسماؤهم بمشروعات طموحة للتصنيع الثقيل.
Bilinmeyen sayfa