كلمة للمؤلف
المقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
كلمة للمؤلف
المقدمة
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
كريستوف كولومب
كريستوف كولومب
تأليف
مارون عبود
كلمة للمؤلف
لا أذم القصبة التي اتخذتها رفيقة لي وعقدنا الخناصر على أن لا يفرقنا سوى الموت؛ فهي عشيقتي ولا أحب سواها، وإن جار علينا الزمان وقضى أن نعيش بعيدين عن رياض الثروة الخصيبة، فأنا أحب أن أحيا بروحي ويكفيني ما يحفظ بقاء هذه الروح.
أجل، إننا في بلاد ما زال فيها الألمعي غريبا، بيد أنه قد يجد الغريب في مطرحه لذة لا تقل عن لذة الموسرين الغارقين بين حشايا الحرير والديباج، ولولا ذلك لانتحر البؤساء الذين هم السواد الأعظم، لانتحر المساكين، وتقوضت أركان راحة الأغنياء، وأصبحت القصور الشاهقة قاعا صفصفا.
وكما يطمع الناسك المتقشف بسعادة دائمة بعد عيشته الخشنة هكذا يطمع الأديب بحياة ثانية، وهي حياة الذكر والروح. وعلى هذا الأمل يكتب هذا المنكود الطالع رواية أتعس التعساء «كريستوف كولومب» لنفكر بمصائب هذا الرجل فتصغر مصائبنا، وبضدها تتميز الأشياء.
كتبت هذه الرواية وفكري ميال إلى الروايات الوطنية، كما صرحت بذلك مرارا، ولكن اعتباري كولومب رجلا وطنه الإنسانية جمعاء، حملني على تأليف روايته؛ لأنه لم تبق أمة ولم تمتزج بالشعوب التي هي غرس اجتهاد كولومب وبلادها وطنه الحقيقي.
فليقرأ كل ناطق بالضاد هذه الرواية ويحيي عظام كولومب العظام، ويذكر القلم الذي كتب تاريخ حياته بالدعاء.
مارون عبود «جبيل» غرة آذار سنة 1910
المقدمة
(يظهر الملعب بهيئة دير رابيدا وكولومب وولده في فنائه.) (كولومب - دياكو (ولده) - الأب جوان - مرتين ألونزو - فرنسوى («قندلفت» خادم))
كريستوف كولومب :
خداع كله هذا الوجود
وغير الكذب فيه لا يسود
وليل المطل ممتد ظليل
يضل بدجنه الرأي السديد
وتلك عقول أهل الأرض طرا
تكبلها السلاسل والقيود
فوا لهفي على من كبلتهم
سلاسل دون قسوتها الحديد
هو التقليد سبكها فجاءت
وفيها يزدهي عنق وجيد
عجيب! كيف لم يسمع ندائي
مليك أو غني أو عميد؟
أجئتهم ترى بخزعبلات
وأوهام بها عبث الوليد؟
لقد حدثت نفسي باكتشاف
فمن بالمال لي منهم يجود؟
متى تمتد نحوي كف يسر
فيبدو ذلك القطر الجديد؟
لقد قضيتها عشرين عاما
وعني قد تحجبت السعود
ونار الشيب قد لعبت برأسي
وأيام المنى والحظ سود
وقد ضاقت يدي بل ضاق صدري
فكيف تبددت تلك الوعود؟!
لقد أصبحت جوعانا شريدا
وعريانا، فيا أقوام جودوا
حياتي كلها تعب وكد
وأحزان يمازجها الجحود
إذا عرضت على الموتى حياتي
بعيش مثل عيشي لم يريدوا (يركع وينظر إلى السماء.)
إلهي لم يعد لي قط ملجا
سواك ففيك لم تخب العبيد
أنا لا أختشي موتي ولكن
وليدي بائس مضنى شريد
أموت ولست أورثه نضارا
ولكن يتمه الإرث الوحيد
إلهي! (وينتحب) .
دياكو (الابن) :
يا أبي صبرا فليس ال
بكاء بمثل موقفنا يفيد
أبي بالله لا تجرح فؤادي
كولومب :
بني يحق لي النوح المديد
فقد أنفقت ما جمعت قدما
وها إني من الدنيا طريد
أنا لا أبتغي مالا وجاها
ولكن ما يتم به الوجود
فإن نولت ما أبغي فإني
أنا هو ذلك الرجل السعيد
دياكو :
أبي قد جعت ... ...
كولومب : ... ... يا ولدي اصطبارا
دياكو :
فما صبري وبي جوع شديد؟!
كولومب :
تجلد يا بني فعين ربي
تراك وفي تجلدنا نسود
ومن كان الزمان له عدوا
فإن الصبر معقله الوطيد
ولكن لا ففوزي ليس يرجى
فشطر غد به الفشل العتيد
آه، ما هذه التعاسة وما هذا الشقاء يا كولومب؟! كاد يقتلني الجوع ويخنقني الظمأ.
فيا ساكني دير الفرنسيس رحمة
بكولومب، من يرحم أخا الرب يرحم
أعندكم ما يقتل الجوع في الحشا
وما يطفئ النيران في كبد الظمي؟
ما هذه الأطمار البالية، إني لأخجل أن أظهر فيها:
فصاحة سحبان وخط ابن مقلة
وحكمة لقمان وزهد ابن أدهم
إذا اجتمعت بالمرء والمرء مفلس
ونادوا عليه لا يباع بدرهم (يتنهد)
ويلاه! ما العمل؟ أي ولدي الصغير، تقدم واقرع باب هذا الدير، فقد عهدت الرهبان الأتقياء يحبون الفقير، ويعطفون على البائس المسكين. (دياكو يتقدم متلفتا تارة إلى أبيه وتارة إلى الباب.)
كولومب :
تقدم ولا تخف هذا الباب الحديدي، فصوت المسكين يخرق الحديد.
دياكو (يقرع الباب مرارا ويتنصت) :
أسمع أصواتا رخيمة يا أبي.
كولومب :
إنها لترانيم سماوية يا ولدي تصعد على أجنحة الملائكة وترتمي على أقدام العرش الإلهي تستغفر الله عن جرائم الإنسانية وفظائع البشرية. ما أجمل هذه الحياة الهادئة، وأقرب سكان هذا المكان من باب الملكوت! اركع يا بني لنصلي ونشارك الرهبان في صلاتهم، ما أعذب الصلاة! فهي خير تعزية للمرء في ضيقته، ومهما أظلمت الدنيا بوجه الإنسان فعند ارتفاع بصره إلى السماء يلوح له نور مقدس يمزق هذه الدياجي (يركعان) . (بعد صمت قليل يسمع صوت داخلي يقول: من يقرع الباب؟)
كولومب :
فقير، مسكين، طرحته الفاقة على أبوابكم أيها الأتقياء فافتحوها له فتح الله بوجهكم باب ملكوته. (يفتح الباب ويخرج منه الأب جوان وفرنسوى ومرتين ألونزو فينهض مسلما ثم يأمر ولده قائلا):
كولومب :
حي يا ابني آباءنا الرهبان فقد طفنا البلاد ولم يرث لحالنا أحد ولم يقابلنا بشر بهذه البشاشة.
فرنسوى :
من تكون أيها البائس ومن أي بلد أنت؟
كولومب :
أنا كريستوف كولومب مجنون القرن الرابع عشر.
جوان (على حدة) :
قد سمعت قبل الآن بهذا الاسم.
كولومب :
أنا الرجل الذي فر من سريره إلى فم المخاطر فركب البحار وذلل الأمواج وطاف الأقطار والأمصار مدفوعا بشقائه وتعاسته، وما زال يتقلب من حال إلى حال حتى أصبح كما تراه يلتمس الكسر ليقتات بها ويبسط يده على الطرق مستعطفا أبناء السبيل.
فرنسوى :
يظهر أيها الرجل أن في حياتك سرا من الأسرار.
كولومب :
نعم، وأي سر لم يكن في حياتي؟! تعاسة، فقر، يأس، مخاطر، كل هذا رأيته في حياتي ولكنني لم أزل أعلل النفس بالآمال أرقبها.
جوان :
من يصبر إلى المنتهى يخلص.
كولومب :
آه يا أبت الفاضل! لو بسطت لك تاريخ حياتي لرأيت أنني ذقت من البلايا ما لم يذقه الشهداء، بيد أن عزمي لم يخر، وهمتي البعيدة لم تشبع من معاركة الأيام، وقد شاب شعري من كثر ما رأيت من الأهوال، ولكن عزمتي لم تزل شديدة المراس، وقناة همتي لا تلين للغامزين.
فرنسوى :
وإذا ما خلا الجبان بأرض
طلب الكر وحده والنزالا
إنك مهذار أيها الرجل، وحديثك يدل على اختلال في دماغك، أملك أنت أسقطك الزمان عن عرشك وحطم على أقدامك تيجانك حتى تدعي هذه الدعوى وتفتخر كل هذا الافتخار، أم حسبتنا قوما بعيدين عن ضوضاء العالم نصدق كل ما ينسج لنا على منوال الخديعة والهذيان؟
كولومب :
أفي كل مكان يقوم بوجهي أخصام؟! هو ذا عدو جديد تحت سماء الدير النقية. آه ما أشقاك يا كولومب!
فرنسوى :
نحن لا نعادي ولا نكره أحدا؛ ففادينا علمنا محبة الأعداء، ولكننا نكره الرذيلة لا الإنسان، فقل الصدق ولك منا فوق ما ترجو.
جوان :
ما لك وما له يا فرنسوى؟ دعه يقص علينا تاريخ حياته.
فرنسوى :
وأي عبرة وذكرى في تاريخ حياة شريد طريد مجنون فقير يتوهم أنه علامة عصره وفيلسوف دهره؟
جوان :
ابسط يا كولومب قضيتك مع الزمان فكلنا على الدهر أنصار وأعوان.
كولومب :
يعز علي يا أبت أن أعيد نظري في الصفحات المنطوية من سجل حياتي؛ فهي تستنزف عبراتي وتؤثر في عواطفك الشريفة، فدعنا فالحديث شجون.
فرنسوى :
ابتدأ الخلاط يهيئ الأذهان لسماع أكاذيبه، آه ما أقدر هذا الصنف من البشر على استمالة القلوب!
جوان :
هات الحديث فلعل عندي باب فرج أفتحه بوجهك.
كولومب :
أبت، ولدت سنة 1436 في مدينة جانوا من أعمال إيطاليا، ومن بزوغ فجر صباي ملت إلى فن الجغرافية والرياضيات، وعشقت الملاحة مهنة والدي، ولم أكن أكره غير البطالة التي تفسد الشبيبة وتقودها إلى حضيض الفقر والهوان. وإذ كان أبي دومينيك كولومب مشهورا بركوب الأبحار أخذ يدربني ويعلمني مهنته، ثم أرسلني إلى كلية بافيا حيث أتقنت علم الفلك والجغرافية والهندسة، فخضت البحار في عمر البدر ليلة تمامه، وكان إعجاب الناس في شديدا والثناء ينهال علي من كل جانب. جلت أول الأمر في البحر وأخذت أسعى بتوسيع دائرة السفر فاستخدمت في سفينة نسيب لي كانت مسافرة في الأوقيانوس الشمالي، وكنت أطارد السفن الفينيسانية حتى وقعت في لجج الأخطار مرات عديدة، وقد اشتد القتال مرة بيني وبين أصحاب تلك السفن فاضطرمت النار في سفينتي وسفينة أخرى من سفنهم فارتبكوا في أمرهم، أما أنا فتمسكت بجذع من الخشب حتى قادتني يد العناية إلى شواطئ مملكة البرتوغال، وهناك في تلك الأقطار بقيت في حالة الخطر من جراء التعب أياما عديدة، ولما عوفيت سرت إلى ليزبونه عاصمة تلك المملكة، وهناك عرفت بحارتها أحذق بحارة العالم والساعين في اكتشاف طريق جديدة تؤدي إلى الهند الغربي، وعرفت أيضا في ليزبونه سيدة شريفة كريمة الشيفاليه برتولماوس، واقترنت بها فرزقني الله منها هذا الولد الذي تراه أمامك في جزيرة بورتوسانتو. (هنا يتنهد ويلتفت بولده التفاتة مملوءة حنانا وشفقة ويتوقف عن الحديث.)
جوان :
لا تقطع الحديث يا كولومب بالله عليك.
كولومب :
وبقيت في تلك الجزيرة سنوات عديدة أتجول على شطوط أفريقيا وفي جزر كاناريس، وكنت دائما أبحث وأفكر في طريق بحرية يدار بها حول أفريقيا، وأقول في نفسي: أليست الأرض كالكرة المستديرة؟ أيعقل أن تكون الجهة الثانية من الأرض كلها مياها؟ لا، إذن فلا بد من اكتشاف شيء جديد، وقد وطد عزيمتي ما قصه علي أحد بحارة البرتوغال وهو أنه رأى على وجه المياه أخشابا صنع يد بشرية قذفتها الرياح في الأوقيانوس الأتلانتيك، ووجدوا أيضا في جزائر أسورس «ما بين أوروبا وأميركا» في البحر الأتلانتيكي جثتين غريبتي البنية، كل هذا يا أبت حملني على الجزم بوجود عالم جديد فحدثت نفسي باكتشافه.
جوان (إلى فرنسوى) :
يا له من ذكي متوقد الذهن! سيكون من أعظم خدام الإنسانية وأكبر نصراء الصليب.
فرنسوى :
ولله درك من ساذج مثله تعتقد ما يعتقده، ولا بدع فشبيه الشكل منجذب إليه! (إلى كولومب)
دعنا يا رجل من هذه الأضاليل. (كولومب يلتفت بفرنسوى متمرمرا.)
جوان (إلى فرنسوى) :
اخرج من هنا أيها الجاهل.
فرنسوى :
وابق أنت هنا وابن مع أخيك في الجنون القصور في إسبانيا (يقول هذا ويخرج ضاحكا) .
