الباب الأول: حوادث الرواية في بلاد اليونان
نزهة على شاطئ البحر
رجال الزورق
لصوص الماء
أين أصبحت لادياس؟
الملك بوليقراط
حياة ثم موت ثم بعث
في طلب الأميرة
ساكن الصخرة
حماس في الصخرة
Bilinmeyen sayfa
كيف انتبهت لادياس
بوليقراط والدهر
قرية الوحش الهائل
زفاف لادياس لبهرام
الباب الثاني: الحوادث في مصر
نظرة تاريخية
الاستعداد في مصر لاستقبال حماس
أين اللوح؟
اتفاق غريب
كلكاس في مصر
Bilinmeyen sayfa
توفر الشروط
الباب الأول: حوادث الرواية في بلاد اليونان
نزهة على شاطئ البحر
رجال الزورق
لصوص الماء
أين أصبحت لادياس؟
الملك بوليقراط
حياة ثم موت ثم بعث
في طلب الأميرة
ساكن الصخرة
Bilinmeyen sayfa
حماس في الصخرة
كيف انتبهت لادياس
بوليقراط والدهر
قرية الوحش الهائل
زفاف لادياس لبهرام
الباب الثاني: الحوادث في مصر
نظرة تاريخية
الاستعداد في مصر لاستقبال حماس
أين اللوح؟
اتفاق غريب
Bilinmeyen sayfa
كلكاس في مصر
توفر الشروط
لادياس
لادياس
تأليف
أحمد شوقي
الباب الأول
حوادث الرواية في بلاد اليونان
نزهة على شاطئ البحر
فلك الممالك أنت فيه ذكاء
Bilinmeyen sayfa
يا ملكة في ظلها الأمراء
خلع الجمال عليك حلة عزه
وكستك ثوب جلالها النعماء
يا زينة اليونان أنت لأفقها
نجم وأنت لنجمها أضواء
حواء أمك أم كل مليحة
لكن مثلك لم تلد حواء
كانت «لادياس» بنت الملك «بوليقراط» صاحب «ساموس» إحدى ممالك اليونان في غابر الزمان، تتمشى في طريق نزهتها على البحر تحت الأزين الأنضر، من ألفاف الشجر الأخضر، وعند رمل أزهر، كأنه دينار واحد أصفر، والبحر فيما يلي، ينجلي ما ينجلي، وللريح نقر في صفحات الماء، كنقر الغزال في الحصباء، وقد قابل الأصيل مرآتي البحر والفضاء، فسالتا بنضاره الموهوم وسالت العوالم والأشياء.
وكانت لادياس فتنة الناس، بالبدر الطالع في الغصن المياس، لا من طينة البشر، ولا من أديم الشمس والقمر، ولكن صورة آية في الصور، فوق مبلغ الخواطر ومنال الفكر، وكانت لابسة حلة بيضاء، هي فيها حرير تحت حرير وضياء في ضياء، وعليها من عاطر الورق وبديع الزهر، في الرأس وفوق النحر، ومكان المنطقة من الخصر، ما يتجمع منه باقة زاهرة، لادياس فيها الزهرة النادرة، وقد اتحدت بهذه الحلة الباهرة، حتى تشابه المجموع وتشاكل الأمر، فكأنما زهر ولا لادياس، وكأنما لادياس ولا زهر.
وكان يساير الأميرة في نزهتها القصيرة، أتراب لها كريمات عليها، وقرينات من أحب الناس إليها، ربين معها في الصغر، ودمن على لزامها في الكبر، فكانت تحادثهن لاهية ناعمة، وهي تقول: ماذا تقلن يا صاحبات لادياس في شروط القران؟
Bilinmeyen sayfa
فسألتها إحداهن بسرعة: قران من يا مولاتي؟
فأجابت الأميرة مازحة: قراني لا قرانك يا فاجرة. - وأي شروط يا مولاتي إلا أن يخطبك حبيبك، ويحبك خطيبك. - صدقت، لكن هذا يجوز على بعض بنات الناس، ولا يجوز على بنت الملك، إني أراك تجهلين الأمر، ولا تدرين ما يجري من الأحوال في القصر، فاعلمي أنه لا يكون من زواجي إلا ما أرضى أنا ويأذن الملك وتصادق المملكة بعد ذلك عليه، فأنا أقترح أن يكون المتعرض لخطبتي، الراغب في صحبتي، فتى بين العشرين إلى الثلاثين، فائق النظراء والأمثال في الشجاعة والحكمة والجمال، والملك يشترط أن يكون صهره ملكا، سواء نال الملك بكده وجده، أو توارثه عن أبيه بعد جده، والمملكة تريد أن يرفع بعلي لآلهة اليونان أربعين هيكلا مشيدة البنيان، في البلاد التي له فيها الملك والسلطان.
فلعب هذا الجواب برأس الفتاة، وساء موقعا عند سائر البنات، فصحن جمعاء قائلات: حقا، إن هذه لهي الثلاثة المستحيلات، فإن صح ما تقول الأميرة فلا هي متزوجة ولا نحن متزوجات.
فقالت لادياس وقد أضحكها غضب أترابها: وهل تكرهن أن تأخذن من حالاتي بنصيب، فإن تزوجت تزوجتن، وإلا عشتن أبكارا ما عشتن.
فسألتها فتاة: وكيف الطريقة يا مولاتي في معرفة من يفوق النظراء والأمثال، في الشجاعة والحكمة والجمال، أترجعون في ذلك إلى امتحان، أم عندكم أن الشهرة تغني الإنسان؟ - بل إلى الامتحان؛ حيث يكرم المرء أو يهان، فأما الشجاعة والحكمة فينظر الملك فيهما، ويختار لي من يستوفيهما، وأما الجمال فيعرض على عيني وقلبي، فلا يختاران منه إلا ما يصبي.
