إنها «قصة جهاد بطل وأمة - من حياة سيف ابن ذي يزن بطل اليمن»، ولعل أديبنا الفاضل قد أراد بها اليوم أن تكون تحية منه يهديها إلى المجاهدين في سبيل الحرية القومية بمثل ما جاهد سيف بن ذي يزن في تحرير بلاده من الحبشي الغاصب، لعله أراد بكتابه هذا أن يكون تحية منه لشباب اليوم من المجاهدين، يهديها إليهم من ذكريات شبابه، عندما كانت الثورة المصرية في عزها تلهب نفسه الحساسة بحرارة الإيمان والأماني، أيام أن غمسته روحه الوطنية في بني قومه من أبناء الشعب في إحدى ندواتهم «البلدية»، حيث يعتلي «الشاعر» منصة لينشد للسامعين قصة سيف بن ذي يزن ... ف «هذه القصة التي أكتبها اليوم بعد مضي أكثر من ثلاثين عاما على تلك الأيام البعيدة ما هي سوى تحية أؤديها لذكرى اللحظات المجيدة التي كنا نجاهد فيها بأنفسنا ونسخو فيها بأرواحنا، لا نسأل أحدا عليها أجرا ولا شكرا ... ثم هي تحية للشاعر الذي ما زالت صورته ماثلة في الذكرى وإن كان اليوم يثوي في مضجعه الأبدي، لا يذكر أحد أن أناشيده القوية الوثابة كانت تحرك قلوب طلاب الحرية نحو عزمات الغد الطالع من ضمير الغيب ...»
وأول ما نذكره مما يعنينا الآن من هذا الكتاب النفيس هو أنه قصة أدبية، أجراها كاتبها على قواعد الفن القصصي، وليس بذي وزن كبير في العمل الأدبي أن يكون موضوعه منتزعا من التاريخ أو لا يكون، بل لا يجوز للناقد أن يحاسب الأديب على صدق ما ورد في قصته من تاريخ، مستندا في محاسبته إياه إلى المدونات والوثائق؛ لأن صفة التاريخ في القصة الأدبية عرض، والأصل فيها تصوير الأشخاص الذين تقوم القصة على أقوالهم وأفعالهم.
فلا يكاد الناقد يسأل: هل صدق شكسبير - مثلا - صدقا تاريخيا في مسرحياته «هنري الثامن» و«رتشارد الثالث» و«أنطون وكليوباترة» وغيرها من رواياته التاريخية - يكاد الناقد لا يسأل هذا السؤال؛ لأنه يعلم أنه بصدد عمل أدبي أنتجه فنان، فالسؤال فيه إنما يكون: هل رسم الفنان هذا الشخص أو ذاك رسما يجعله ذا طابع فردي متميز، كالذي يتسم به الأفراد الأحياء الذين نصادفهم في الحياة ويصادفوننا؟ هل هذا الملك أو هذا العاشق أو هذا الخادم، قد تكاملت في صورته العناصر تكاملا يتمم فيه بعضها بعضا، كما تتكامل الأجزاء في أي كائن عضوي بصفة عامة، وفي أفراد الإنسان بصفة خاصة؟
لقد أتاحت السينما منذ حين لألوف المتفرجين أن يشهدوا مسرحية «قيصر وكليوباترة» لبرنارد شو، فشهدوا قيصر وكليوباترة على غير ما ألفوا سماعه عنهما من كتب التاريخ؛ لذلك كان النقد الذي يدور على ألسنتهم هو هذا : إن الأديب قد أخطأ هنا لأن كذا قد حدث، وأخطأ هناك لأن كيت لم يحدث ... كأنما قد قطع الأديب لهم عهدا على نفسه بأن يكون مؤرخا يحاسب بالوثائق والمراجع والأسانيد.
إن بين العلم والفن فارقا لو جعلناه نصب أعيننا، ضاقت شقة الخلاف بيننا في تقدير الآثار الفنية تقديرا نميز به غثها الزائل الفاني من سمينها الخالد الباقي، وذلك هو أن العلم تعميم والفن تخصيص. العلم يبحث في أفراد من النوع الواحد، لا ليقف عند الأفراد في ذواتها، بل ليسقط من حسابه المميزات الخاصة التي يتصف بها كل فرد على حدة، ويبقي العناصر المشتركة التي تعم أفراد النوع جميعا دون تمييز بين فرد وفرد، فإذا قال العلم - علم النفس مثلا - إن الإنسان من طبيعته جمع الأشياء وحيازتها، كان قوله هذا نتيجة ملاحظة عدد من أفراد الناس، والتقاط الصفة أو الصفات التي يشتركون فيها، فإذا كان هذا الفرد معنيا بجمع المال، وذلك معنيا بجمع الكتب القديمة، والثالث بجمع الآثار الخزفية، أسقط العلم ما يختلفون فيه مما يجمع، وأبقى على المشترك بينهم وهو أنهم يجمعون ويملكون، أما الفن فيقف عند الفرد الواحد ليبرز ما قد اختص به بحيث أصبح متميزا من غيره متفردا، ويكون نجاح الفنان بمقدار توفيقه في الاهتداء إلى هذه الصفات الخاصة المميزة للحالة المفردة التي يصورها، وترتيبها على نحو يبرز لنا في النهاية إنسانا معينا بذاته الفذة الوحيدة.