مرتين :
قد استرحنا من فلسفته، تمم حديثك يا كولومب.
كولومب :
عزمت عزما وطيدا على اكتشاف العالم الجديد، ولكن ضيق ذات يدي كبلني بقيود ثقيلة فعزمت على مفاتحة دولتي بذلك، وعرضت مشروعي على مجلس جانوا فرفض الطلب ساخرا بي سخرية هذا الراهب. فتركت بلادي قائلا: لا يكرم نبي في مدينته. وعدت إلى ليزبونه وعرضت على ملك البرتوغال أفكاري، وطلبت أن يمد لي يد المساعدة فلم يرفض، وبعد قليل ألف لجنة علمية طرحت على مائدتها آرائي فقررت أنها آراء فاسدة مزيفة فلم يقنع بذلك، وعين لجنة ثانية فأيدت رأي الأولى، وإذ رأت الملك معتقدا اعتقادي طلبت منه أن يرسل قبطانا من قبله لاكتشاف ذلك العالم الجديد، فأرسل سفينتين تحت رئاسة أحذق البحارة، فبعدما سافروا مدة قليلة عادوا يقولون إن مشروعي وهم ومحال؛ فتركت تلك البلاد قاصدا فينيسيا الجمهورية طالبا منها المدد فلم أظفر بغير الخيبة، والآن أنا كما تراني قد أنفقت كل شيء ولم أعد أملك شروى نقير، ولو لم تأووني هذه الليلة لكنت هلكت جوعا.
جوان :
مسكين أنت يا كولومب! أسأل الله أن يفرج أزمتك، ويريك جزاء أتعابك سعادة الدارين.
كولومب :
أنا لا أطلب يا أبي غير التوصل إلى العالم الجديد، فإما أن نزداد مدنية أو نمدن أولئك الناس التائهين في بيداء الهمجية. طفت كالبؤساء من بلاد إلى بلاد حتى وصلت إسبانيا، هذه المملكة الواسعة المتراخية الأطراف، كما أنني أرسلت أخي برتلماوس ورفيقي في هذا الجهاد إلى جلالة هنري السابع ملك إنكلترة، فعسى الله أن يقيض لنا يدا كريمة تجري منها أنهار الكرم والجود وتساعدنا على هذا المشروع العظيم.
جوان :
أنا من رأيك يا كولومب، ولو لم أكن راهبا لكنت أطلب الانتظام في سلك بحريتك الذين يركبون ذلك المركب الخشن في سبيل خدمة الإنسانية، آه يا ليتني أملك شيئا من المال لأضحيه في سبيل هذه الخدمة الجلى ولكن:
لا خيل عندك تهديها ولا مال
فليسعد النطق إن لم تسعد الحال
سأكتب لك إلى مرشد الملكة إيزابلا فهو صديقي الحميم وسيكون لك أكبر مساعد أمامها، إن ملكتنا يا كولومب تحب العلماء وتعتبر الأدمغة الكبيرة، فأسرع إليها بجرأة ولا تخف، فلنشرع الآن بالكتابة.
مرتين :
ما أجمل هذا الاجتماع بعلامة مثلك يا كولومب! إن خدمتك ستكون باهرة للبشرية وسيذكرها التاريخ بالإعجاب والتعظيم إذا خدمك الحظ، ولكن يا للأسف! فالفلاسفة والأدباء والعلماء والشعراء أشقياء في كل زمان ومكان، طالع التاريخ فتجد لك أعظم تعزية على فقرك وشقائك، أفلاطون وسقراط وديوجين عاشوا في الفاقة وماتوا في الفقر، ولكن أملي وطيد بالعناية الإلهية فهي تمهد سبيلك وتعد طريقك فلا تعثر بحجر رجلك. سأرافقك يا كولومب إذا توفقت إلى السفر، وأضحي ما تملكه يدي في سبيل هذه الخدمة الأدبية. إن الأغنياء يعشقون المال أما أنا فلا، هاك يا كولومب هذه الدراهم فهي تقضي حاجات سفرك.
كولومب :
شكرا لك أيها المولى على هذا الجود، وأراني الله مثلك قوما عديدين يعتبرون الآداب والأدباء ويجلون العلم والعلماء.
جوان :
وإليك الكتاب يا كولومب، عجل بالسفر إلى مدينة كردو حيث تقابل هذا السيد العلامة مرشد الملكة وتدفع الرسالة إليه، أما ولدك دياكو فأبقه هنا ما بيننا وثق أنه سيصادف من إخوتي الرهبان ومني حنان الأم وشفقة الأب.
كولومب (يتناول الرسالة ويلتفت إلى ولده قائلا) :
تعال يا مهجتي أطبع على صفحات وجهك قبلات الحنان والمحبة الوالدية، سأتركك هنا ولكن إلى أجل غير بعيد؛ لأن الأمل بالنجاح يلوح لي كخيط من نور في أحشاء ظلمة مدلهمة.
ضاقت ولما استحكمت حلقاتها
فرجت وكنت أظنها لا تفرج
اقترب مني يا حبيبي فأضمك إلى صدري ونقتبل كلانا بركة الأب جوان. (كولومب راكع وابنه واقف قربه يقبله، والأب جوان رافع يده يباركهما ومرتين ينظر إليهما متأثرا.) (وهكذا يطبق الستار.)
الفصل الأول
القسم الأول (يظهر الملعب بهيئة قصر الملك فردينان.)
المشهد الأول (الأسقف مرشد الملكة - جنود ذاهبة إلى الحرب)
مرشد الملكة :
ظلمتنا سيوفنا اليمنيه
واستبدت رماحنا الخطيه
ومشى الناس للحروب الوفا
بابتهاج لمجزر البشريه
فكأن المسيح قد قال حبوا ال
حرب واصلوا الأعداء نار المنيه
ليت عيني تعمى ولم أر فيها
كل يوم شقا نعاجي البريه
من زمان صاح الملاك على الأر
ض سلام وراحة أبديه
في أرشليم قد علا الأمس صوت
ذاك صوت المسيح في الناصريه
قال عيشوا براحة وسلام
واتركوا الحرب فهي شر بليه
لعن الله ساحة الحرب كم في
ها شقاء الملوك ثم الرعيه
رافع السماوات دون عماد
رأفة في جبلتكم التربيه
يطمع المالكون في شبر أرض
يشترى بدماء شعب زكيه
ويقولون بالعدالة نبغي
حقنا فاعدلوا ملوك البريه (يسير عدة خطوات متفكرا والحزن باد على وجهه وفي حركاته، ثم تعزف الموسيقى من الداخل بنشيد الدعاء الملكي ثلاث مرات ويهتف الجنود بآخر كل مرة: «فليحي الملك» ثم يصرخ الجنود: إلى الحرب إلى الأندلس.)
المرشد :
وإلى الشر إن صدقتم قولوا
ليس في الحرب غير شر رزيه
أمدى الدهر يشتكي السيف جوعا
أفما ترتوي القنا السمهريه؟
يا صليب المسيح يا علم السل
م ومحيي الرجاء في البشريه
أرم صلحا بين الملوك ليلقى
شعبك اليوم أطيب الأمنيه (يسمع ضجيج داخلي فيسكت المرشد ويقف مبهوتا إذ تدخل الجنود مارة في الملعب أزواجا بخطى عسكرية تتقدمهم الموسيقى وهم ينشدون هذا النشيد الموقع على لحن الجزائر المشهور.) (نشيد):
بشرى لنا، ولى العنا، نلنا المنى، في بطشنا، يوم الطعان
أسيافنا، لا تنثني، وقت التفاني، بحب الأوطان
صاح المدد، خصم ألد، حتى ارتعد، منا الجلد
ما أحلى الحروب، إذ تنفي الكروب، والأعدا تذوب
فاشحذوا البيض الرقاق، وأسرجوا الخيل العتاق، واهتفوا: «فليحي فردينان» :
وإذا لم يكن غير عشرين جنديا فيمكن إظهارهم عددا وافرا؛ إذ يدخلون ثانية وثالثة بدورانهم من وراء الستار الداخلي ودخولهم من حيث دخلوا أولا، ولكن بشرط أن يظلوا متصلين ببعضهم.
المرشد (بعد ذهاب كل الجنود وسكوت الموسيقى يقف ناظرا إلى الباب الذي خرجوا منه ثم يقول) :
يا جنود الإسبان للنصر سيري
واحمدي الله بكرة وعشيه
وإذا ما قضيت في الحرب قولي
قتلتنا المحبة الوطنيه
فظائع وآثام، بلايا ورزايا ترافق الإنسانية من المهد. ما زال جو السلام مكفهرا مظلما ونهار القناعة تغشيه غيوم المطامع. ملوك وسلاطين يقتتلون على حطام الدنيا اقتتال الآساد في الغابات، يجلسون على الأسرة والعروش ويجندون من رعيتهم جنودا جرارة يطرحونها في مهاوي الشقاء في البلاد البعيدة؛ فيعكرون صفاء العيال الصغيرة، ويقتلون راحة المساكين بأيديهم القاسية، أي أشعيا النبي، متى تأتي الساعة التي تنبأت عنها، الساعة التي تصب فيها السيوف وآلات الحرب سككا ومعاول لحراثة الأرض؟ أيها السيد الناصري، يا رسول السلام ومنقذ آدم من رق عبودية الشيطان، متى تنقذ الشعوب من هذه الشرور والويلات الدائمة؟ منذ أربعة عشر جيلا نودي على الأرض السلام وإلى الآن لم تزل الحروب مشمرة عن ساقها، لم يزل ذلك الغول الهائل يبتلع الشبيبة ويطحن عظامها بأنيابه الزرق، متى تنطفئ نار المطامع في الصدور فيقف كل ملك عند حده، ولا تكون للقوة هذه السيادة الحاضرة؟ آه إن ذلك لبعيد!
سيري بأمان أيتها الجنود الإسبانية إلى بلاد الأندلس إلى الموت تحت العلم الإسباني القاهر، فأنا أسأل الله أن يرقق قلب الملكين المتحاربين فيروا أن في السكون خير بقاء لعروشهما وتيجانهما، ماذا تفيدنا الأندلس إذا خسرنا من رجالنا عددا غفيرا؟ وماذا تفيد سلطان غرناطة مطامعه الغريبة وعناده الشديد إذا هلك جيشه وذهب من رعيته ألوف في ألوف؟ إن الأزمة شديدة فأنقذ يا رباه المملكة الإسبانية، تولى الملك فرديناند بنفسه قيادة الجيش فمن يضمن له العود بالسلامة؟ اكلأه يا رب بعين رحمتك، واسكب على قلب الملكة الملتهب ماء العزاء والصبر، أي إيزابلا ابنتي الروحية، إني أصلي لأجلك ولأجل مملكتك ليصونها الله من يد العدو ويجعل أسوارها من حديد فلا تزعزعها أيدي الطامعين وترتد الأبصار عنها كليلة. (يتمشى بسكون وتأمل.)
المشهد الثاني (المرشد وكولومب)
كولومب (يدخل) :
تحية وسلام أيها السيد الجليل (يركع ويقبل يده) .
المرشد (على حدة) :
رباه ماذا جرى؟! ماذا يريد هذا الغريب؟!
كولومب :
سيدي، أحمل إليك هذا الكتاب من الأب جوان راهب دير رابيدا صديقك الحميم.
المرشد :
الآن ارتاح خاطري، هات الكتاب أيها الرسول لنرى ماذا يريد صديقنا الفاضل (يدفع إليه الكتاب فيقرؤه وكولومب ينظر إليه وإذ ينتهي يقول): آه ما أعذب راحتك يا صديقي جوان! إنك بعيد عن ضوضاء العالم، لا تقلق خاطرك مشاغل البشر التي تلقي على منكبي أحمالا ثقيلة، أنت تحت سماء الدير بمعزل عن معترك السياسة ولذلك تحسب كل شيء سهل المنال، لا تعلم أن الظروف تجعل المرء عبدا لها، ليتك تحضر وتشاهد بأم عينك قلق هذه المملكة لما كنت ترسل إلينا مثل هذا الرجل الذي تحدثه نفسه باكتشاف عالم جديد.
كولومب :
مولاي، لا بل أنا متأكد من ذلك وكأنني أرى الآن أمامي من وراء البحار الهائلة إخوتنا في الإنسانية الذين وقف بيننا وبينهم كرور الأيام والأعوام.
المرشد :
حقق الله آمالك يا ولدي، ولكن الأجدر بنا أن ندع أولئك الناس في وحدتهم؛ فخير لنا ألا نعرفهم لئلا نعلمهم من ضروب الشقاء ما لم يكن عندهم.
كولومب :
أتجهل يا سيدي أن هذا العالم الجديد مما يزيد مملكة إسبانيا قوة وبطشا وغنى وافرا وجاها طويلا عريضا؟
المرشد :
دعنا يا بني من هذه التعللات والأماني فما يتفيأ ظلال العلم الإسباني يكفيه، دعنا من العالم الجديد لئلا يزيد شراهة الملوك ويدفعهم إلى الحرب فلا تكسب الإنسانية غير ويل وشقاء، ألا ترى كيف أن الحرب مشمرة عن ساقها في بلاد الأندلس حتى جبلت تراب تلك الأرض بدماء البشر، وكم ذهب من النفوس في تلك المجزرة الهائلة التي سد أنينها مسامع الفضاء وعلا صراخ الضحايا إلى السبع الطباق؟
كولومب :
سمعت بذلك وقد مس قلبي منظر الجنود الذاهبين إلى الحرب والابتسامة على أفواههم وهم ينادون: فليحي الوطن! فليعش الملك!
المرشد :
إذن لا تعلل نفسك بمقابلة الملكة فهي مشتغلة عن كل شيء بإعداد المهمات والذخائر اللازمة، هي تنظر إلى ما وراء الغيب نظرة الأمل ممزوجة بالخوف، تنظر إلى جيوش الأعداء الواثبة كالآساد في مرابضها وهي تود أن تقبض على ناصية المملكة الإسبانية لو قدرت، آه من الطمع!