قالت: سبحان المنعم وجلت أيادي السماء ! فلو لم تكن مولاتي أسعد النساء وأنعم بنات حواء، لما أتيح لها أن تتزوج من الرجال من تشاء، بل عندي أن جميع ما سبق من إحسان السعادة إليك في كفة من ميزان، وهذه المنة بمفردها في الكفة ذات الرجحان، ولكن هل اقتصرتم يا مولاتي على شبان أبناء الديار، أو بلغتم ذلك إلى غيرهم من بني الممالك والأمصار؟
قالت: بل إن الملك بعث منشورا بذلك إلى أمراء الجوار، وإلى فرعون وكسرى وصاحب الهند، ملوك الوقت الثلاثة الكبار، وعما قريب تتوافد المراكب، حاملة الملوك والأمراء من الأجانب، مقلة الشجعان متقاطرين من كل جانب، وحينئذ ينظر فيمن يليق، ولا يفوز بي إلا الجدير الخليق.
قالت فتاة: إن جماعة القصر يا مولاتي يتساءلون عن نبأ عظيم، وأمر يقع الآن جسيم، إلا أنهم يذهبون في التكتم على خط مستقيم، كأنما يتجاهلون أو كأن ليس منهم رجل عليم.
قالت: وعم يتساءلون؟ - عن أمر أولئك القوم، الذين يقبض عليهم في كل يوم، ويزجون في السجن؛ سجن القصر، حتى كأن هناك عصيانا يتلافى الملك وقوعه، أو حزبا خفيا هو يحل نظامه ويفكك مجموعه.
قالت: لا عصيان ولا حزب مع ملك حكيم عادل مثل أبي، ولكن ربما كان للملك في ذلك مراد، لم يطلع عليه أحدا من العباد. - حسبت يا مولاتي أن للأمر علاقة بالأمير ابن عمك.
Bilinmeyen sayfa
فأجابتها لادياس مغضبة محتدة: لا تقولي الأمير، وقولي الشقي النذل الحقير، وماذا بقي من أمر هذا الخائن الغدار، مما يشغل بال الملك من جهته أو يهمه إلى هذا المقدار، فهو قد كفاني شره حتى لأنا أتمثله من مكاني هذا سوقة ضائعا في مدينة من مدن اليونان، يمد يد السؤال إلى كل إنسان.
وما زال حديث الزواج يسرق البنات، خطواتهن والأوقات، حتى نبههن هجوم المساء، واشتمال الوجود بحلته السوداء، حدادا على الشمس الغريقة في الماء، وعندئذ ارتجلت الأميرة حركة إلى الوراء كالراغبة في الانثناء، فعارضتها الفتاة قائلة: إن وقت الرواح لم يجئ بعد يا مولاتي ونحن قد صرنا من حدبة البحر؛ بحيث تراها أعيننا وهي الغابة العجيبة الشأن، التي لم نرها إلى الآن، فماذا علينا لو مددنا لأرجلنا الخطى، فجئناها فتمتعنا منها بنظرة، ثم نعطي الرجوع من السرعة ما تأخذ منا زيارتها من الوقت؟
فصادفت هذه الدعوة أسرع ملب من طيش البنات، فما زلن بالأميرة يؤيدن عندها هذا الاقتراح، ويذهبن كل مذهب من الإلحاح، حتى أذعنت فسار هذا الملأ الكريم من الملاح، وما هي إلا ساعة مسير بحساب تلك الخطى الخفيفة، وهاتيك الأقدام الناعمة اللطيفة، حتى انفتحت حدبة البحر للبنات، فدخلنها بسلام آمنات، وهي غابة كثيفة متسعة، محدبة كاسمها مرتفعة، وليس فيها ما يبعث العجب، سوى شكلها المائل إلى الحدب، وكانت من أماكن الأمان والاطمئنان، التي لا يخاف من وجودها على إنسان، فلبث الفتيات فيها برهة من الزمان، في لهو ولعب واغتباط وامتنان، فلندعهن وما هن فيه الآن، ولنخض في شان غير هذا الشان.
رجال الزورق
كان في ساموس جانب من الجزيرة مهجور، بعيد عما حوله من المعمور، وكانت فيه كتلة من الصخر هائلة، منحنية على البحر مائلة، وهذه الكتلة فيها غار، سحيق القرار، وكان الأهالي يسيئون به الظنون، ويخلقون في أمره ما يخلقون، ففريق يزعم أنه مكامن الأشقياء، أشقياء الماء، وفريق يحسبه مبيتا لسبع جهنمي من سباع السماء، وعلى كل حال فقد طال ما تهيبوه، وحرمتهم الأوهام أن يقربوه.
ففي ذات يوم أقبل زورق فجرا من طراز زوارق الإمارة، أو هو واحد منها وعليه كما عليها الشارة؛ فرسا هنالك متواريا في الحجارة، ثم صدرت منه بالبوق إشارة.
فأشرف إنسان من الغار ينظر، فخاطبه رجل من الزورق قائلا: خذ ثوبك يا بيروس فالبسه كما لبسنا نحن ثيابنا، ثم إنه شد الثوب بحبل أرسل من الغار فرفعه بيروس إليه، ولم يكن إلا كلمح البصر، حتى ترك بيته وانحدر بكل سرعة وحذر، كما تنزل القردة من أعالي الشجر، فتلقاه أصحابه وفسحوا له فركب فجلس ثم حول الجميع المجاذيف إلى الطريق التي رسموا للزورق أن يسير فيها؛ فاندفع بهم ينساب، في بحر راقد العباب، مأمون المركب على الركاب، وكانوا سبعة رجالا، عراضا طوالا، بهما أبطالا كلهم قد غير شعاره، ولبس للحالة حليتها المستعارة، حتى صار رئيسهم يقول هذا من زوارق الملك وهؤلاء من البحارة.
فلما جد بهم المضي مع الماء، واحتجب بهم الزورق إلا عن العين التي في السماء. قال أحدهم: ألا تعلمون يا إخوان، ما يجري الآن، في مياه اليونان؟
قالوا: بلى، فخبرنا أنت بالخبر، ولا تطل كعادتك، فليس ذا وقت الهذي والهذر، ولا مقام الحكايات والسير التي تصيرها مملوءة بكثرة الأمثال والعبر.