فالعلم والفن كلاهما يتناولان الأفراد الجزئية، أما العلم فيتناولها ليأخذ ما تشترك فيه من صفات ثم يهملها، وأما الفن فيتناولها ليقف عندها من بدايته إلى نهايته. وعندي أن الشرق بصفة عامة قد زاغ بصره عن الفردية التي تميز إنسانا من إنسان وحالة من حالة؛ ولذلك فقد أفلت منه العلم والفن معا إلى أقوام آخرين تقف أنظارهم عند الفوارق بين الأفراد والأشياء. ولقد عبرت عن رأيي هذا حين أخرج الأستاذ توفيق الحكيم مسرحيته «الملك أوديب» وقدم لها بمقدمة طويلة يحاول فيها تعليل غياب المسرحية من الأدب العربي القديم، فقلت عندئذ إن رأيي هو أن الأدب المسرحي - والقصصي أيضا - يستحيل قيامه بغير التفات إلى تميز الشخصيات الفردية بعضها عن بعض، فلو نشأ الكاتب في جو ثقافي لا يعترف للأفراد بوجود، ويطمسهم جميعا في كتلة واحدة من الضباب الأدكن، فلا سبيل أمام هذا الكاتب إلى تصوير الأفراد في قصة أو مسرحية. والشرق كله قد طمس الفرد طمسا ولم يترك له مجالا يتنفس فيه، فالأفراد في الثقافة الهندية كلها «مايا» - أي وهم لا وجود له - والموجود الحق عند الهنود هو الكون كلا واحدا لا تفرد فيه ولا تكثر، وقل مثل هذا في الصين وفي كل بلاد الشرق بصفة عامة. الحضارة الشرقية كلها تغفل شأن الفرد وتجعله جزءا من شيء أعم منه، فهو عند العرب جزء من القبيلة، فلا وزن له إلى جانبها ولا قيمة له بالقياس إليها، وما كذلك اليونان؛ لأن الفرد عندهم هو محور التفكير - حتى الآلهة عندهم أفراد لهم مميزاتهم ومشخصاتهم، ومن هذين الاتجاهين المختلفين في الشرق والغرب، نشأت الديانات في الشرق، ونشأ العلم والأدب في الغرب؛ لأن معظم الديانات أساسها التوحيد بين الظواهر المختلفة، وأما العلم والفن فأساسهما التمييز بين تلك الظواهر - العلم يميز الأنواع والفن يميز الأفراد - وهكذا لم يعرف الشرق «أشخاصا فردية» فلم يعرف مسرحية ولا قصة.
وأعتقد أن أكبر تطور طرأ على أدبنا في الفترة الأخيرة هو بداية الالتفات إلى الأفراد وتصويرهم، وقد كان ذلك نتيجة - أو كان هو المقدمة لست أدري - لتطورات مماثلة في السياسة والاجتماع، فالحكم البرلماني يستدعي تصويت الأفراد كل فرد بذاته، ونظام الأسرة قد أخذ يخلخل الهواء بعض الشيء حول الأفراد لتظهر لكل فرد شخصيته، وبخاصة المرأة وعلاقتها بزوجها أو أبيها، ورجال التربية يصيحون آنا بعد آن أن افتحوا أعينكم للفوارق بين الأفراد.
أقول: إن أكبر تطور طرأ على أدبنا في الفترة الأخيرة فيما أعتقد، هو بداية الالتفات إلى الأفراد وتصويرهم، فالدكتور طه حسين يصور في «الأيام» إنسانا واحدا بذاته، هو نفسه، والدكتور أحمد أمين يصور في «حياتي» إنسانا واحدا بذاته هو نفسه أيضا، والأستاذ توفيق الحكيم يصور في مسرحياته أشخاصا أفرادا، والأستاذ العقاد يصور في «سارة» إنسانة واحدة بذاتها، وهكذا «زينب» لهيكل، و«إبراهيم الكاتب» للمرحوم المازني، وهكذا.
وقد ادخرت الأستاذ فريد أبو حديد في كتابه الجديد «الوعاء المرمري» لأدير حوله بقية الحديث، ف «الوعاء المرمري» ظاهرة جديدة تضاف إلى غيرها من أشباهها التي تدل على هذا التطور الجديد في الأدب العربي ... العناية بالأفراد وتصويرهم في قصة أو مسرحية أو غير ذلك.
لذلك كان أول ما عجبت له في «الوعاء المرمري» أن يعلن الكاتب منذ البداية على لسان الشاعر المنشد، وهو يمهد لقصته التي ينوي إنشادها، مبدأ طمس الأفراد في عجينة الزمان، إذ يقول: «كل فرد ... يحسب أنه يجرب ما لم يجرب أحد من قبله، ويدرك ما لم يدركه أحد غيره، يذوق الحب فيحسب أن أحلامه الساحرة لم تخطر قط على قلب ... ولكن الزمان يرمقه باسما وينادي بصوت خفي قائلا: هكذا كانوا دائما.»
Bilinmeyen sayfa