كولومب :
حقق الله آمال هذه الملكة العظيمة، ولكن أملي وطيد بأنها تتنازل إلى مقابلتي رغما عما يشغلها في الأحوال الحاضرة؛ فقد سمعت عنها أنها تحب العلماء وتصبو إلى الأفكار الجديدة.
المرشد :
إنها لكذلك أيها الرجل وأنا أيضا أحب العلم الذي يقرب الناس من الدين، ولكن أفكارها في أشد الاضطراب ومن العبث يا ولدي أن نباحثها في هذا الشأن فلربما تغضب وعلى الفور ترفض.
كولومب :
إن أملي لكبير فيك أيها السيد النبيل بعدما عرفت من صفاتك العالية من صديقك جوان راهب دير رابيدا، ولهذا أراني أتجاسر وأسألك أن تستأذن لي بالدخول عليها.
المرشد :
إن هذا لا يكون في هذه الأزمة الحرجة، فلا تعلل نفسك بالمحال، ولا ريب عندي أنك إذا حظيت بمقابلتها لا تفلح، وذلك بدخولك الأمور من غير أبوابها فاصبر يا ابني فالأمور مرهونة بأوقاتها.
كولومب :
ساعدني أيها السيد الخطير والله من وراء أعمالك، مهد سبيلي ليحفظ لك التاريخ أعظم ذكر وأطيب ثناء، اعضدني ناشدتك الله.
المرشد :
سأساعدك إنما عليك بالصبر.
كولومب :
مولاي، خير البر عاجله.
المرشد :
قد أزعجتني أيها الرجل.
كولومب :
إزعاج الابن لأبيه.
المرشد :
أتطمع باكتشاف عالم جديد وقد سبقك قوم كثيرون علماء فلاسفة جغرافيون مهندسون ولم يحلموا بهذا الحلم الجديد، حقيقة إن آراء الإنسان ومطامعه لبعيدة غريبة، ولكننا إذا سلمنا بما تقول لا نرضى أن تقابل الملكة الآن لئلا تعود بالفشل، فعد من حيث أتيت وادع للملكة بالنصر، وأنا أسأل الله أن يوفقك إلى ما به الخير.
كولومب :
سيدي! طفت العالم ولم يسمع ندائي أحد، ناشدتك الله خذ بيدي.
المرشد :
لو تنسم أحد في كلامك الصدق لسمعه ووعاه، فاذهب عنا الآن وعد عن هذا الإلحاح، إنه لضرب من الجنون.
كولومب :
جنون، جنون، كلمة لم أزل أسمعها منذ ثماني عشرة سنة، آه ما أصعب ولادة الحقائق الجديدة! فإنها لا تبصر النور ما لم تتمخض بها الأجيال والدهور.
المرشد :
لا تقل الحقائق يا رجل، بل قل الأماني والأحلام.
كولومب :
حقائق يا سيدي حقائق.
المرشد :
قد ضاق صدري، حقائق ولا بأس، وثق أنها لو كانت الجواهر ملقاة على مسافة يومين أو ثلاثة وقيل للملكة أن تعيرها جانبا من اهتماماتها لما قبلت في الحالة الحاضرة؛ فإن الأهم أدعى للاهتمام منه من المهم، أفهمت ما أقول لك؟
كولومب (يهم بالخروج) :
زودني بركتك وادع لي بالتوفيق.
المرشد :
أسأل الله أن يوفقك يا بني.
المشهد الثالث (الكردينال - المرشد - ألونزو)
المرشد :
يزعم المسكين كولومب أنه سيخدم الإنسانية وسينقذ عالما جديدا من رق الهمجية، وقد ذهب هذا المذهب غيره من الجغرافيين والملاحين كما يزعم المتفلسفون بوجود عالم ثان في المريخ. آه ما أوسع أفكار هذه الجبلة الترابية منذ البدء وهم راكبون سفينتهم المحطمة يمخرون بها بحر الفلسفة الهائج وإلى الآن لم يهتدوا إلى ميناء الخلاص والسلام! أرض جديدة؟ هذا فكر غريب، وإني لأخجل أن أفاتح الناس بهذا الفكر، خرج كولومب ولا أدري إلى أين ذهب، لا ريب أنه سيفاتح بهذا الرأي غيري من البلاط الملوكي، بيد أنني سأجتهد في البحث في هذه المسألة المهمة التي لم تخطر لي ببال مع كل خبرتي الواسعة بفن الجغرافية وعلم الفلك، ولا يبعد أن تكون أعمال الله عجيبة. أسمع وقع أقدام، من القادم يا ترى؟ ذلك كولومب؟ لا هذا نيافة الكردينال وصديقنا ألونزو (يدخل الكردينال)
سلام أيها السيد الجليل (يركع ويقبل يده) .
الكردينال :
كيف حالك أيها الأخ المحترم؟
المرشد :
أطلب بركة سيدي ودعاءه.
الكردينال :
هل سمعت بآراء الرجل الإيطالي وقوله بوجود عالم جديد؟
المرشد :
وهل بلغت مسامع نيافتكم؟ وكيف رأيتها؟
الكردينال :
نعم، وقد رأيتها قريبة التصديق.
المرشد (على حدة) :
عجبا للكردينال من هذا الرأي! أنت تصدق يا سيدي؟ إن المسألة خطيرة ولا تظهر بغير البحث المدقق وسنرى رأي العلماء بها، ولكنني أستبعد أن تكون.
الكردينال :
ولماذا تعجب يا أخي؟ ألم تكن كل الأفكار الجديدة مثلها عرضة للهزء والسخرية، ومع ذلك فإننا اليوم نسخر بمن لم يصدقها؟
ألونزو :
نعم، وأين الغرابة في رأي كولومب، ألا يحتمل أن وراء هذا البحر الطويل العريض بلاد مثل هذه البلاد؟ ما زلنا نرى الجزائر التي تكتنفها البحار من كل جهة، فكيف نرفض رأي كولومب يا ترى؟
المرشد :
أنا لا أصدق ما تصدقون ولا أستطيع أن أسلم بذلك أبدا ما لم يؤيد بالبراهين، فاعذروني على قصر معرفتي.
الكردينال :
إننا نعذرك، ولكننا لا نسألك عما أخطأت به ضد كولومب.
المرشد :
وبماذا أخطأت إليه؟
الكردينال :
لم تدعه يقابل الملكة.
المرشد :
فإذن أخبركم كل ما جرى بيني وبينه؟
الكردينال :
نعم، وهو يتذمر كثيرا من سيادتك ولم يكن ينتظر أن يصادف لديك ما صادفه؛ لأن شهرتك العلمية جرأته على الطمع بحلمك.
المرشد :
وأنا - شفقة على آماله أن تتبدد كالهباء المنثور - لم أسمح له بمقابلتها في هذه الأزمة الحرجة؛ لأنني واثق بأنه لا يعود بغير الخيبة والفشل.
ألونزو :
سيدي! ها الملك والملكة مقبلان.
المشهد الرابع (الملك - الكردينال - المرشد - ألونزو - أنتوان - حاجبان)
الملك :
بماذا تتحدثان؟ فإنني أرى فرنندو بارتباك.
المرشد :
نعم يا سيدي فإن آراء الإيطالي الجديدة غريبة.
الملك :
ومن هو هذا الإيطالي؟
الكردينال :
هو كريستوف كولومب يا سيدي.
الملك :
وبأي آراء جديدة أتى؟
الكردينال :
يقول إن قسما من الأرض لم يزل مجهولا.
ألونزو :
وبأن تلك الأرض إذا اكتشفت ستزيد إسبانيا رفعة ومجدا وعلاء.
الملك :
ما رأيك يا أنتوان؟
أنتوان :
حديث خرافة يا أم عمر، اسمع يا مولاي واضحك.
الملك :
إن هذا الكلام المجرد لا يعول عليه، أما إذا أسنده بالبرهان نستطيع أن نحكم بصحته أو فساده.
أنتوان :
إن الرجل مجنون يا مولاي، إذا سمعت حديثه تظنه يكلمك بالهندية، وإذا تنازلت لمقابلته فسترى.
الكردينال :
وهو قد طلب مني مرارا أن أمهد له سبيل التشرف بالمثول أمام جلالتكم، أفيأمر بذلك مولاي؟
الملك :
نعم نأمر، لا بأس من مقابلته ففي الزوايا خبايا، اذهب أيها الحاجب وادع كولومب إلى مقابلة مولاك.
الحاجب :
سمعا وطاعة يا مولاي.
الملك :
سنرى هذا الرجل ونسمع ما عنده من الأفكار، ولا يبعد أن يكون صاحب مقدرة عقلية وقد تصدق مزاعمه، فما ينبت النرجس إلا من بصل.
المرشد :
ما الأخبار الجديدة؟
الملك :
أخبار لا تسرك، أخبار الحرب يا فرنندو.
المرشد (يهز رأسه) :
ما أشر الحرب!
المشهد الخامس (المذكورون وكولومب)
الحاجب :
مولاي، بالباب كريستوف كولومب، أتأمر بدخوله الآن؟
الملك :
قل له يدخل.
أنتوان :
ستسمع من مضحكاته ما يجعلك تأسف عليه.
كولومب :
سلام عليك أيها الملك العظيم.
الملك :
أأنت تزعم أن في الدنيا عالما مجهولا وتقدر على اكتشافه؟
كولومب :
نعم مولاي، وقد عرضت أفكاري على عدة ممالك، ولم يسمع أحد طلبي، وإذا أمرت جلالتك فبراهيني عديدة وحجتي قوية دامغة.
أنتوان (يهز رأسه) :
آه ما أشد عناد هذا الرجل!
الملك :
قد كنت أحب سماع براهينك ولكن الوقت لا يساعدني الآن فسأجتمع بك مرة أخرى في غرفتي الخاصة وندرس المسألة درسا مدققا (إلى المرشد) اجمع يا فرنندو علماء الفلك في مملكتي، وتباحثوا مع كولومب في هذه المسألة، فالحقيقة بنت البحث.
المرشد :
أمرك يا مولاي، وفي أي مكان ترخص باجتماعهم.
الملك :
في دير مار إسطفانوس للرهبان الدومينيكان، وأنت يا كولومب، سأمد لك يد المساعدة عن قريب كيف كان الأمر.
كولومب :
شكرا لك يا مولاي (ويذهب) .
المشهد السادس (الملك - الكردينال - ألونزو - ستنجل - حاجب)
الكردينال :
إن هذا الفكر يا سيدي الملك لمن أسمى الأفكار، آه ما أجل هذا الفخر الذي ستكتسبه مملكتنا إذا تم نجاح هذا المشروع الخطير، فسيزداد عدد المسيحيين إن شاء الله، إننا لا نجهل خطر هذا العمل، وها أنا متصور أمام عيني العقبات التي تقف في سبيله كالجبال الشماء، فخزينة المملكة مهزولة بداعي حرب الأندلس، ولا أدري ما يكون من عاقبة هذه الحرب الطاحنة التي أفقدتنا أموالنا ورجالنا!
ألونزو :
ستنتهي والنصر بجانب العلم الإسباني إن شاء الله.
ستنجل :
ولكن كيف كان الأمر لا يجب أن نهمل كريستوف كولومب، بل يجب أن يرى جلالة مولاي بآرائه وأفكاره التي أدهشت العلماء وأصحاب الأفكار.
الملك :
سنرى بعدما يبسط لنا سيادة المرشد خلاصة الجلسة التي يعقدونها الآن، ولا يبعد أن أعضد هذا الرجل إذا لم يتطلب مشروعه مالا وافرا ومعدات جزيلة.
الكردينال :
ولكنني أرى أنتوان سمير جلالتكم يعارض أشد معارضة هذا الفكر، ويعده من الخرافات والبدع الحديثة.
ألونزو :
ويصف مصدقيه بالحماقة والجهل، وقد كان المرشد يزعم زعمه، أما الآن فلا يثبت ولا ينفي.
الملك :
هكذا يصنع الحكيم في مثل هذه الأمور، وإذا رفض المرشد فذلك لأنه يخاف أن تهلك نفس واحدة من رعيته في سبيل هذا العمل، وهو مسيحي صادق ضنين بالنفوس، يحب خير المملكة وسعادة الشعب، وقد أخبر الملكة بأنه لم يسمح لكولومب بالدخول لعلمه بأنه لا يصادف التفاتا لديها نظرا لارتباك أفكارها.
ألونزو :
ما أصدق هذا السيد الجليل وأشد إخلاصه!
الكردينال :
إنه يفعل واجباته.
الملك :
ولهذا يستحق الشكر الجزيل؛ لإننا في زمان قل من يلتفت إلى واجباته.
حاجب (يلتفت إلى الخارج حيث يسمع وقع أقدام ويقول) :
مولاي، قد أقبل المرشد ومعه أنتوان وكولومب يطلبون المثول أمام جلالتكم.
الملك :
فليدخلوا (يخرج الحاجب)
يقال إن ملكي فرنسا وإنكلترة أعارا هذه المسألة الخطيرة التفاتهما. (يدخل المرشد وأنتوان وكولومب.)
المرشد :
مولاي، عرضت أفكار كولومب على لجنة العلماء والفلكيين وجمعته بهم، وبعد البحث الطويل، والجدال العنيف، كذبوا كلهم زعمه ولم يعتد بقوله غير رهبان الدير.
أنتوان :
إنه لضلال مبين، فلو كان يوجد عالم جديد لما بقي إلى الآن في زوايا الخفيان.
كولومب :
قد أوردت لهم يا مولاي البراهين الحسية، ولكنهم مع ذلك بقوا مصرين مكابرين، ولا حجة لهم غير قولهم هذا محال.
الملك (إلى أنتوان) :
أهذه كل براهينكم وحججكم؟
أنتوان :
مولاي، إن هذا الرجل بوم خراب، ونذير بالدمار؛ فإن ملك الترانسفال قد بحث بمسألته وأرسل بحارة فعادوا بعد أسابيع يهزءون به.