قال: علمت يا إخوان، واللبيب يعلم، ومن لا يستفهم لا يفهم، أن بوليقراط ذاك الطاغية، السياسي الداهية، يعمل الآن عملا يحتذي فيه مثال كثيرين من ملوك اليونان الغابرين، الذين خالفوا الشرف والإباء، وحالفوا لصوص الماء، فاستراحوا وأراحوا الرعية من أذى هؤلاء الأشقياء، وإنها وأيم الحق لمقدرة من بوليقراط القادر، وآية من آيات دهائه النادر، بل ما بال سائر الملوك، لا يسلكون مثل هذا السلوك، فيحتالون ليتخذوا لصوص البحر قوة، مأمولة النفع بعد الضر مرجوة.
Bilinmeyen sayfa
قال البحارة: ما لنا يا كلكاس ولتواريخ الأولين والآخرين، وانتقاد أفعال الملوك الحاضرين منهم والغابرين، ألم ندعك لتوجز وتبين؟
قال: إذن، فخذوا الخبر، واسمعوا القول المختصر، إن بوليقراط يعمل الآن، عملا من الحكمة بمكان، سوف يكون له شأن، ويبقى ذكره على ممر الأزمان.
قالوا: وماذا تراه يعمل؟ فهذا الذي نريد أن نعرفه ولا نريد أن نعرف غيره.
قال كلكاس وقد أغضبه مقاطعة أصحابه: إن كان ولا بد من الاختصار، المذهب لطلاوة الأخبار، فإني أنقل إليكم الخبر على علاته، وأدع لعقولكم السخيفة على مفصلاته، سمعت من صاحب أثق به، ولا شك في عقله وأدبه، أن مياه اليونان، يجري فيها أمور الآن، لا يعلم بها إلا الملك وزعيم الأشقياء أورستان.
قال البحارة: أهذا كل الخبر يا كلكاس؟ - نعم، وإنه لو تعلمون لعظيم، ولكني عهدتكم منذ صحبتكم تحتقرون الأمر الجليل، وتسخرون من كل قال وقيل، وهذا لعمري منتهى السفه. - وأية فلسفة تريد أيها المهووس أن نستنبط من روايتك التي لا تقبل الزيادة، ولا تشير إلى وقوع حادثة فوق العادة.
قال وما يدريكم يا أغبى الناس، أن يكون لفعل الملك هذا مساس، بنا أو بعروس اليونان لادياس.
فقال بيروس: أما بنا فلا؛ لأنني أعلم علم اليقين، أن الملك أمسك عن مطاردتي من نحو ثلاث سنين، أي بعد أن اضطرني إلى الاحتفاء، وصيرني في زعم ميت الأحياء، العاجز عن كل عداء، وأما كون الحادثة قد تكون واقعة من أجل لادياس، فهذا يكذبه كتاب عنها، حديث العهد بخط أقرب الناس إليها.
وبينما القوم في هذا الذي نصفهم عليه يسخرون من كلكاس، وكلكاس يسخر منهم إذا بفلك أربعة، خفاقة الأشرعة، قد ملكت جهات الزورق، حتى كاد من شدة ضغطها يغرق، ثم وقفت وأطل من أحدها رجل فصاح يقول: ومن القوم، ومن أين وإلى أين؟
فوقع البحارة من أمرهم في معيص، ولم يجدوا لأنفسهم من الغرق من محيص إلا كلكاس، فإنه لم يمهل الرجل ريثما يستتم، بل وثب من مكانه وقال: نحن بحارة الملك أيها الرجل، ولولا أنك تغالط عقلك لكان الزي وحده ذلك، والآن فمن أنت حتى تسيء الأدب على هذه الشارة، وتهاجم الزورق وتستبيح حصاره، كأنك لا ترجو وقارا، لزوارق الإمارة، وحتى تقف لبحارة الملك في الطريق، وهم في الخدمة الشريفة التي لا يليق أن يعتريهم فيها تعويق؛ أليس هذا انتهاكا لحرمة الملك وعقوقا، وخروجا من واجب الطاعة ومروقا، ألا تقضي القوانين بالقتل، على مرتكب مثل هذا الفعل، فيا قوم ما أسماؤكم، وإلى من انتماؤكم، حتى نرفع ضدكم الشكوى، ونقيم عليكم - حال وصولنا - الدعوى؟
وكان أصحاب كلكاس حوله لسانا واحدا يدعوه ليختصر في قوله وهو لا يريد الإجابة، ولا يزيد إلا إهذارا في الخطابة، حتى قام في اعتقاد المهاجمين، أن رجال الزورق حقيقة من البحارة التابعين فحولوا عنهم المراكب للحين، ومضوا لسبيلهم تاركين كلكاس يهذي وحده كالخاطب في الناس ولا ناس، حتى أسكته أصحابه فسكت ثم التفت فقال: إن مع العي لغبنا، وإن من السكوت لجبنا، أعلمتم بعد مكاني، أرأيتم كيف نفعتكم فلسفتي وأغنى عنكم بياني!
Bilinmeyen sayfa
قالوا: وهل جهلنا مقدرتك وإمكانك، حتى تعرفنا يا كلكاس مكانك؟ إنك لأعظمنا إقداما وبسالة، وأفصحنا منطقا ومقالة، وأصلحنا لبوسا لكل حالة، أليس هذا الزي نفع من مواليد رأيك المتبع، وتدبير فكرك الذي يسع من الحيل ما يسع؟
ثم إن الزورق استمر سائرا دائبا على بغيته، رائدا حتى ذهب معظم النهار، وتحفزت الشمس لتحتجب عن الأبصار، فالتفت بيروس عندئذ إلى أصحابه، وقال: لم يبق يا إخوان إلا أن ننحدر جهة الشاطئ فنسير بحيث نحاذيه.
قالوا: أوتدري أننا دنونا بعد؟
قال: نعم؟
قالوا: إذن، فإنا فاعلون!
