السيئات يقترفها الناس، فيمضي فاعلوها وتبقى.
وأما الحسنات فغالبا ما تدفن مع رفاتهم تحت الثرى.
أما أن تبقى السيئات بعد أن يمضي فاعلوها، فأمر من الوضوح بحيث لا أظنه موضعا للشك والريبة، على أني تاركه الآن لأعود إليه بعد قليل، لكن الذي قد تخطئه العين العابرة، هو ذهاب الحسنات في جوف الأرض مع رفات المحسنين.
وإني لأعترف أني قد لبثت حينا طويلا، أنكر على الشاعر العظيم رأيه هذا كلما ذكرت سطريه السابقين، كنت أعجب كيف يقول إن حسنات المحسنين غالبا ما تدفن مع رفاتهم وتنسى، مع أن الناس - فيما كنت أرى - ما ينفكون لاهجين بمآثرهم، مخلدين لذكرياتهم، بما يبنون لهم من أنصاب وتماثيل، وما يكتبون عنهم من مقالات وكتب، وما يقيمون لهم من حفلات يحيون بها أسماءهم كلما مضى على موتهم كذا عام ... ألا يكفي ذلك كله دليلا على أن حسناتهم لم تذهب - كما زعم الشاعر - مع رفاتهم تحت الثرى، بل بقيت حية في ذاكرات الأحياء؟
هكذا كنت أعجب لنفسي من قول الشاعر، حتى كان الأمس، حين جلست من داري في ركن دافئ ساعة الغروب، أشرب الشاي في صمت وعلى مهل، سارحا بفكري فيما أساء لنا الأسلاف بما ألقوه على ظهورنا من أعباء ثقال؛ أعباء التقاليد التي أقعدتنا عن الحركة الخفيفة والسير السريع؟ وكان طبيعيا عندئذ أن تتوارد الخواطر، فتثب إلى ذهني عبارة شكسبير: «السيئات يقترفها الناس فيمضي فاعلوها وتبقى، وأما الحسنات ...»
ولكني هذه المرة - ولأول مرة - وقفت وقفة المتأمل، بعد أن تعودت فيما مضى أن أوافق على الشطر الأول وأرفض الشطر الثاني، موافقة ورفضا هما أقرب إلى الحركة الآلية منهما إلى التفكير المتروي، لم أرض لنفسي هذه المرة أن تتعجل الإنكار والنفي، فالأرجح أن يكون الشاعر الذي صدق القول في شطره الأول، قد صدق القول كذلك في شطره الثاني - فلأفكر من جديد: أحقيقة تدفن الحسنات غالبا مع رفات المحسنين؟
وكأنما أشرق علي هذه المرة ضوء جديد، إذ نظرت إلى الموضوع من ناحية جديدة، قلت لنفسي: دع عنك ما يقيمه الناس لموتاهم المجيدين من تماثيل وما يكتبونه عنهم من كتب؛ لأن ذلك كله قد يكون سدا من الإنسان لنقص أدركه في نفسه، فربما أدرك الإنسان في نفسه سرعة نسيان الجميل، فعالج نسيانه هذا السريع بما يذكر ... إنه إذا ثبت أن طبيعة الإنسان تمنعه من الاعتراف بالجميل لصاحبه، وتدفعه إلى طمس معالم الفضل الذي أسدى إليه ما استطاع إلى ذلك سبيلا، إذا ثبت ذلك في طبيعة الإنسان، إذا فلا شك في صحة قول الشاعر، بأن الحسنات كثيرا ما تدفن مع رفات المحسنين، فلا يكاد المدين بفضل أن يهيل التراب على المتفضل؛ حتى يتناسى الدين فينسى، وينسى الناس معه، وبذلك ترقد الحسنة مع رفات صاحبها في قبره إلى الأبد.
وحسبك وقفة لا تطول، لتدرك على الفور أن الطبيعة البشرية تأبى على الإنسان أن يعترف بفضل أسدي إليه، فإن أخذنا أنفسنا بهذا الاعتراف، فلأننا قد أخذنا طبيعتنا بالتهذيب والتدريب، وإذا فليس يحفظ الجميل إلا من اكتسب القدرة على قمع طبيعته والإمساك بزمامها ... ذلك لأن من أعطى أقدر ممن أخذ العطاء، ومن أحسن أقوى ممن تقبل الحسنة، ولما كان الإنسان بطبيعته أميل إلى إظهار جوانب قوته وإخفاء جوانب ضعفه، كان من العسير عليه أن يعترف بما بدا من عجزه حين قبل المعونة ممن أعانه.
في العطاء قوة وفي الأخذ ضعف، حتى ليركع الآخذ أمام معطيه - حقيقة أو مجازا - وإذا ما حدثه جاء حديثه خافتا، وبدت عينه «مكسورة» حسيرة ... إن من الكتب التي أقامت لي ركنا ركينا من ثقافتي، قصة «راعي ويكفيلد» ل «أولفر جولد سميث». هذا الكتاب العجيب الفريد، الذي ينفذ في الطبيعة البشرية نفاذا يصل إلى أعماقها، والذي له في كل صفحة، بل في كل فقرة، بل في كل سطر من سطوره، ملاحظة صادقة في تحليل طبيعة الإنسان، في هذا الكتاب يقص عليك الكاتب في سياق قصته، أن مسافرا التقى براعي ويكفيلد واستدانه قليلا من المال يرده له عند بلوغه غايته، ثم حدث أن أقام الرجلان ليلة في نزل في الطريق، ودارت بينهما مناقشة احتد فيها المسافر، فأخذ العجب من الراعي كيف استباح ذلك الرجل الجريء لنفسه أن يحتد معه في المناقشة مع أنه مدين له بمال؟!
ولما كان العطاء قوة والأخذ ضعفا، كان عسيرا كل العسر على من به كبرياء، أن يضع نفسه موضع الآخذ؛ لأنه يعلم أن ذلك سيصحبه اعتراف لغيره بالفضل، وفي ذلك ما فيه من جرح، ويزداد هذا الجانب وضوحا، حين يحسن المحسن عن شعور بقدرته، فيثير في الآخذ إحساسه بنقصه وعجزه، وقد يعطي المعطي عن شعور بالعطف على من أعطى، كما يفعل الوالد مثلا نحو ولده، وعندئذ يغلب أن يبادله الآخذ عطفا بعطف.
Bilinmeyen sayfa