الملك :
وما رأيك أيها المرشد الفاضل فأنت فلكي ماهر علامة كبير؟ فقل لنا وكن مرشد الدين والدنيا.
المرشد :
إن الحكم في مسألة كهذه يستوجب إعنات الروية، ولكن أفكار كولومب ليست ببعيدة التصديق.
أنتوان :
إنها لكفر وبهتان وهي تناقض الكتاب المقدس.
المرشد :
إن البحث في أمور الدين لا يعنيك يا نديم الملك، ولكنكم جماعة علماء هذا الزمان تتخذون الدين ترسا تحتمون به لقضاء غاياتكم، إن العلم والدين أخوان وإن حاولتم التفريق بينهما، الدين لا يخالف هذا المشروع، أليس الله هو خالق كل شيء؟ أيمكن أن تكون أنت خالق ذلك العالم يا حضرة النديم الفلكي إذا اكتشفه كريستوف كولومب؟ فلا تتذرع بالدين لقضاء مآربك وتأييد رأيك، فالرأي لا يؤيد بغير الحجة والبرهان.
الملك (إلى المرشد) :
نطقت بالصواب يا سيادة المرشد.
حاجب :
مولاي، بالباب رسول .
الملك :
قل له يدخل، لا شك أنه آت من غرناطة، فماذا جرى؟
الرسول :
مولاي، إن موقفنا خطر في بلاد الأندلس والحامية في احتياج إلى الذخائر.
الملك (يهم بالخروج) :
إلى كولومب! سأساعدك بعد انقضاء الحرب فقر عينا.
كولومب :
أطال الله بقاءك أيها الملك الأجل.
الكردينال، ألونزو، ستنجل :
ندعو لجلالتكم بالنصر. (يرخى الستار)
القسم الثاني
المشهد السابع (يبقى المسرح كما كان.)
كولومب (وحده) :
وعود عرقوبية وآمال خائبة ما زلت في انتظارها في هذه المملكة، ما زلت يا فرديناند تعدني بمد يد المساعدة فتبرد نار اشتياقي إلى اكتشاف العالم الجديد، ولكن نار مطلك تحرق قلبي وتذيبه، يقولون إن وعد الحر دين، فكيف وعد الملوك العظام يا ترى؟ آه لقد صح ما قاله الطغرائي:
غاض الوفاء وفاض المطل وانفرجت
مسافة الخلف بين القول والعمل
أهكذا يظل كولومب كقصبة في مهب الريح، لقد اجتمع علماء الإسبان وقرروا أن آرائي لا يليق بالملوك أن يكترثوا لها، فأنا لا أقول الآن شيئا، بل أدع التاريخ يكذبهم إذا قدرت لي المساعدة، دعاني الملك والملكة إليهما وبعدما قضيت السنين في انتظار وعدهما قالا لي بأن الحالة الحاضرة لا تمكنهما من مساعدتي، وعند انتهاء الحرب سيكون ما أتمناه، ولكن هذا الجواب لا يفي بالغرض المقصود والضالة المنشودة، بل ليس غير جواب احتيالي للتخلص من لجاجتي، آه ما أتعس حظي! أنا أحبك يا مملكة إسبانيا ولهذا أتيت إليك ويعز علي أن أعود منك خائبا، اليوم في هذا الصباح تلقيت رسالة من ملك فرنسا وكتابا من ملك إنكلترة وتحريرا من ملك البرتوغال وهذا الأخير يطلب أن أعود إليه، ولكنني لا أعود كوني أحب إسبانيا. أحب إسبانيا وحبذا لو بادلتني الحب فلا أكون محبا غير محبوب.
يا مليكة إسبانيا ويا مليكها، ستندمان يوما ما على كولومب، ستذكران أن الرجل غير مجنون، بل هو يتكلم عن معرفة أكيدة ولا يهرف بما لا يعرف، قبحكم الله أيها العلماء الجهلاء، وجوزيتم عني خيرا يا نيافة الكردينال ويا رهبان الدير؛ فقد كنتم أكبر عضد لي، إنكم تمثلون الدين الذي يصافح العلم والعلماء الذين يضطهدونه حتى نسبوا إلي الكفر والضلال لو لم يكذبهم المرشد.
طفت البلاد وما ظفرت بحاجتي
فكأنها العنقاء والخل الوفي
رباه رفقا إنني لا أبتغي
مجدا وغير رضاك لست بمصطف
فلأنت مسئول بتوفيقي وما الت
توفيق إلا بالعلي الأشرف
قد جاهدت في سبيل آمالي، وسرت إليها على رغم أنف الأقدار، ولكن الدهر أبى إلا معاندتي فلا حول ولا، إنما:
على المرء أن يسعى إلى الخير جهده
وليس عليه أن تتم الرغائب
الآن سأغادر إسبانيا كما جئت إليها، وسألحد أفكاري في ضريح السكوت، منتظرا الساعة التي ينفخ لها ببوق الحياة فتنهض، وإلا فستموت كما مات غيرها من ذي قبل.
غدا سأجتمع بك أيها الأب جوان، وأقص عليك ما رأيت وسمعت، غدا سأجتمع بولدي الصغير دياكو الذي تركته في دير رابيدا، ثم آخذه وأغادر هذه البلاد منقادا بأزمة الأقدار، فالوداع يا مملكة إسبانيا الوداع! (يذهب وتدخل الملكة والمرشد والكردينال.)
المشهد الثامن (الملكة - الكردينال - المرشد - رسول - خادم)
الكردينال :
اليوم تلقيت رسالة من كولومب يعلمنا بها عزمه على مغادرة إسبانيا، وربما يكون غادرها الآن.
الملكة :
يعز على إيزابلا ملكة إسبانيا أن تكون يدها قاصرة عن مساعدة كولومب، آه ما أشأم الحرب! فهي ويل على الظافر والمنكسر، فلولاها لاستطعت أن أمد كولومب بكل ما يشاء من المال، ولكن ما العمل ومطاليب الحرب أكثر من مطاليب النساء؟ في كل يوم وساعة تطلب منا الذخائر، وإذ كنا نعجز عن القيام بالفروض فكيف نقوم بالنوافل؟ فليذهب كولومب إلى حيث شاء ومتى قدرت على مساعدته ساعدته، ولا أظنه يبخل بالعود إلينا.
الكردينال :
تاعس هذا الرجل! ورغما عن مناهضة علمائنا لآرائه، فأنا أعتقد بصحتها.
المرشد :
قد يكون ذلك يا نيافة الكردينال، ولكن العلماء قاطبة سفهوا هذه الآراء وهزءوا بها ولم يصدقها غير بعض الرهبان، وقد كانت جلسة العلماء الثانية ضربة قاضية على مزاعم كولومب فقوضت أركانها وهدمت بنيانها.
الملكة :
تأكد يا أبي أننا إذا لم نساعد كولومب فما ذاك لأننا استهزأنا بآرائه، بل ذاك صادر عن عجزنا، هكذا يجب أن تعلم.
المرشد :
كيف كان الأمر فحسنا فعلت.
الكردينال :
أراك أيها الأخ مقاوما لكولومب بكل قواك.
المرشد :
أنا لا أقاومه ولكن أرى مسألته ذات شأن.
الخادم :
سيدتي، بالباب رسول يحمل إلى جلالتك هذا الكتاب (يدفعه إليها) .
الملكة (تقرأ الكتاب ثم تقول) :
قل للرسول أن يدخل (ثم تطرق مفكرة) (يذهب الخادم ويعود بالرسول) (إلى الكردينال والمرشد)
هذا رسول بعث به إلينا الأب جوان راهب دير رابيدا وبه يخبرنا عن عود كولومب إلى الدير، وعزمه على الذهاب إلى بلاد الإنكليز، فما رأيكما الآن؟
الكردينال :
إن سيدتي صاحبة الرأي الصائب.
الملكة :
إذن، عد يا رسول إلى الدير، وقل للأب جوان يحضر عاجلا؛ لنرى ما سيكون من أمر كولومب، إن هذه المسألة أشغلت بالي.
المرشد :
فلتكن مشيئتك يا رب، لا تسمح بضر هذه المملكة المحبوبة وهلاك الشعب، أرشدنا إلى الخير يا الله. (يدخل ألونزو وستنجل.)
المشهد التاسع (ألونزو - ستنجل - الكردينال - المرشد - الملكة - جوان)
ألونزو :
سيدتي، تناولت رسالة من صديقي القائد العام في الأندلس.
الملكة :
بربك ما بها؟
ألونزو :
أهوال يا سيدتي تشيب لها رءوس الأطفال، العرب تهاجم الإسبان كالليوث الكاسرة، يقتحمون الموت كأنهم يهاجمون جبانا رعديدا.
الكردينال :
آه ما أشد بأس العرب! ما أشجع هذه السلالة النبيلة!
المرشد :
بل ما أجن البشر! وويل لمن تهرق بسببه نقطة دم بشرية.
ألونزو :
اليوم يا سيدتي يحاصرون غرناطة، والعرب يدافعون عنها دفاع الليث عن أشباله.
ستنجل :
وقد بلغني أن قد ذهب من رجالنا عدد غفير، وأن شوكة بأس العرب لا تزال قوية.
الملكة :
سنشتري غرناطة بثمن غال، ما أشد عذابي يا الله!
ستنجل :
لا تجزعي يا سيدتي، فالله من وراء أعمالك.
الكردينال :
يظهر أن النصر بجانب العلم الإسباني.
الملكة :
حقق الله الآمال.
جوان (يدخل) :
سيدتي، حسب أمرك السامي أتيت (يركع) .
الملكة :
انهض أيها الأب، انهض.
جوان :
أتيت يا سيدتي لأعرض على أعتابك مسألة كولومب التي أشغلت نوادي ملوك هذا العصر، فما رأي جلالتك؟
الملكة :
إن شواغل السياسة تلهيني عن المسألة، ولكن ما العمل وجوان يريد أن نهتم بها؟
جوان :
نعم أريد ذلك؛ لأن به أجل فخر للمملكة التي أحبها وأتمنى أن تكون سيدة البر والبحر.
الملكة :
وماذا تعتقد برأي كولومب؟
جوان :
بصحته يا سيدتي، وأكفل نجاح المشروع.
المرشد :
الله وحده يعلم وهو الكفيل بالنجاح، فلنتكل عليه هكذا يجب أن تقول.
الملكة :
دعه يتمم.
جوان :
فبراهين كولومب ساطعة كنور الشمس لا ينكرها غير كليل البصر، وقد بلغني أن سيدتي قد ارتاحت إليها أعظم ارتياح.
الملكة :
نعم، إن أفكاره ألفتت أنظاري.
جوان :
فما المانع إذن من رجوعه إلى نادي جلالتك والاتفاق معه؟
الملكة :
لا مانع غير مشاغل الحرب الحاضرة.
جوان :
إنها أزمة ستنقضي بعد حين، فإذا أمرت عقد الاتفاق معه الآن، وبعد انتهاء الحرب يبدأ بالعمل.
الملكة :
إذن عد من حيث أتيت وقل له يرجع.
جوان :
أستودعك الله يا سيدتي (ويخرج) .
الملكة :
رافقتك السلامة.
المشهد العاشر (الملك - الملكة - الكردينال - أنتوان - ألونزو - ستنجل - كولومب)
الملكة :
ما أصعب سياسة الممالك وما أضيق طريقها! فإنها مكسوة بقتاد المصاعب، فإنني لا أبيت ليلة مرتاحة الفكر، أريد أن أرتاح ولا أقدر؛ لأن إسبانيا تطلب كل يوم مجدا جديدا.
المرشد :
ما أشر الطمع فقد أضر وما نفع!
الكردينال :
نعم، إن النفوس العالية لا تشبع من المجد (يسمع وقع أقدام)
هو ذا جلالة الملك مقبل، إنني أرى جبينه مشرقا فماذا جرى؟ (يدخل الملك.)
الملكة :
سيدي، ما أخبار الحرب؟
الملك :
لا شيء جديد غير جهاد وعذاب في سبيل غرناطة.
الكردينال :
ستجتني ثمرة لذيذة من عذابها إن شاء الله.
الملكة :
دعونا من حديث الحرب فهو مؤثر محزن. (إلى الملك)
قد كلفت الأب جوان أن يأمر كولومب بالرجوع.
الملك :
وأي حاجة لنا بذلك الرجل؟
الملكة :
اكتشاف العالم الجديد.
الملك (يهز رأسه) :
وهل مضى زمن على ذهابه؟
الملكة :
أظن كولومب يصل عن قريب.
الملك :
قد كنت أفضل تأجيل هذا الأمر، ولكن ما كتب قد كتب، ولا يليق بالملوك أن تعود إلا عن الغلط.
ألونزو :
لا محل للندم يا سيدي.
ستنجل :
نعم، وملوك عديدون يحبون أن يعضدوا كولومب.
الملك :
وأنا أحب أن أعضده، ولكن بغير الأزمة الحرجة.
أنتوان :
نطقت بالصواب يا سيدي، ولا بأس من تأجيله.
الملك :
لا أيها السمير، فنحن لسنا كصبيان الأزمة، قد دعوناه فيجب أن نقوم بما دعوناه لأجله، فكلام الملوك ملوك الكلام.
المشهد الحادي عشر (المذكورون وكولومب)
خادم :
سيدي، قد عاد الإيطالي، أتأمر بدخوله؟
الملك :
نعم. (إلى الملكة) أنت قد دعوته فحدثيه بما تأمرين. (كولومب يدخل ويحيي.)
الملكة :
قد عزمنا يا كولومب على مساعدتك، وفي هذه الساعة سنرى في شروط الاتفاق ما بيننا، خذ يا ستنجل ورقة وقلما، واكتب مطاليب كولومب ومطاليبنا. (ستنجل يتناول ورقة وقلما.)