ثم وجهوا السواعد بالمجاذيف جهة البر وظلوا يتقدمون، وبيروس يرشدهم أين يتوجهون، وقد غلب الغرام الفتى على أمره، وحل الإلمام عقدة صبره، فأجرى من الدمع ما لم يزد أصحابه علما بسره، واندفع ينشد من أعماق صدره:
يا ابنة العم رويدا
كدت للمفتون كيدا
أنت للعين سواد
أنت للقلب سويدا
Bilinmeyen sayfa
كان لي في الدهر تاج
صار ذاك التاج قيدا
كنت مولى صرت عبدا
كنت عمرا صرت زيدا
أنا إن نالت شباكي
ظبية جيداء غيدا
لم أكن أول صب
أخذ الغزلان صيدا
حتى إذا تكامل للشمس الغروب وآن للنهار أن ينتحي والليل أن ينوب، دخل الزورق في ظل أشجار، متكاثفة هنالك مرتفعة كبار، فتقصى بيروس النظر، فوجد البقعة صالحة للمستقر، فأعلم أصحابه أنهم قد وصلوا، وأشار لهم أن يلقوا المراسي ففعلوا.
ثم نزلوا فتوارى الكل واستتر، بين الحجر والشجر، يتربصون للموعد المنتظر، فلندعهم وشأنهم الآن يتربصون على ذلك المكان، إلى أن نعود فنذكر من أمرهم ما كان.
Bilinmeyen sayfa
لصوص الماء
لم يكن يمضي يوم على الملك بوليقراط بدون أن يفد عليه أورستان زعيم أشقياء اليونان، أو من ينيبه عنه من أعوانه الشجعان، فيلبث في حضرته برهة من الزمان، ثم يأمر الملك من يذهب معه إلى حيث يريد، فلا يأتي الليل إلا ويعود الرسول، ومعه أسير مكبل بالحديد، فتصدر الإشارة بإضافته إلى ما في السجن من عديد.
وظل الأمر كذلك تسعة وثلاثين يوما، بغير انقطاع وقع فيها مخالب أولئك السباع، تسعة وثلاثون أسيرا من بني الأمصار والأصقاع، ليس فيهم إلا ملك مطاع، أو أمير له الأمراء أتباع، أو بطل شجاع، شاع ذكره وذاع، وملأ الأسماع، ثم مرت سبعة أيام بدون أن يقبض على أحد أو يزاد السجن على ذلك العدد، وفي اليوم الثامن حضر أورستان يضرب الأرض برجليه كأنه شيطان وعيناه جمرتان، من الغضب متقدتان، فدخل على الملك فحياه، ثم قال: لقد كدت أيها البطل الشجاع، الذي لا من البشر ولا من السباع، لولا أن نفسه العالية الأبية، فضلت ورود المنية، فآثر الثواء بقرار البحر، على الوقوع في هوان الأسر. قال: ومن ذاك يا أورستان وما حديثه؟
قال: يا مولاي، فتى من مصر رفيع الرتبة في الضباط، تدل زخارف حلته على أنه من حرس البلاط، وكان على ذات شراع، ومعه ثلاثة من الأتباع، فدعوناه كعادتنا للاستسلام، فأبت نفس عصام، فزدناه حصارا، فزاد تأبيا واستكبارا، حتى بلغ من حيرتي ويأسي، أن مارسته بنفسي، فظهرت بسالة الفتى على قوتي وبأسي، حتى لو لم ينجدني رجالي لصير البحر رمسي، إلى أن خانه على مراسنا الجلد.
وكان أن أذعنت البسالة للعدد، فصرخ الفتى صرخة تذيب الأسد، قام لها البحر وقعد، وسمعته يقول: مكانك يا حماس، إن الجندي المصري لا يعرف التسليم للملوك، فكيف يسلم للص صعلوك، ثم لم أبصر يا مولاي إلا بالسفينة تحترق، ثم إذا بها قد غرقت وإذا بالفتى قد غرق، فشق على أن يموت وأن يفوت ساحة الوغى من عناقه ما يفوت، لكونه إنما خلق لها لا لبطن الحوت، فقفيته برجالي يغوصون عليه القرار، وينشدونه بين العبب والتيار، وما زلنا نفعل حتى مغيب النهار، فلما لم يجد الالتماس، ونفضنا أيدي اليأس، رجعنا نبكي فقده، ونبكي الإقدام والثبات بعده.
فقال الملك واغرورقت عيناه بالدمع: إن كانت ذاكرتي صادقة يا أورستان، فهذا اسم شاب مصري كان لنا وله فيما مضى شان.
قال أورستان: وما ذلك يا مولاي؟
كنت عرضت على فلاسفة اليونان، وحكماء سائر البلدان هذا السؤال، وهو: «لقد بلغت الزيادة قصاراها حتى أصبحت أتوقع النقصان، وطال أنسي بهذا الحال مع الزمان، حتى خفت تحول الحال ونفار الزمان، فهل من يصف لي ما يخرجني من هذا الوجل، وآمن به الدهر أن يأتي على عجل؟» فانهال علي من الأجوبة، ما ظهر فساد جميعه بالتجربة، حتى كتب إلي فتى من مصر بهذا الاسم يقول: «إن الحوادث أيها الملك لا يعرفن ليلا ولا نهارا، بل إنهن قد يطرقن أسحارا، وإني لا أرى الملك ما يدرج به النفس على احتمالهن قبل ارتجالهن، إلا أن يعمد لأعز ما يجب ويكرم من الأشياء فيبيده إبادة بقول الإرادة، ويحرم منه النفس وهي صاغرة منقادة، وهكذا تفعل بين الحين والآخر حتى يصير الصبر لك عادة.»
فكان هذا جواب الحكمة والصواب بإجماع أهل الخبرة، من أعظم الحكماء شهرة، وأبعد الفلاسفة صيتا وذكرى؛ وإذ كانت الجائزة المجعولة لمن يفيد، ويجيب الجواب السديد، أن يشتهي على ما يشاء إلا الملك، فقد كتبت إلى ذلك الشاب بالتمني، ولكنه لم يجب حتى الآن، فإن كان ذاك حماس هو الذي تبالغ في وصف بسالته وإقدامه، فنعم الصهر كنا نعتز به لو عاش يا أورستان، وهل لمحته عيناك وقت الاشتباك، قال: نعم يا مولاي أبصرته فأبصرت البدر عند التمام، وألفيته جميلا بقدر ما هو باسل مقدام.