كولومب (بعد الافتكار) :
أولا: ألقب بالقائد الأكبر على البحور التي أكتشفها، وبنائب الملك على البلدان التي أفتتحها، وأعطى كل حقوق هذين اللقبين وامتيازاتهما. ثانيا: لي عشر أرباح تجارة تلك البلدان. ثالثا: تقدمون لي اللوازم من سفن ورجال وذخائر وغير هذا لا أطلب.
أنتوان :
غير هذا لا تطلب؟! هذا قليل قليل يا حضرة القائد، ويا نائب الملك. آه ما أعظم مطامعك! وإذا خسرت المملكة فأنت ماذا تدفع؟
المرشد :
ماذا تريد أن يدفع وهو لا يملك شروى نقير؟
أنتوان :
إذن فليدعنا وشأننا، فنحن في غنى عن مشترى الأسماك في الأبحار.
الملك :
إذا كانت هذه مطاليبك فلا أمل لك عندنا في المساعدة، فدعنا واقصد سوانا.
الملكة (تتأثر) :
آه ما أتعس حظ هذا الرجل!
الكردينال :
وما أنكد طالعه! (كولومب يخرج والكدر ظاهر على جبينه.)
الملك :
هذا الرجل مطماع جسور، فاحذروا أن يحدثني أحد في شأنه فيما بعد، وأسدلوا على مطاليبه الستار. (يخرج الملك ويتبعه أنتوان.)
المشهد الثاني عشر (الملكة - ألونزو - ستنجل - الكردينال)
ستنجل :
إنني أترامى على أقدامك وأسألك ألا تحرمي مملكة إسبانيا من شرف أبدي، إن كريستوف كولومب رجل نابغة نادر الذكاء وأفكاره سامية، ولا عبرة بفقره؛ فقد يوجد الدر في الأقذار، إن مشروعه يعود على المملكة بالخير فساعديه ناشدتك الله، عجبا! كيف تترددين أمام مسألة ربحها وافر، والرجل لا يطلب غير سفينتين وثلاثين ألف ليرة؟ وما أعظم الأسف الذي يشملنا إذا اكتشف كولومب تلك البلدان بمساعدة مملكة غير مملكتنا!
ألونزو :
نعم يا سيدتي، قد طلبه بعض الملوك وأنا اطلعت على كتاباتهم إلى هذا العلامة الكبير.
ستنجل :
فساعديه يا سيدتي، فبمساعدته مرضاة الحق سبحانه وتعالى.
الملكة :
إنني أخشى أن لا يرضى بذلك، وما رأيك يا مرشدي الجليل؟
المرشد :
يفعل الله ما يشاء ويصعب علي الحكم على المستقبل المجهول.
ستنجل :
إذن لا أمل بذلك يا جلالة الملكة.
الملكة :
بلى، أنا أقوم بذلك على اسم مملكة كستيليا، وها إني عزمت منذ الآن على رهن مجوهرات تاجي الملوكي، فإذا نجحت كان سروري عظيما، وإن خسرت فلا أسف على تلك الخسارة، وفي كل الأحوال سيحفظ لي التاريخ ذكرا جميلا وذلك حسبي وكفى (تأخذ ورقة وتكتب) .
ألونزو :
ما أكرم هذه الملكة! فإنها رجل في صورة امرأة، وملاك في صورة إنسان.
ستنجل :
إنها العذراء الثانية التي ستنقذ عالما جديدا بأسره من رق عبودية الهمجية.
الملكة :
خذ أيها الجندي هذه الرسالة وابحث عن كولومب حتى تجده، ثم ادفعها إليه. (الجندي يأخذ الرسالة.)
ستنجل :
أنا ذاهب يا سيدتي لأجهز المعدات.
المرشد :
وأنا أصلي إلى الله ليكلل سعيك بالنجاح.
ألونزو :
إننا سنضحي كل غال ورخيص في سبيل هذه الخدمة الوطنية. (يخرجون جميعهم.)
المشهد الثالث عشر
الملكة (وحدها) :
تاجي ومجدي والمقام السامي
سيظل رهنا كي أنال مرامي
إني وعدت بأن أمد يدي إلى
كولومب هل أسترجعن كلامي
إني عشقت العلم والعلماء من
صغري فقدس يا إله غرامي
يا رب لا أبغي بأعمالي سوى
تمجيد إسمك بارئ الآنام
رباه قرب ساعة فيها أرى الد
دنيا الجديدة قبل وقع حمامي
واجعل فؤاد الملك منعطفا على
كولومب كي أحيا بلا آلام
ستردد الأعصار: إيزابل قد
ضحت شعار المجد والإكرام
جعلت ضحيتها شعار الملك كي
تقضي لبانة عالم الأعلام
نعم هكذا سيقال، ولكنني لا أبالي بأحكام المؤرخين إن نسبوا إلي الطيش، وجعلوا في تاريخي نقطة سوداء إذا لم ينجح مشروع كولومب. ماذا يقول الملك يا ترى إذا درى بعزمي على رهن تاج ملكي؟ والله لا أدري، إنه سيغضب ولكنني أجيء إليه بذل وخضوع فيرق فؤاده كما رق فؤاد أحشورش على مليكته أستير، تلك قد سعت في خلاص شعبها وأنا أسعى الآن في خلاص شعب لا أعرفه ولا يعرفني، وبهذا أتمم وصية سيدي يسوع المسيح. رباه خذ بيدي فأنت وحدك خير مسئول. (تتكئ على كرسي بسكوت.)
المشهد الرابع عشر (الملك - ألونزو - ستنجل - الكردينال - المرشد - كولومب)
ألونزو :
سيدتي، قد اتصل بمسامع مولاي الملك عزمك الوطيد على مساعدة كولومب، وعن قريب سيأتي ليراك.
الملكة :
رباه! احمله على مساعدتي وخلصني من غيظه. وهل ظهرت على وجهه علائم استنكار فعلي؟
ستنجل :
لا يخلو الأمر من ذلك، ولكن المرأة الفاضلة تستطيع أن تتصرف بقلب زوجها وأمياله كما تشاء.
ألونزو :
ولو كان ملكا فسلطان الحب الصحيح فوق كل سلطان.
الملكة :
حقق الله أقوالكم (يدخل الملك) (تركع)
عفوا يا سيدي، إذا كنت فعلت أمرا خطيرا قبل استمداد رأيك. قد كتبت إلى كولومب وعن قريب يصل إلى هذا المكان.
الملك :
هذه هي المرة الثانية التي تأتين بها مثل هذا الفعل (يهز رأسه) .
الملكة :
عفوك سيدي، وإذا شئت تفضل بوضع الشروط.
الملك :
الشروط حبر على ورق، ولكن أين المال؟
الملكة :
أنا أتعهد بتقديمه وقد عزمت على رهن مجوهرات تاجي.
الملك :
رهن تاج الملك؟ أمر غريب! هذا لا يكون.
ألونزو :
ونحن لا نرضى بذلك أيضا.
ستنجل :
أنا أجمع المال، بل قد جمعت أكثر من نصفه.
الملكة :
رباه ما خاب من يدعوك.
الملك :
وكيف جمعته أيها الوزير؟
ستنجل :
أقمت قرضا على الرعايا، وضربت الضرائب على الشعب.
الملك :
آه ما أقسى الضرائب! إنها مقوضة أركان العروش وزارعة بذور بغض الملك في قلوب الشعب، أنا لا أرضى بالضرائب أيها الوزير، الشعب فقير فلا تحرجوه، الشعب نائم فلا توقظوه، وليكن لنا قدوة بمرقس أوراليس الذي باع أثاث قصره ولم يطلب بارة واحدة من رعيته، أرجع المال إلى الشعب، فقد كفاه ما قاساه من الضيق في هذه الحرب الأخيرة.
ستنجل :
لقد دفعوا يا مولاي عن طيبة خاطر.
الملك :
آه ما أكرم شعب إسبانيا! لا بأس، ولكن لا تجمع شيئا فيما بعد، خذ أيها المرشد، واكتب الشروط لتدفع إلى كولومب فور دخوله، فإذا قبل بها كان به، وإلا أخرجوه من أمامي، واطردوه من أرض إسبانيا فقد أزعجنا هذا الرجل.
صك الاتفاق (1)
لكولومب وسليلته لقب الأميرال الأكبر في البحور والبلدان والأراضي التي يكتشفها مع حقوق هذا اللقب وإنعاماته. (2)
يلقب كولومب بنائب ملك على الأراضي والبلدان التي يكتشفها، وأمر تولي المناصب في الجزائر والأقاليم منوط بالملك، إنما لكولومب حق الإنهاء بثلاثة يختار الملك واحدا منهم. (3)
لكولومب عشر الأرباح الشرعية التي تنتج عن تجارة البلدان التي يكتشفها. (4)
لكولومب أو وكيله حق فصل الخلاف الذي يقع في إسبانيا بالأمور التجارية في البلدان المار ذكرها. (5)
يقدم لكولومب ثمن المصارفات المقتضية عن المستقبل والحاضر للسفر إلى البلدان المراد كشفها، وله الحق بثمن الأرباح الناتجة من تلك البلدان.
في 17 نيسان سنة 1492 (كولومب يدخل مسلما.)
الملك :
اعرض على كولومب الشروط أيها المرشد، فإننا نريد أن نضع حدا لهذه المسألة.
المرشد :
هذه هي الشروط يا كولومب، فاقرأها واشكر إنعام الملك.
كولومب (يقرؤها) :
قد قبلت بها (يضحك من شدة الفرح) .
الملك :
إذن اخرجوا أيها الوزراء، وأعدوا السفن والبحارة الذين سيرافقون كولومب، وعاملوا الشعب بالرفق واللين، وأنت أيها المرشد اكتب لكولومب أمرا به نقضي على سائر بلدان المملكة بتقديم كل ما يلزم له.
كولومب :
الآن قد أدركت ضالتي المنشودة، الآن نفسي فرحت، شكرا لك أيها الملك، وأنت أيتها الملكة، لا أشكرك بل أدع شكرك للتاريخ، وإذا سكت تنطق الحجارة. (يخرج ومعه المرشد والوزيران.)
المشهد الخامس عشر (الملك - الملكة - الكردينال - ألونزو - مرتين - المرشد - الشعب - أنتوان)
الكردينال :
ما رأيك مولاي؟ وهل تظن أحدا من الشعب يخاطر بنفسه ويرافق كولومب؟ فأنا لا أظن ذلك.
الملك :
وأنا لا أظن، ولكن القوة لازمة في بعض الأحيان.
الملكة :
وكيف ذلك؟
الملك :
إذا لم يقنع الشعب يجب أن نخضعه بالقوة.
الكردينال :
مولاي، لا تعامل شعبك بالقسوة، فما لاقاه من شقاء الحرب يكفيه.
الملكة :
لا أمل بانقياد الشعب عن طيبة خاطر .
الملك :
رباه، الأمر لشديد، ألهمني أصنع مشيئتك (يسمع ضجيج) .
ألونزو (يدخل) :
قد هاج الشعب وثارت الخواطر وكاد الناس يضربوننا بالعصي، فماذا تأمر أن نجري؟ (الملك يطرق برأسه.)
الملكة :
ما هذا الضجيج؟
ألونزو :
جمهور من الشعب يحدثون مظاهرة.
الملك :
احذروا أن يشتمهم أحد فأنا أنا أخاطبهم.
أنتوان :
إن كولومب لا يغادر إسبانيا قبل أن يهدم الملكية، قبحه الله من غراب سوء وبوم دمار. (ضجيج عظيم وهتاف.)
الشعب :
لا نسافر، لا نسافر، ما هذا الجور؟ ما هذا الظلم؟ (يدخلون على الملك) .
ألونزو :
اسمعوا أيها الشعب، فالملك يريد أن يخاطبكم.
الشعب :
لا نريد، لا نرضى.
الملك :
اسمعوا، أنا لا أريد غير شرف إسبانيا ومجدها؛ ولهذا أدعوكم إلى مناصرة كولومب.
زعيم :
ما هذا الشرف؟ ما هذا الوهم؟ إذا كنت تريد أن تميتنا فمر بقتلنا بين أهلنا وأصحابنا، ولا تطرحنا في أعماق اللجج، فنحن لا نغادر وطننا، بل نفضل الموت فيه.
الشعب :
نعم، نعم.
الملكة :
أنصتوا يا أبنائي، أنا ملكتكم إيزابلا أخاطبكم.
الشعب :
أنت أمنا فأشفقي علينا.
الملك :
إذا لم تخضعوا أمرت الجنود بإجباركم.
الشعب :
حبذا الموت في الوطن.
مرتين :
إخواني، اسمعوا، تعلمون أنني رجل منكم، وحياتي عزيزة لدي، فثروتي واسعة، وشهرتي عظيمة، ولا أطمع بشيء من هذه الدنيا، أنا ملاح مشهور، وأريد أن أرافق كولومب، فما قولكم؟ (إلى الملك)
مولاي، أنا أول المتطوعين في خدمة كولومب، وأقدم مالي إذا لزم الأمر. (يسكت الجمهور.)
الكردينال :
هو ذا مرتين ألونزو يتقدم إلى مرافقة كولومب، ولو كان في الأمر خطر لما تقدم، فما رأيكم؟ ألا تسلمون بالذهاب؟
البحارة :
سلمنا، أطعنا.
الملك :
انفخوا الأبواق، وأنشدوا نشيد الحرب، وسيروا إلى افتتاح العالم الجديد. (تنفخ الأبواق.) (نشيد):
يا حبذا فتح قريب
ألبابنا فيه تطيب
يا قوم سيروا وأقدموا
وإلى البحار تقدموا
فلكم وراها مغنم
وهنالك الأمر العجيب
سيروا ولا تخشوا الخطر
حتى تفوزوا بالوطن
لا ترهبوا بطش القدر
إن كان ترسكم الصليب
وعند الانتهاء يركع جميع المسافرين، ويباركهم الكردينال. (يرخى الستار)
الفصل الثاني
القسم الأول (يمثل الملعب سفينة السانتا ماريا في البحر.)
المشهد الأول
كولومب :
أنا ملقى بأفواه المخاطر
وما لي في البلاء سواك ناصر
عليك بنيت آمالي فجد لي
بصبر لم يخب في الناس صابر
إلهي لا أرى إلا شقاء
وغير وعيد قومي لست ناظر
كأن يمين هذا الدهر خطت
بلائي آه إن الدهر غادر
بقيت وراء آمالي مجدا
بعزم لم يروه قط خائر
وقد أدركتها من بعد ذل
عظيم فطرت منه المرائر
وها إني على الإبحار أسعى
إلى قصدي وما لي من مسامر
رجالي كلهم في اليأس غرقى
وإن اليأس للأبطال قاهر
وقد هاجوا علي الآن حتى
ظننت بأنني باغ مكابر
وما فعل الضعيف إزاء قوم
على إعدامه عقدوا الخناصر
فيا رباه كن في البحر عوني
كما قد كنت لي في البر ناصر (يسكت) (نواح في الداخل.)
إن هذا النواح قطع قلبي
قطع الله قلب هذا النواح
إن قلبي كقلبهم جرحوه
فاشف ربي جراحهم وجراحي
مر هو فراق الأوطان! فابكوا على أوطانكم أيها الرجال، أنا لا أبكي مثلكم؛ لأنني لا أعرف وطني، وطني العالم وإخوتي الناس، وطني العالم الجديد إذا توفقت إلى اكتشافه، يا رب شدد عزيمة هؤلاء الرجال، واخمد نار ثورتهم علي، ما بالهم يضجون؟ ما بالهم يعولون؟ قد اقتربوا مني فلأبعد عنهم. (يدخلون.)
المشهد الثاني (ألفونس - مرتين - فيراندو - فينشنته - لويس - بينزون)
ألفونس :
هنا بعيدا عن الأوطان سأموت، هنا في هذه اللجج الهائجة سيكون ضريحي، سأذهب ضحية مطامع الملك والملكة، وذاك المجنون كولومب. آه أين أنت أيتها الأوطان؟ أيتها الأرض التي أبصرت فوقك النور، واكتسبت من هوائك ومائك القوة والنشاط، أين أنت يا أمي الحنون؟ هنيئا لك يا أبي؛ فلقد مت قبل ما رأيت ابنك يشقى ويعذب في قلب الأوقيانوس الهائج، ما أسعد حظك أيتها الأسماك! فقد ساقنا إليك الجنون قوتا وغذاء لم تذوقيهما قبل الآن، يا لها من مصيبة عمياء! وأشواقي إليك يا سماء إسبانيا النقية ويا أرضها الجميلة، وا أسفاه! أين نحن؟ بين سماء وماء وهيهات أن نرى الأرض فيما بعد!
مرتين :
الأرض حلم غريب لا أمل بمرآها أيها الصديق، فمن فوق البحار أمد يدي لأعانقكم يا أولادي، آه ما أمر الفراق! ما أمر تلك الساعة التي ذرفتم بها دمعة الوداع، وطوقتم عنق والدكم بأذرعكم اللطيفة، أي أبناء وطني الإسباني نوحوا على ألونزو واندبوه فهيهات أن تروا ألونزو فيما بعد!
فارقتكم إذ ظننت الله يجمعنا
واليوم أصبحت لا أرجو تدانينا
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا
يوم الوداع ولا جفت مآقينا
يا أيها البحر رفقا إن صبيتنا
بالذل والويل ترثينا وتبكينا
يا بحر كن مشفقا وارحم صباءهم
أأنت كالملك فردينان تشقينا؟
بالله أيتها الأمواج مرحمة
تأملي وانظري فعل الجفا فينا
ما عدت أرجو لقاء فيك يا وطني
في موقف الحشر قد أضحى تلاقينا (ويبكي.)
فيراندو :
ما أمر الموت في غير الوطن! ولكن ما العمل وسهم القضاء قطع أكبادنا ومزق قلوبنا؟ ساق لنا القدر كولومب المجنون حتى استاقنا إلى هذا البحر كما تساق النعاج البريئة إلى المجزر، ولكن سيلاقي عقابه إن شاء الله، فاذرفي الدمع يا عيوني وزيدي مياه البحر أمواها، ويا حر أنفاسي احرقي أخشاب هذا المركب، وأريحينا من هذا العذاب وهذا الشقاء.
فارقت أوطاني وقلبي ذائب
أيرى الهنا من فارق الأوطانا؟!
فارقت إخواني وكان أحب لي
موتي ولست أفارق الإخوانا
كانوا المياه وإنني متعطش
أيعيش مرء ظامئا عطشانا؟!
نادى بفرقتنا غراب أسود
يبليه ربي مثلما أبلانا
فينشنته :
تغربت عن أهلي ويا طول غربتي
ويا أسفي إني أموت غريبا!
ويصبح في أعماق ذا البحر مسكني
فطوبى لمن يقضي هنالك طوبى
تكفنه أيدي المحبين بالبكا
ويقضون أياما عليه نحيبا
ألا يا ترى الأوطان جادتك مزنة
فقد كنت للقلب الجريح طبيبا
الآن يا إخوان يجب أن نقيم مأتما ونحن أحياء؛ لأن بعد موتنا ليس من يصنعه لنا، تعال يا لويس، وأسمعنا صوتك الشجي ودعه يمتزج بين أنين الأمواج أسفا علينا.
لويس :
في قعر ذا البحر يمسي اليوم مضجعنا
فيا لها ضجعة في موطن العدم!
رحنا ضحية ملك لا فؤاد له
وجاهل ككولومب الفاقد الشمم
إسبانيا إلبسي من بعد ميتتنا
ثوب الحداد وسحي الدمع كالعنم
قد أرسلتنا «إزابلا» لنكشف ما
قد بات في عالم النسيان والوهم
وسربلت برداء الويل صبيتنا
فويلها من دعا المظلوم في الظلم
يا ليتها شعرت فيما نكابده
فذا عقاب لها من أعظم الألم
أبناءنا رددوا دهرا ولا تخفوا
آباؤنا جعلوا لحما على وضم
فقطعتهم أيادي الظالمين كما
شاءت وشاء الهوى يا رب فاحتكم
أصحابنا ودعوا وابكوا حياتكم
فلا نجاة لكم من منبع الديم
نوحوا اندبوا أهلكم وابكوا مواطنكم
فلا رجوع إليها آه! وا ندمي!
المشهد الثالث (بينزون - لويس - مرتين - فيراندو - ألفونس - فينشنته - كولومب)
بينزون :
بلى سنعود إلى الأوطان ونعانق فيها الأهل والخلان، أتريدون الرجوع أيها الشجعان؟
الجميع :
الرجوع، الرجوع.
بينزون :
إذن يجب أن تصنعوا كما أقول لكم، فلنقدم كولومب المجنون لقمة للأسماك، فلنطرحه في أعماق هذه اللجج ونريح العالم من أفكاره وجنونه، فهو يقودنا إلى الموت من حيث لا يدري، فليذهب فدى عنا كما ذهب يونان، ولكن هيهات أن يلفظه الموت الذي يبتلعه.
لويس :
لقد أصبت فهذا هو باب النجاة والخلاص، ولكن إذا سئلنا عن الرجل ماذا نجيب؟
بينزون :
الأمر بسيط جدا، كان يرصد النجوم ليلا فهوى في البحر ولم ندر بسقوطه، هكذا نجيب وهذا هو فصل الخطاب، ما رأيك يا ألونزو؟
ألونزو :
الرجوع واجب رضي كولومب أم لم يرض.
فيراندو :
إن قتله عين الصواب، فإذا رجع بنا يكدر حياتنا ويغضب الملك علينا.
الفونس :
إذن استعدوا فلا بد أن يكون طرق مسامعه نواحنا، وعن قريب يأتي ليموه علينا ويرينا العالم الجديد أمامنا حسب عادته، هذه هي المرة الثالثة التي نثور بها عليه ويخمد بدهائه ثورتنا، أما الآن فينبغي أن تلتهمه نار هذه الثورة ولا ينجيه منها أحد.
فينشنته :
اطرحوه اطرحوه بعد أن تمزقوه إربا إربا، ولا تخشوا أن يطالبكم به أحد فيما بعد، فهو مجنون كان ولم يزل أضحوكة وموضوع الهزء والسخرية لا يعرف له مضرب عسلة ولا منبت أسلة، غرقوه وأنا الكفيل بنجاتكم الآن وكل أوان وإلى دهر الداهرين. (كولومب وبرتلماوس يدخلان.)
المشهد الرابع (المذكورون - كولومب - برتلماوس)
كولومب :
أتيت لأبشركم بالفوز القريب.
فيراندو :
قد صمت آذاننا عن سماع هذه الأكاذيب، وهاجت بنا الأشواق إلى الأوطان، وقد قطعنا مسافة 2700 ميل في البحر، فأي أمل لنا بعد؟ فعد بنا إليها وإلا ...
ألفونس :
تركناك مدفونا في هذه البحار وعدنا إلى أهلنا.
كولومب :
سمعت بأذني ما دار بينكم أيها الرفاق، ولكن لا أظن أن عقولكم تسلم بما تطلبه قلوبكم، لقد قضينا زمنا طويلا في هذا السبيل، أعلى يوم أو يومين نترك الثمرة التي أوشكنا أن نجتنيها؟ أجيبوني بربكم.
بينزون :
نعم نتركها إذ لا أمل باجتنائها.
كولومب :
الأمل قريب أيها الرفاق، فاصبروا قليلا.
فينشنته :
منذ زمان وأنت تعدنا حتى أصبحنا إذا رأينا الأرض الجديدة بأعيننا لا نصدق، آه ما أشد احتيالك يا رجل! عد بنا الآن، وإلا كملت بك مشيئتنا.
كولومب :
ماذا تفعلون وما هي مشيئتكم؟
ألفونس :
نطرحك في هذا البحر، ونعود من حيث أتينا.
برتلماوس :
يا للجسارة! يا للوقاحة!
كولومب :
أيها الرفاق، لا بأس أن تنتهي سلسلة حياتي كما تريدون، اقطعوها أيها البرابرة، فكل حلقاتها ويل وشقاء، ولكن كولومب لم يحد عن عزمه بعد وهيهات أن يعود! أقنعت بعد صبر وجهاد مملكة إسبانيا وحملتها على مساعدتي، فسلمني ملكها وملكتها زمام أموركم وأنا مستعد لمقاومتكم ولو على فراش الموت، لا أعود بكم قبل أن أبلغ أمنيتي، أسمعتم؟ أنا آمركم باسم الملك فرديناند وباسم الملكة إيزابل أن تقوموا بواجباتكم حق قيام لأكافئكم خيرا، وإلا فإني سأعاقب كلا منكم على عمله وينال جزاء ما فعلت يده الأثيمة.
فيراندو :
سنعاقبك قبل أن تعاقبنا أيها المجنون، لقد صدق أنتوان بكل ما قاله عنك أيها الجاهل.
برتلماوس (يستل سيفه ويهجم على فيراندو) :
اسكت يا لئيم.
كولومب :
اغمد سيفك يا أخي، أيها الإخوان عودوا إلى أعمالكم، واشكروا الله، فالريح جارية كما نشتهي، ساعدنا يا رب واكلأنا بعين رحمتك.
الجميع :
إلى الوراء، إلى الوراء.
كولومب :
ما أشد عنادهم! مجانين أنتم أيها الرجال قلت لكم لا أعود لا أرجع فلا تطمعوا بالمحال.
فيراندو :
يا لك من وقح جبان، مجنون وتعيرنا بالجنون، عد بنا وإلا قتلتك الآن شر قتلة.
كولومب :
جنودي، آه لا قائد ولا جنود إزاء إرادة الجمهور.
ألفونس :
من أنت حتى تدعو جنودك؟ يا لك من أحمق سفيه (يلطمه على رأسه) .
الجميع :
اقتلوه، غرقوه، وعودوا بنا.
مرتين :
اسمعوا لأخاطبه، ابعدوا قليلا. (إلى كولومب)
قد رأيت هذه الثورة فلا تقدر أنت وأخوك أن تقاوم جمهورا غفيرا. الجنود أصبحوا من أنصار البحارة، وكلهم في العمل يد واحدة.
كولومب :
وأنت وأنت يا مرتين.
مرتين :
أنا لا أستطيع وحدي أن أقاوم هذا الجمع، فيجب أن نصنع لهم ما يهدأ غضبهم ولو إلى حين.
كولومب (إلى البحارة) :
إذن افعلوا ما أقول لكم وأطيعوني ثلاثة أيام فقط.
فينشنته :
لا، ولا دقيقة واحدة، لا بد من قتلك فاستعد للموت.
الجميع :
الرجوع، الرجوع.
مرتين :
لا بأس أيها الرفاق من مجاهدة ثلاثة أيام أخرى.
فيراندو :
كولومب كذاب مماطل، فهو يعللنا بالرجوع ولم يصدق، قال إنه رأى الأرض، وكل ذلك كذب وخداع.
الفونس :
تطلب منا ثلاثة أيام فلا بأس، ولكن اكتب على نفسك شرطا ليكون بيدنا حجة عليك نطالبك به في اليوم الثالث.
كولومب (إلى أخيه) :
إذا لم يكن ما تريد فأرد ما يكون، خذ يا مرتين ورقة واكتب:
صح تعهدنا إلى بحارتنا بالرجوع بهم بعد ثلاثة أيام من تاريخه إذا لم نكتشف أرضا أو ما يدل دلالة لا ريب فيها على قرب وجود الأرض، ونشترط عليهم أن يطيعوا الطاعة الكلية لأوامرنا.
حرر نهار الاثنين في 11 آب سنة 1492 (ثم يأخذها ويوقعها.)
كولومب :
أسرتكم هذه الشروط؟ خذوها وارجعوا إلى أعمالكم.
الجميع (وهم خارجون) :
الرجوع بعد ثلاثة أيام.
كولومب :
اذهب يا برتلماوس، وترقب ما يفعل هؤلاء العصاة.