قال: كذلك مصر ما زالت مرزوقة على ممر السنين، ميمونة مباركا لأهلها في البنين، وإن لأهلها لعذرا إذا ألهو بعض الناس منهم، فقد يجتمع للمصري من عظيم الخصال، ويتم على يده من جلائل الأعمال، ما يضيق عنه الطوق البشري وتنوء به عزائم الرجال.
Bilinmeyen sayfa
قال: والآن ما رأي الملك بشأن الأسرى، هل يظل ممسكهم أو في النية فكهم؟ - بل سأفكهم وأردهم إلى بلادهم خائبين؛ لأنني لم أجد بينهم ضالتي المنشودة. - ذلك ما أرى أنا أيضا يا مولاي، ولكن أذكر أن بين الأسرى، أحد أشقاء الملك كسرى، فماذا ترى فيه وما عندك من الترضية لأخيه؟ - ليس لكسرى أن يحتج، ولا علينا أن نترضاه؛ إذ الأمر شخصي محض، ولا دخل للرسميات في خصوص المعاملات، وما علينا إلا أن نكتب إلى الملك بتفصيل ما جرى، ونخبره أن الامتحان أسفر عن خيبة أخيه خيبة فاضحة، فلم يعد ممكنا أن أركن إلى مصاهرته بعد أن ارتبطت بوعودي وعهودي أمام العصر والممالك والناس.
قال: نعم الرأي يا مولاي.
ثم إنه استأذن الملك في الانصراف، فأذن له فانصرف على أن يعود في الغد مغاديا.
وكان الليل قد أقبل يواشك، فالتمس الملك فتاته ليبلغها ما ظهر وبان من نتائج الامتحان؛ فقيل له إنها متغيبة لم تعد بعد من نزهتها اليومية على شاطئ البحر، فأراب الملك الأمر وشغله هذا الإبطاء، فجلس إلى نافذة مطلة على طريق رجوع الأميرة وأشرف ينظر؛ وإذا الطريق تنكشف لمدى البصر خلوا من الأقدام، لا دارج عليها إلا الظلام، فجد بالملك الارتياب، واضطرب فؤاد الوالد أي اضطراب؛ لا سيما إذ لم يكن من عادة لادياس أن تلبث خارج القصر بعد العشاء، فدعا الملك ثلاثة من غلمانه الأمناء، وقال لهم: اذهبوا فاستعجلوا الأميرة وهي عائدة، وقولوا لها: الملك بانتظارك على المائدة، فقالوا: سمعا وطاعة، وانطلقوا للحين، خفافا مسرعين، فما زالوا بالطريق يحيطون به طولا وعرضا، وتأخذه عيونهم سماء وأرضا، فلم يأت البحث بفائدة، ولا رأوا الأميرة لا ذاهبة ولا عائدة؛ وحينئذ ارتأى الغلمان، أن يبقى منهم على الطريق اثنان، وأن يتقدم الثالث إلى حدبة البحر، وهي الغابة التي سلف لها في الفصل الأول ذكر، لعل التلهي في المشي قد ساق الأميرة إليها، فلوت هي وأترابها عليها؛ فاندفع الغلام يجهد في السير الأقدام، إلى أن أتى مدخل الغابة فدخل يوغل فيها، ويضرب في جوانبها، ونواحيها، ولا وجلا ولا هيابا، ولا حاسبا للظلام حسابا، حتى بدهت أذناه بصوت أنين، له في جوف الغابة خفيف رنين، فالتفت وتفزع، ثم استجمع وأنصت يسمع.
فأوجس الغلام أيما إيجاس، وخشي أن تكون صاحبة الأنين هي لادياس، فاندفع حثيث السير، يهب هبوب الطير، لعله يوافيها قبل تناهي الشدة؛ فينجدها في كربها قبل فوات النجدة، وهو ينفذ على الصوت المدى، لعل أن يجد عليه هدى ، حتى بلغ موضعه، كما يبلغ الصدى مرجعه، وإذا مصدر التأوهات، ومنبعث الأنات، ثلاث من الفتيات حققهن الحارس في ضوء النبراس، فعلم أنهن ممن كن مع لادياس، وأن أبدانهن الناعمات، في الحبال موثقات، وبشدة الرابط موهنات، فحل على الفور ذاك الوثاق، ومزق تلك القيود والأطواق، ثم أنهضهن فما استطعن القيام، وخاطبهن فعجزن كذلك عن الكلام، فتركهن على هذه الحال، وابتعد قليلا؛ بحيث لا يفوته حفظهن ثم أخرج صفارة، وبادل رفيقيه الإشارة، فجاوباه فاستمر يصفر وهما يتوجهان، وجهة الصفير حتى أقبلا من أقصى الغاب يهرولان، فحين رآهما حدثهما حديث البنات، ثم دعاهما ليعيناه على حملهن حملا، والرجوع بهن إلى القصر، لأنهم من شدة الضعف؛ بحيث لا يمكنهن الحراك ولا الكلام، فضلا عن المشي على الأقدام، فوافق الصاحبان على ذلك، وتكفل كل واحد من الفتيان الثلاثة بواحدة من الفتيات الثلاث، ثم ساروا على هذه الصورة آيبين إلى القصر، فما قطعوا ثلث المسافة حتى التقوا في طريقهم بثلاثة آخرين من الحراس، أرسلهم الملك للبحث عن الأميرة، ومساعدين لمن سبقهم في هذه المهمة، فحين نظر رجال الوفد الثاني إلى أصحابهم وما يحملون، هالهم الأمر وسألوا عن السبب فأعلموهم بالحداثة، وأنهم اضطروا إلى العودة بالبنات إلى القصر؛ يشرحن واقعة الحال للملك، فينظر في ذلك نظر حكمة، أو يدبر لنفسه أمرا؛ فاستصوبوا عمل رفاقهم هذا، ثم اتفق الفريقان على أن يستمر الوفد في ذهابه إلى القصر، ليرفع الخبر إلى مسامع الملك، وأنه يجد الثاني في السير لعله يقف للأميرة على أثر، أو يجيء عن أمرها بخبر، على ذلك انطلق الأول آيبا، واندفع الثاني ذاهبا.