المشهد الخامس
كولومب (وحده) :
رباه عينك في الدجى ترعاني
ولأنت عوني إن طغا أعواني
ثاروا علي كأنهم لم يعلموا
أني فعلت مشيئة الرحمن
أصليب ربي أنت ترسي أتقي
بك عاديات الدهر والأزمان
فإذا رموني في البحار فأنت لي
فوق الغمار سفينة الطوفان
أو يطرحوني في الحريق فإنني
أنا رابع الأطفال بالنيران
وإذا أتوني بالسيوف فأنت لي
سيف صقيل الشفرتين يماني
أو عذبوني جائرين فأسوتي
فيما لقيته من ضروب هوان
رباه أعواني عصوا وتمردوا
يا ربي احفظني من العصيان
إن أملي بالنجاح كبير ولكني أخاف ثورة هؤلاء البحارة الجبناء، قد اشتاقوا إلى أوطانهم وما أمر فراق الأوطان! أما أنا فأعلل النفس باكتشاف وطن جديد. هو ذا الأدلة ظاهرة؛ فعمق البحر قد أصبح قليلا والطين ظهر على رأس المقياس، والبحارة قد عثروا على عصا مصنوعة بيد بشرية، كل هذا دليل كاف على اقترابنا من اليبس، ولكن إذا طال الأجل علي ثلاثة أيام فماذا أصنع بهم يا ترى؟ لا شك أنهم يقتلونني، رباه منك الفرج في اليوم الثالث إذا لم يكن قبل، هو ذا الريح تختلف في كل ساعة وهذا دليل جديد.
المشهد السادس (كولومب - البحارة كلهم) (يقرع الجرس يدخل البحارة.)
كولومب :
أيها الإخوان، أبشركم بأننا سنبلغ الأمنية هذه الليلة، وننال ما نتمناه، فاشكروا الحق سبحانه وتعالى؛ لأنه رافقنا في مسيرنا ولم تعكر كأس راحتنا التقلبات الجوية، تأكدوا ما أقوله لكم ولا يخامركم أدنى ريب في كلامي، غدا متى عدتم إلى أوطانكم سيرونكم ويقولون هؤلاء قد افتتحوا العالم الجديد، وبهذا تخلدون لكم ذكرا لا يمحى.
الجميع (يهزون رءوسهم ويضحكون) :
تمليق، خداع.
كولومب :
سترون أيها الرفاق عما قريب فاذهبوا إلى أعمالكم وتذكروا أن الملكة وعدت من يرى الأرض أولا بجائزة 300 ليرة، وأنا أعد أيضا بطاقم من المخمل الحريري (يخرجون ضاحكين) .
خرجوا ضاحكين مستهزئين رباه كذبهم، فلندعهم وشأنهم ونرصد الحركات، آه إني أرى النور، نورا يختفي ويظهر، آه ما أجمل النور! غدا إن شاء الله سأرى العالم الجديد (يطلق مدفع)
ما هذا الصوت؟ صوت مدفع، أثار القوم؟ أسمع أصواتا، ماذا يرددون؟ (مدافع تدوي وأصوات تردد)
الأرض، الأرض.
كولومب :
رباه! قد رأوا ما رأيت، إذن لم يخطئ ظني. (ينطرح على الكرسي)
فيسمع أنغاما موسيقية وأصواتا تردد هذا النشيد:
هبوا ها قد لاح الفجر
وأتى من فادينا النصر
قابلنا بالعزم الأخطارا
وركبنا للفتح الأبحارا
وبلغنا بالجد الأوطارا
يا مولى الأكوان لك الشكر
ألفونس (يدخل ويركع أمام كولومب قائلا) :
مولاي، قد رأينا الأرض، أسمع رفاقي يغنون ويترنمون.
كولومب (يسقط راكعا على ركبتيه، وبعدما يقبل الأرض ينظر إلى السماء ويقول) :
قد رأيتها يا كولومب كما رأى موسى أرض الميعاد، سأدخلها بإذنك يا الله، لم تعد حاجة في نفس يعقوب. (يسدل الستار)
القسم الثاني (يمثل الملعب جزيرة سان سلفادر والهنود متفرقة فيها وكل منهم يعمل عملا.)
المشهد السابع (كولومب وأتباعه) (تعزف الموسيقى من الخارج وتدوي المدافع فتظهر على الهنود علامات الجزع ويتساءلون بالحركات، ثم يهتف البحارة من الداخل):
هبوا ها قد لاح الفجر
وأتى من ربكم النصر
نجحت بالصبر مساعينا
وزهت كالبدر أمانينا
وبواترنا ومواضينا
إن سلت يلتفت الدهر (ولا ينتهون من هذا حتى يدخلوا يتقدمهم كولومب في يده اليمنى سيفه مشهرا، وفي اليسرى الراية المنشورة على رمح طويل فيتفرق الهنود مذعورين إذ ينظرونه، أما هو فلا يكاد يظهر على الملعب حتى يهتف):
هذي هي الدنيا الجديدة فادخلوا
فلقد بلغنا الفوز والآمالا (ثم يضع سيفه أمامه على الأرض ويغرس الراية في الأرض بسرعة ويركع مستندا عليها ويقول: «سيطلق على هذه الجزيرة منذ الآن اسم المخلص الفادي.» يركع الجميع حوله ويغرس مرتين راية الصليب، وبعد قليل ينهضون ويرددون النشيد على الموسيقى):
هبوا ها قد لاح الفجر
وأتى من فادينا النصر
فليسلم قائدنا الأكبر
كولومب وطالعه الأنور
ستظل مآثره تشكر
وبها للإسبان الفخر (بعد الانتهاء من النشيد يقف كولومب شاهرا سيفه بيده ويقول):
فباسم فردينان تصبح ملكنا
هذي البلاد وباسم إيزابلا
ستحدث الأدهار عنا بعضها
بعضا ويفخر جيلنا الأجيالا
طفنا البلاد بهمة نهاضة
تستصغر الأرزاء والأهوالا
ومشى على هام الغمار سفيننا
يا من رأى فوق الغمار جبالا
لعب المشيب بمفرقي من كثر ما
لاقيت أهوالا وذقت مطالا
كولومب هزء جميع أبناء الورى
وغدا إلى أقصى الجنون مشالا
لكن أتاني من لدن رب العلا
نصر مبين يفحم الجهالا
سيرى على الأيام ذكري خالد
وسينحني التاريخ لي إجلالا
سيعظم المتنورون مآثري
وسينصبون لهمتي تمثالا
قد جئت ما لم يأت فيه فاتح
وفعلت فعلا يعجز الأبطالا
هذا الصليب لقد غدا لي منقذا
من شدتي سبحانه وتعالى
ولذاك أرفعه على هام الربى
وهو الذي يولي البلاد كمالا (يرفع الصليب على رابية تعد لذلك قبل كشف الستار، ثم ينقل الراية من موضعها في أرض الملعب ويرفعها قرب الصليب المقدس ويقول):
يا راية الإسبان رفي واحرسي ال
كون الجديد ونوليه جمالا
فجميعنا بظلال مجدك نحتمي
ونفاخر الأمراء والأقيالا
هذي بلاد طالما حنت إلى ال
حظوى بها عيني وذقت نكالا
فظفرت فيما أشتهي بعد العنا
وملأت تاريخي أسى وفعالا
فيراندو :
مولاي عفوا عن تمردنا فقد
كنا حيارى نختشي الآجالا
فالخوف أفقدنا الرشاد ودهرنا
قد شك ما بين الضلوع نصالا
ألفونس :
فاغفر لمن أخطا إليك فربنا
في ذاك يقضي فاذكر الأقوالا
مرتين :
وأنا على قدميك ذلا أنحني
مستغفرا عما أتيت ضلالا
الجميع :
وجميعنا مستغفرون ...
فينشنته : ... ... وطالبون
الصفح فاصفح واذكر الأمثالا
كولومب :
لا تجزعوا أنا صافح عما مضى
إن الكريم بصفحه يتعالى
فادعوا إلى الملك الأجل فذاك قد
أحيا البلاد عدالة ونوالا
وتذكروا أبدا مليكتكم على
كر الدهور فمجدها ما زالا
لولا حميتها وفيض سخائها
لم نكتشف فلتحي «إيزابلا»
الجميع :
فلتحي إيزابلا.
مرتين :
بل قولوا أيها الإخوان: فليحي الأميرال، فليعش نائب الملك، فليعش كولومب.
الجميع :
فليحي الأميرال، فليعش نائب الملك، فليعش كولومب.
فينشنته :
اركعوا أيها الرفاق أمام قائدكم الأعظم، وأقسموا له يمين الصدق والأمانة والطاعة.
الجميع (يركعون ويقولون) :
نحن الإسبانيين نقسم أمام الله في هذه البلاد الجديدة أيمان الصدق، والأمانة، والطاعة للقائد الأكبر ونائب الملك كريستوف كولومب.
كولومب :
انهضوا أيها الإخوان، بارك الله فيكم، واشكروه على جوده علينا بالتوفيق والسلامة. (ينهضون.)
المشهد الثامن
المذكورون :
الآن قد أصبح من أقدس واجباتنا أن نلاطف هؤلاء البشر التائهين في بيداء الهمجية الغارقين في بحار من التوحش، علينا أن نلاطفهم لنطلع منهم على أسرار هذه البلاد الخصيبة، الغنية بمعادنها وتربتها الذهبية (تظهر رءوس الهنود من بين الكواليس)
تقدموا أيها الإخوان، تعالوا نتعارف فقد طال الزمان على تفرقنا تعالوا تعالوا (يشير بيديه ببشاشة)
يدخل الهنود بجزع وخوف مندهشين معجبين بهيئة الإسبانيول ويقتربون منهم وخصوصا من كولومب ويلعبون بلحاهم.
كولومب :
آه ما أجمل هذه السذاجة! ما أطيب هذه القلوب!
ألفونس :
إذا ارتقى هؤلاء القوم فإنما هم غرس أفضالك.
كولومب :
إن هذه الأرض أقرب إلى الرقي من سواها؛ نظرا لوفرة ثروتها، وستظهر لك الأيام ما أقول.
مرتين :
لا ريب في كلامك يا مولاي. (الهنود يظهرون حركات مضحكة.)
فينشنته :
فلنطلق مدفعا يا مولاي، لنرى ماذا يصنعون.
كولومب :
لا بأس، أطلقوا المدافع (يطلق مدفع في الخارج، فترتعد مفاصل الهنود، ويخرون على الأرض راكعين).
كولومب :
لا تخافوا لا تخافوا (يصنع إشارة اطمئنان بيديه ببشاشة فينهض الهنود)
لا أراكم الله أيها الإخوان مثل هذه الآلات، آلات الدمار والبوار. (عند هذا ترجع الحركات المضحكة فيهديهم الإسبان مرايات، وإبرا، وملابس، وأشياء زجاجية، ويهديهم الهنود من الأقراط التي في آذانهم، وسبائك الذهب والأثمار وغير ذلك. ثم يأخذ كولومب يسألهم عن محال وجود تلك الأشياء الذهبية، فيشيرون إليه أنها توجد في الجهة الجنوبية.)
كولومب :
سنسافر إلى تلك البلاد إن شاء الله، ونعود إلى الملك ومعنا هدايا كثيرة من مال ورجال وحيوانات، اذهب يا مرتين ويا فينشنته وانصبا شراع السفن واستعدا للذهاب، فقد أتينا للعمل لا للتواني والكسل. (يسدل الستار)
القسم الثالث (يمثل الملعب جزيرة هايتي التي سماها كولومب إسبانيولا.)
المشهد التاسع (كولومب - فينشنته - ألفونس - غوانا غراي - لفيف البحارة - سبعة هنود)
فينشنته :
مولاي، قد جلنا واكتشفنا بلادا كثيرة، فماذا تريد أن نصنع فقد حان للغريب أن يعود إلى بلاده؟
كولومب :
تعلم أيها الصديق وتعلمون جميعكم كم اكتشفنا من الجزائر، وكم كان سرورنا عظيما باكتشاف الجزيرة رسميا، وكيف رأيتم من بساطة رجالها ودماثة أخلاقهم وحضور ملكها ونجله إلينا، واستقبالنا لهم واستعلامنا عن محل الذهب، وهؤلاء هم الذين أخذناهم من رجالها (يشير إلى الهنود)
لنذهب بهم إلى إسبانيا، وكيف تركنا صديقنا مرتين وذهب وحده ولا ندري ماذا يقصد، وكيف وصلنا إلى هذه الجزيرة هايتي ورأيتم بأم عينكم خصبها وجمالها، وكم أثرت بكم أنغام بلابلها وتسميتنا لها بإسبانيولا؛ لأنها قريبة الشبه لبلادنا، وكيف تفر منا رجالها ولم نتمكن من استمالة قلوبهم إلينا إلا بواسطة تلك الابنة التي وجدناها فأكرمناها وأعدناها إلى وطنها فحدثت بما سمعت ورأت من ألطافنا، وكيف وصلنا إلى ميناء سان توما وكيف استقبلنا الملك غوانا غراي وأهدانا الهدايا الجزيلة، وقد رأيتموه أيضا ومعه رجال حاشيته، وكيف زار سفننا وكان شديد الإعجاب بها ويحترمنا كآلهة سمويين.
وأذكر أيضا وتذكرون غرق سفينتنا العظمى «سنتا ماريا» وكيف تمكنا بمعاضدة ملك الهنود من حفظ الأشياء التي بها، وكيف ذلك الملك جمع لنا كثيرا من سبائك الذهب، آه إن غرق السنتا ماريا أذاب قلبي.
فينشنته :
نعم، إن تلك مصيبة عظيمة.
كولومب :
ولو كنت فعلت فعل مرتين لكنت الآن وحدي أعجز عن الرجوع إلى إسبانيا، فشكرا لك على أمانتك.
بينزون :
لا شكر على الواجب يا مولاي.