أين أصبحت لادياس؟
كانت لادياس كلما أصبح الصباح طلعت على آفاق ساموس بالجلال والجمال والشمس، كلتاهما في رونق ضحاها، وعند سرير مجدها وعلاها، لكن للادياس من الشمس مصبحها وليس للشمس منها ممساها.
كانت تصبح كل يوم، وإذا الملك لله ثم لها في بلاد أبيها، والأمر في القصر أمرها، وأهل القصر والملك الوالد في أولهم على قدم يخدمون إشارتها في كل مقترح.
كانت عيناها الزرقاوان لا تنفتحان إلا على نعيم الملك وعز السلطان، وما بينهما من صنوف السعادات وأنواع الملاهي واللذات.
فإذا لبست للإمارة حلتها، وأخذت تجاه المرآة زينتها، وافى الشعراء حضرتها، وإذا على لسان كل واحد منهم مرآة تنظر فيها الأميرة إلى محاسنها كيف كملت، وإلى آدابها كيف جملت، وإلى نسبها كيف شرف وارتفع، وإلى ملكها كيف عظم واتسع.
Bilinmeyen sayfa
فإذا أتم الشعراء كلمات المدح والثناء أقبل العازفون وأهل الغناء فأجزلوا لها من الطرب، وكالوا لها من كل لحن عجب.
فإذا خرج هؤلاء دخل الأمراء والوزراء والكبراء والعلماء والحكماء، هذا يسجد وهذا ينحني، وهذا يقبل اليد ثم ينثني، وهذا يضحكها بنادرة يرويها وهذا يهز أعطافها بحكمة يلقيها، والكل بين المهابة فيها والإعجاب، يبالغون لعروس اليونان في الخطاب.
ثم يؤتى إليها من أقاصي المدينة بالتحف الغالية والهدايا الثمينة؛ برهانا إثر برهان على ولاء رعيتها الصادقة الأمينة.
وبالجملة، كانت لادياس في كل صبح هي العناية في ملك، والشمس الورود في فلك، ظل للرعية وعصمة، وسلام فيهم ورحمة، تمنح إذا الدنيا منعت، وترفع إذا الأيام وضعت، ولا تستشفع إلا شفعت.
إذا عرفت هذا شق عليك أن تعلم أن عروس اليونان؛ أصبحت في غد تلك الليلة النحيسة، لا تحكيها في شقائها وبؤسها وبلائها جارية في مملكة ساموس، بل في ممالك الأرض جمعاء؛ أصبحت في ظلمات تلك الصخرة الهائلة وسادها الحجر بعد الخز، ورداؤها الذل بعد العز.
ونكد الدنيا يتمثل لها في صورة ابن عمها وهو قائم عند رأسها يقول: انظري أين أصبحت يا لادياس.
قالت: في أسر شيطانك يا باغي وما أسرت إلا الجسم، ولن تملكه حتى تصير للدود، فلا تطمع مني بحب ولا قبول، ولا ظفر بمأمول.
بل اقتلني؛ فهو خير لك من طلب المحال، وأهون لي من عذابي بنحس وجهك المستمر.
قال: أما أني أقتلك أو أدعك تقتلين نفسك؛ فأمر لا يكون، وأما أني لا أنال ذاك المرام، فهذا يا لادياس كلام في كلام، فإن لم يكن لي أن أطمع، فإن لي أن أغصب الإرادة كما غصبت المريد.
قالت: إن للفضيلة والطهارة آلهة بهم اليوم اعتصامي، فإن لم يغنوا فإن غدا بهم انتقامي. والآن أطلب منك يا بيروس الراحة الصغرى بعد ما بخلت علي بالراحة الكبرى.
Bilinmeyen sayfa
قال: مري يا ابنة العم.
فشق على الأميرة قبول هذه القرابة، وازدادت غضبا على غضب.
فقالت: إنني أحرمك يا بيروس أن تدعوني بيا بنة العم؛ فقد أخرجك الملك من قرابته. ولا يليق ببنت الملك أن تكون أول مخالف لإرادته.
قال وتبسم: ولكني أنا الملك هنا، وأنت لي كل الرعية يا لادياس، ومع ذلك فإني عبدك أسألك ماذا تأمرين.
قالت: لقد بخلت علي بالقتل، فلا أظنك تبخل علي بتركي وحدي، لعلي أجد بعض الراحة في الوحدة.
قال: ذلك إليك.
وكان حب الفتى لبنت عمه يداني الجنون، وهي بالعكس تبغض ابن عمها بغض الموت، فلم يثنه ما رأى منها وما سمع عن رجاء انقيادها، والوصول يوما إلى اجتذاب فؤادها. وهكذا كبير الغرام كبير المرام، فتركها وشأنها وما تبتغي من الخلوة؛ ظنا منه أن ذلك منها نفار ويزول، وصدود عنه ستحول، فنحن نتركه الآن يقضي الأيام في الأماني والأحلام. ويروم من عروس اليونان ما لا يرام.
الملك بوليقراط
الهم في الدنيا لنا شامل
لم يخل لا عال ولا سافل
Bilinmeyen sayfa
حمل إذا شئنا وإن لم نشأ
فكلنا يوما له حامل
إذا حواه الملك في برده
أوعاه في كشكوله السائل
يرقى إلى الصاعد في عزه
ويلتقيه دونه النازل
ويعثر الراكب منا به
ولا يوقي العثرة الراجل
فقل لبقراط لقد كان ما
خفت وجد الزمن الهازل
Bilinmeyen sayfa
أمسيت لا دارك مملوءة
أنسا ولا الصفو بها كامل
قد نام ذو جوع وذو غلة
ونام حافي الناس والناعل
ونام في السجن سجين به
ونام من أبعدت والواصل
وأنت في قصرك أنت السها
لا نوم لا إغفاء يا ثاكل
لما بلغ الخبر مسامع الملك بوليقراط كادت لآجله أن تصم من الذهول وشدة الغم، وكان البنات هن اللاتي قصصن عليه قصتهن، وما لقين في حدبة البحر، وكيف وصل البحارة إلى اختطاف الأميرة وصاحبتهما هيلانه، بعد ما ردوهن جمعاء إلى العجز وفقدان الحراك بقوة الحبال، وما أعدوا لهن في السلاسل والأغلال، فلما سمع الملك ذلك أيقن أن في الأمر مكيدة، وأن فتاته إنما وقعت في مصيدة.
وكان قد اجتمع بالملك على الفور، كل الرجال ذوي الشأن في القصر، فبدأ الأخذ والعطاء وحمي الحديث وكثرت الظنون، فكان أول ما ذهب إليه الملأ، أن ناصب الشرك قد يكون أحد الأجانب القادمين إلى البلاد في طلب الزواج بالأميرة، فلما لم يستطع الوصول إلى ذلك؛ سولت له نفسه أن يأخذها غصبا، ففعل.
Bilinmeyen sayfa
ثم تنقلوا من هذا الظن إلى غيره، فزعموا أن الكمين لا يكون إلا أحد الرجال ذوي المكانة في البحرية، بدليل أن خاطفي الأميرة هم كما أخبر البنات من جند السفن السلطانية، وأنهم يعرفون عادات الأميرة، وأوقات خروجها ودخولها، ولولا ذلك ما جاءوا في الوقت اللازم، ولا اهتدوا إلى المكان الملائم.
وفي آخر الأمر ذهب قليل منهم إلى أن الفخ لم ينصبه إلا بيروس؛ بدليل أنه ولي الثارات القديمة، وصاحب العداوة المستديمة، وأن الذي أخبر به البنات ليس إلا مستعارا، فهو حيلة انطلت على المخافر البحرية، حتى مر بيروس ورجاله في أمن وسلام.
وفي هذه الأثناء حضر أورستان، وكانت الرسل قد أرسلت تباعا في طلبه، وما هو إلا أن وصل حتى خاض في الحديث مع الخائضين، واشتغل بالمحادثة مع المشتغلين.
وكان رئيس السفائن السلطانية في جملة المتشرفين بمجلس الملك، فسأله أورستان: هل كان لكم زورق يسير اليوم في الخدمة الشريفة؟ قال: لا، اللهم إلا أن يكون جلالة الملك هو المسير له ولا أدري، فقال الملك: لا أذكر أني أخرجت زورقا اليوم، ولكن ما علاقة هذا السؤال بما نحن فيه يا أورستان؟ قال: ذلك يا مولاي أن رجالي أخبروني قبيل وصول رسلك إلي أنهم التقوا اليوم بزورق من زوارق الإمارة، فيه ثلة من البحارة، فدنوا منه وداروا به كالعادة، ولكنهم ما لبثوا أن خلوا سبيله؛ كرامة لذكر اسم جلالتك، فقد قام منهم رجل مهذار، يبالغ لرجالنا في الوعيد والإنذار، حتى ضحكوا منه بقية النهار، فإذا كنت يا مولاي لا تذكر أنك سيرت زورقا، والرئيس يقول إنه لم يخرج شيئا من ذلك، فلمن ذلك الزورق إذن، وما ذلك الزي وأين ذهب أولئك البحارة؟ إن الأمر لا محالة مريب، ولكني أتكفل لجلالتك بكشف دخيلته، ولا أسألك أكثر من ثلاثة أيام، ثم آتيك بالخبر اليقين، قال: أفعل يا أورستان ولك الشكر، ولكني قد وجدت الذي ينفعني في البحر، فمن لي الآن بالساعد المساعد في البر، لأنك تعرف أحوال الجزيرة، وتعلم أن المجاهل فيها كثيرة، فما يدرينا أن تكون لادياس نقلت إلى بعض المكامن؛ حيث هي الساعة مقبورة أو أسيرة، قال ذلك واغرورقت عيناه بالدمع فأمسك عن الكلام، وأطرق أورستان يفكر في طلب الملك، ثم التفت إليه وقال: قد وجدت الذي ينفعنا في البر يا مولاي، قال ومن ذاك قال: قد وعدت يا مولاي أنك تفك الأسرى، فإذا كنت فاعلا، فاجمعهم في مجلسك هذا، وأعلمهم بحقيقة القصد مما عوملوا به، وأنك لم ترد بهم الشر ولكن لتبلوهم أيهم أثبت جأشا وأعظم شجاعة وبسالة.
ثم أعلمهم بما كان من اختطاف الأميرة على أثر ذلك، وأن الفرصة قد تهيأت للشجاع منهم أن يظهر شجاعته، فمن وجدها منهم وردها إليك سالمة، كان بها أحق فلا يعطاها إلا هو، فوافق الملك على هذا الرأي، واستحسنه سائر أهل المجلس، فصدر الأمر عندئذ بإطلاق الأسرى والمجيء بهم معززين مكرمين.
ولم تكن هنيهة حتى جيء بالرجال وقد أبدلوا حالا من حال، فردت إليهم أسلحتهم وعوملوا بعد الحقارة بالإجلال، فلما دخلوا على الملك خف لهم فخف المجلس على إثره، ثم وقف موقف الخطيب فقال:
أيها الأمراء الأقيال والشجعان الأبطال
إن ما وصل إليكم في مياه مملكتي من الأذى، وما عانيتم بعد ذلك من السجن، لم يكن عن سوء قصد ولا ابتغاء الإضرار بكم، ولكن لنبلوكم أيكم أثبت في ساعة الهول جأشا وأعظم شجاعة وبسالة، وبالجملة لم نكن فيما عاملناكم به إلا مختبرين.
والآن برغمي أن أخبركم أن الأميرة قد اختطفت، وهي كما تعلمون واحدتي التي لا أعطي الصبر عنها، فمن وجدها منكم وردها إلي سالمة موفورة العرض أعطيته إياها فلا يفوز بها سواه، فاخرجوا الآن إلى مباشرة العمل، اخرجوا فانظروا ماذا أنتم فاعلون.
فما أتم الملك كلماته هذه حتى صار الملأ حيارى كأن بهم سحرا أو كأنهم لا يعون، حتى إذا استفاقوا من دهشتهم، وخرجوا هائمين على الوجوه، يخيل لكل أن لادياس بين عينيه وفي يديه، ولو كانت في السماء لصعد إليها قبل أن تنزل إليه.
Bilinmeyen sayfa
وكان الليل قد انتصف أو كاد فأشار الملك لأصحابه بالانصراف فانصرفوا، وانقلب هو إلى مقاصيره الخاصة؛ حيث الملكة حالها كحاله، وأوجاعها وأوجالها من جنس أوجاعه وأوجاله، فقضى الوالدان كلاهما تلك الليلة سهادا هي حتى مطلع الفجر.
حياة ثم موت ثم بعث
إن كان عمر طويل
فما إليك سبيل
فالبحر حرز حريز
والبر ظل ظليل
ولا المخاوف إلا
حوادث وتزول
والبأس ليس بمرد
والجبن ليس ينيل
Bilinmeyen sayfa
فكن كما شئت إلا
أن الجبان ذليل
علم القارئ أن (حماس) غرق في البحر على أثر التقاء مركبه بمراكب أورستان، وما وقع بينهما من الحرب العوان، وأن القوم غاصوا عليه طويلا فلم يجدوا له أثرا، وإذ أخذهم اليأس في أمره حولوا مراكبهم عن ذلك الموضع من البحر إلى غيره.
والآن نقول إن حماس لما ألقى نفسه في البحر كان لا يزال في أجله طول، فما صار تحت الماء حتى انسحب بتيار كامن خفيف، فلبث فيه هنيهة يجاريه بصدر قوي صحيح، حتى تمكن من إخراج رأسه من الماء، وإذا به بعيد عن أورستان وجنوده؛ بحيث يرى السفن ولا يراه من في السفن فما تواني أن ذهب سبحا في عريض الماء، يسلك طريقا غير طريق الأعداء، وكان البحر هادئا ساكنا إلا رجة فيه خفيفة، نشأت عن تلك المعركة العنيفة، وخصوصا عند سقوط السفينة المحترقة فيه، وكان الفتى طويل الباع في العوم فزاده الأمل بالنجاة، طول باع في ذلك اليوم، فما زال ينساب انسيابا، ويذهب في ثنايا الماء ذهابا، حتى أمسى وإذا هو بليل كموج البحر، في بحر كموج الليل، وكان الفتى قد وهت قواه، وبرئ منه ساعداه، بعد أن طالما ساعفاه، فوقف وقفة المودع للوجود، الساجد للسماء في الماء لو قدر على السجود، ثم تراخت أعضاؤه، وانحلت من الكلل أجزاؤه، فنزل قليلا قليلا يهوي إلى القبر الأعظم من عالم الدأماء.
ولكنه ما كاد يحتجب رأسه في الماء، حتى اصطدم كتفه بجسم صلب كادت تترضض بها عظامه، فتعلق بهذا الجسم من حيث يدري ولا يدري، فلم يشعر إلا بحياته قد انبعثت، وبجثته قد خرجت من ذلك القبر الهائل، ملآنة من روح الأمل بعد اليأس، وقوى الحياة بعد الموت، ثم لم يبصر إلا بلوح عظيم كأنه بقية من بقايا فلك منكسر وهو يتوكأ عليه ويتخذه سندا ليديه، فرفع إلى السماء عينا شاكرة، إلى آلائها ناظرة.
ثم تلا هذا النور نور الوجود بعد العدم، أضواء ضعيفة تبدو على بعد كأنها دنانير تهادى في الفضاء، فدب دبيب الرجاء في حماس، وفاء إلى الطمأنينة والإيناس، إذ رأى البر وأعلامه، وأيقن أنه عن قريب يجتلي وجه السلامة.
فلبث مدة يسيرة لا يجهد أعضاءه ولا يتحرك حتى أخذ لبدنه قسطه من الراحة، وامتلأ من القوة اللازمة لاستئناف السباحة، ثم دفع اللوح أمامه، واندفع يتخذه متكأه وزمامه، وهو يسرع في سيره تارة ويتأنى في مشيته طورا، ويستريح مرة ويصل العوم أخرى، وما زال كذلك نحو ساعتين من الزمان، حتى أشرف على البر بسلام وأمان.
ولكن تلك الأضواء التي وجد عليها الهدى كانت لا تزال تلوح له قصية واهية خفاقة، بل قد رآها وهو على خطوات من البر أضعف كثيرا مما كانت تبدو له وهو في أحشاء البحر، وقد قامت أمامه صخور هائلة لا نور عليها ولا سبيل مع الظلام إليها.
ومع ذلك فلم ير الفتى بدا من الوصول إلى اليبس، والمبيت تلك الليلة على الفراش العام الأمين، فراش السراة بالليل والمعدمين، فدنا من الشاطئ يدفع اللوح وهو به ضنين، حتى نالت يداه الأرض فأتبعهما الأقدام، وهو لا يدري أفي يقظة أم في منام، أم هو غريق يختنق وهذه سكرات الحمام، حتى إذا احتوت الأرض قدميه، كان أول ما فعل أن جذب اللوح إليه بكلتا يديه، ولو استطاع حمله في عينيه، ثم قال يناجيه:
أيها اللوح المنزل رحمة من السماء، المخرج عصمة من الماء، المسخر لإنقاذي من لدن الآلهة الكرماء، أقسم لك بأسمائهم العظيمة، وآلائهم الجسيمة، إني أحملك وأصحبك وأفي لك كما حملتني في اليم، وصحبتني في الغم، ووفيت لي فيما ألم، وأعدك وعد حر كريم، أني إذا أوتيت ملك مصر آمر بعودك فتصنع منك قوائم عرشها العظيم.
Bilinmeyen sayfa