كولومب :
والآن فأنا سأعود إلى إسبانيا وأغادر بعضكم هنا أيها الرفاق ونفسي في أشد الحزن لمبارحتكم. (يدخل ملك الهنود.) (كولومب يبدي إشارة عزمه على الذهاب وبقاء بعض الإسبان فيسر الملك بهم سرورا، ويخاطب رفاقه بالأمر فيسرون ويفرحون والملك يطلب من الأميرال أن يساعده على قهر بعض الهنود فيجيبه الأميرال، ويظهر له قوة المدفع فيشكره الملك ويرفع تاجه عن رأسه ويضعه على رأس كولومب، فيقدم له كولومب عقدا ثمينا، وخاتم فضة، وبدلة حمراء ثم يقول لرفاقه.)
كولومب :
أيها الرفاق أفارقكم إلى حين إلى إسبانيا، وأشرح لأهلكم عن سروركم، وأعرض للملك شفاها عما رأينا وأعود إليكم بعد حين إن وفق الله، فاتحدوا واخضعوا لرئيسكم ديا كورانا، وإذا مات لا سمح الله يقوم مقامه بياترو غونا، ثم رودريفو فكونوا منتبهين إلى واجباتكم واتحدوا فأنتم بين قوم متوحشين، كونوا كالإخوة ولا يفرقكم الطمع، ولا تغادروا بعضكم كما غادرني مرتين، وأنتم أيها الرؤساء احتملوا مرءوسيكم، وليكن لكم شبه بي أنا، وتذكروا ما لقيته منكم في عرض البحر.
ألفونس :
مولاي لا تذكر الماضي.
كولومب :
ربما نفعت الذكرى يا ألفونس، وفي الختام أوصيكم بتعظيم الملك غوانا، ولا تنكروا جميله (يشير إليه بابتسام)
وأنت أيها الملك تعال فأودعك (يقترب من ملك الهنود ويصافحه، والباقون يصافحون بعضهم بالعويل والنحيب) . (وهكذا يرخى الستار.)
الفصل الثالث
القسم الأول (يمثل الملعب قصر الملك فردينان في برسلونة.)
المشهد الأول (الشعب - رودريفز (خطيب الشعب) - دومينيك - فينسان) (ينكشف الستار عن شعب يضج وخطيب يعلو منبرا.)
رودريفز :
أيها الناس، إن جراحكم لم تندمل بعد، لقد لقيتم في الأندلس ما تنحني تحت أثقاله الجبابرة، أموالكم جمعت لتنفق على الحرب، ونفوسكم أزهقت في تلك الهيجاء، من لم تصبه هذه الحرب بأسهم فليرشقني بسهم، لا أحد يجرؤ على ذلك لأن كلا منا مصاب، الصغير والحقير والسيد الخطير، إذن لماذا تصبرون على جور ملككم وتنامون على الضيم؟ قلبوا صفحات تاريخ الرومان وانظروا كيف سقطت رءوس الملوك الظالمين، أما رأيتم رأس يوليوس قيصر كأنه أكرة تدحرج على تراب الأرض التي جبلها بالدماء؟ إن يوليوس قيصر ليس بأظلم من ملككم فرديناند، فليسقط ذلك الطاغية لتكفى البلاد شره.
الشعب :
فليسقط.
رودريفز :
أي ملك جن جنون هذا الملك؟! يحاول أن يكشف عالما جديدا، يا له من حلم مزعج! إذا كان عاهلا فليحم ملكه، قد استأسد لما انتصر على العرب، واشتد الطمع بقلبه، فتاق إلى اكتشاف العالم الجديد، آه إن الطعام يقوي شهوة النهم، ولكنني أخاف أن يبلغ به الجوع أقصاه فيفترس الرعية، فتعاضدوا إذن واجتهدوا أن تطرحوه في مهاوي العدم.
أيها الشجعان، إني أخاف أن أهيج عواطفكم بهذا النبأ الهائل، قد كنت من زمان أبين لكم شطط الملك وخصوصا عند سفر كولومب، ولكنكم لم تثبتوا في المقاومة، والآن أقول لكم: إن السفن الإسبانية قد ذهبت فريسة الأمواج واللجج، وأصبح إخوانكم مضغة في أفواه حيتان البحار وأسماكها.
الشعب : (صياح وصراخ وضجيج.)
رودريفز :
لا تعولوا ولا تنوحوا فنحن رجال خلقنا للتجلد والصبر، والنساء للبكاء والنوح، خلوا الندب إلى غير هذا الحين، وأما الآن فابدءوا بأخذ الثأر، فلنكل لمليكنا بالكيل الذي كال لنا به ليعلم الظالمون أي منقلب ينقلبون. إن إرادة الشعب سور لا يدك إذا كان مؤسسا على صخور الاتحاد فاتحدوا، ومهما طلبتم تحصلوا عليه ولو كان تاج الملك. إن الشعب قوي وأنتم ذلك فكونوا أقوياء، أتريدون الفوز والنصر؟
الشعب :
نعم، نعم.
رودريفز :
فاصرخوا إذن من أعماق قلوبكم، نريد الملك، أين الملك؟
الشعب :
نريد الملك، أين الملك؟ (يشير الخطيب بيده ليعيدوا.)
الخطيب :
طالما كان وقع هذا الصوت أشد من وقع المدافع على أركان العروش، طالما زعزع أركانها وتركها قاعا صفصفا وترك التيجان محطمة تحت أرجل الثائرين، أفهمتم؟ إذا أتوا لمقاومتكم برءوس الحراب فقولوا لهم: ما أحلى الموت في سبيل مقاومة الظلام! وإن يوم المظلوم أشد هولا من يوم الظالم على المظلوم، إلى الآن لم يجبنا أحد، فاهتفوا نريد الملك نريد الملك.
الشعب :
نريد الملك، نريد الملك (ويسكتون) .
رودريفز :
لا تسكتوا حتى يأتي لمخاطبتكم، أو يرسل من يسألكم عما تطلبون. (يرددون.) (عند هذا يظهر الحاجب ويدخل ما بين الشعب.)
المشهد الثاني (الحاجب والمذكورون)
الحاجب :
ما هذا الصراخ وماذا تريدون؟
الشعب :
نريد الملك، نريد الملك.
الحاجب :
إن الملك نائم فلا تقلقوه بصراخكم أيها الناس، اسكتوا لئلا يغضب، وويل لكم إذا غضب.
فينسان :
نحن لا نبالي بغضبه، وقد أتينا لنطالبه بدمائنا، برجالنا التي طرحها في البحر فريسة للمخاطر، أفهمت ماذا نريد؟
الحاجب :
الملك نائم الآن.
رودريفز :
نامت عيونك والمظلوم منتبه
يدعو عليك وعين الله لم تنم
اذهب أيها الحاجب ونبه مولاك، قل له أن ينتبه لصراخ الشعب، ويسمع مطاليبهم، فالشعب أسد كاسر والويل لمن يثير هذا الأسد! قل له أن يخرج من فراشه الناعم قبل أن يزحف عليه هذا الجمع، فيظل راقدا فيه رقادا أبديا.
الحاجب :
لقد تجاوزتم حدود الآداب فاسكتوا، وإلا دعوت الجنود لتفريقكم في الحال، هكذا أمرني الملك.
دومينيك :
ويحك يا خائن! نحن لا نخاف الوعيد، قد اجتمعنا هنا بإرادة الشعب، ولا نتفرق إلا على رءوس الحراب، فاسكت وإلا قطعتك شطرين بحد هذا المهند، أيها الشعب، دونكم هذا الوغد وأخرجوه بالقوة. (الشعب يهجم.)
رودريفز :
مهلا أيها الإخوان، لا تشتموا الحاجب فما هو إلا رسول جاء يبلغنا مشيئة الملك، وما على الرسول إلا البلاغ، اتركوا الرسول ولا تلطخوا يدكم بدمه، عد أيها الرسول وقل لمولاك إن الشعب لا يعود ما لم يره، الملك أب، وعار على الأب أن يضع حاجبا بينه وبين بنيه. (الحاجب يخرج.)
الشعب :
أب قاس، أب ظالم.
رودريفز :
أيها الإخوان، احذروا أن تشتموا الملك قبل أن يبدأ بشتمكم، دعوني أخاطبه وحدي وحيوه عند دخوله التحية المعتادة، أفهمتم ما أقول؟
الشعب :
فهمنا، فهمنا.
فينسان :
هو ذا الملك أقبل. (يدخل الملك.)
المشهد الثالث (المذكورون - الملك - رسول)
الملك :
ما بالكم تضجون؟ وما هذه الثورة؟
رودريفز :
مولاي، إن المصائب التي أحدقت بنا هي التي تثور في داخلنا، إن موت أهلنا في الحرب يشب في صدورنا حربا داخلية، الحرب سبب شقائنا.
الملك :
الحرب عادلة أيها الرجل، من منكم يسكت عن رجل يعتدي عليه، وينقب بيته أمام عينيه، إن من يدافع عن نفسه لا يعد مفتريا ولا ظالما.
رودريفز :
قد كانت الحرب ضربة قاضية على سعادة هذا الشعب، وجاء ضغثا على إبالة اكتشاف العالم الجديد، ثار هؤلاء الناس عندما سمعوا بهلاك ذويهم وغرق السفن، ومن لا يتأثر لمصاب ذويه؟! إن الوحوش تتأثر لبعضها، فكيف الإنسان؟!
الملك :
لا أيها الناس، إن السفن لم تغرق.
فينسان :
بلى، غرقت يا مولاي.
الملك :
وهب أنها غرقت، فماذا تطلبون مني؟
رودريفز :
نطلب إغاثة العيال المنكوبة، فلكل بحري قوم عيال عليه.
الملك :
ما هذه الجسارة والوقاحة؟! شعبي يأمر علي كأني المملوك وهو الملك، لا غرامة عندي فافعلوا ما تريدون. جنودي، أخرجوا هؤلاء الناس من باحة القصر. (يظهر الجنود حركة.)
رودريفز :
الجنود إخوتنا أيها الملك، وهيهات أن يقتل الأخ أخاه المظلوم (تطلع المدافع) (الشعب يضج خائفا)
ماذا جرى؟ ما هذه المدافع؟ أثار القوم على العسكر؟ رباه أنقذ عرشي من الخطر. (يدخل رسول.)
رسول :
مولاي، لك البشرى، وصل كولومب إلى ميناء بالوس.
الملك :
رباه! الآن حل الفرج.
الشعب :
لا نصدق، حيلة، خداع.
دومينيك :
أنت كاذب أيها الرسول، وبشارتك خديعة لنا.
الرسول :
ألم تسمع إطلاق المدافع، فهي ترحب بكولومب.
رودريفز :
إذن اتبعوني أيها الإخوان، ولا يصعب علينا أن نعود. (يخرجون.)
المشهد الرابع (الملك - الملكة - الكردينال - ستنجل - ألونزو - المرشد)
الملك (يجلس على كرسي) :
ما أقوى الشعب! إن سلطته قوية قاهرة، أصحيح عاد كولومب؟ لا ريب في ذلك، ومن يكذب على الملك؟ ولكن كيف كان الأمر؟ فمسألة كولومب سببت لي أعظم القلاقل، فإذا عاد ظافرا بما قال عقبت علقم الأهوال شهد الفوز بالغنيمة، وإذا كان هلك من معه فمن ينجيني من ثورة الشعب؟ آه إن المركز حرج! (تدخل الملكة والكردينال وستنجل وألونزو والمرشد والحجاب.)
الملكة :
قد عاد كولومب.
الملك :
إذن الخبر صحيح، ما أشد كرمك يا الله! (رسول يدفع للحاجب رسالة.)
حاجب :
مولاي، هذه الرسالة دفعها إلي رسول جاء من قبل كولومب.
الملك (يقرأ الرسالة)، (إلى الملكة) :
قد عاد كولومب ظافرا فمرحبا به، قد اكتشف العالم الجديد، وما أعظم هذا الاكتشاف! وإليك رسالته.
الكردينال :
إنه غرس يديك يا مولاي.
ستنجل :
وثمرة اهتمامك واجتهادك يا سيدتي.
المرشد :
الآن فرحت نفسي بنجاة شعبي، ألا تسمح لي مولاتي لأبشر في تلك البلاد.
الملك :
أعدوا ضروب الاحتفال لنقابل هذا الفاتح العظيم، فقد اكتشف البلاد دون أن يسفك نقطة دم، إنه لأعظم من الملوك وأقوى من الفاتحين، اخرجوا أيها الأمراء إلى ملاقاته إلى ظاهر المدينة، فهو جدير بكل احترام ووقار، عظموه وكرموه فهو سيخدم الدين والإنسانية أعظم خدمة.
الملكة (من بعد ما يخرج الجميع) :
أيسمح لي مولاي أن أخرج معهم إلى استقباله؟
الملك :
لا أيتها الملكة، وإن كان هذا مما يستحقه، فالمقام لا يسمح لنا بذلك، ولكننا لا نبخسه حقه في هذا المقام، سنكرمه ولكن بدون أن نخرق حرمة تقاليد الملوك وعاداتهم. (يرخى الستار)
القسم الثاني (قاعة الاستقبال في قصر الملك (ثلاثة عروش).)
المشهد الخامس (الملك - الملكة - كولومب - ألونزو - ستنجل - الكردينال - المرشد - أنتوان - دياكو الابن)
جندي :
قد أقبل الجماعة ومعهم كولومب. (تعزف الموسيقى وتدوي المدافع ثم يدخل كولومب.)
كولومب :
سلام أيها الملك (يهم بالركوع فيأخذه الملك بيده ويقول):
الملك :
اجلس عن يميني يا كولومب يا أميرال البحر والبر، فأنت جدير بمقام الملوك. إن مآتيك تعجز عنها سطوة السيف، وتنحني أمامها أبهة الملك، إن الرجل بدماغه لا بماله ومجده، وعلى الملوك أن يعظموا أصحاب الأدمغة الكبيرة، فبهؤلاء ركن المملكة وزينتها كما أن الجيش سياجها، لقد عدت يا كولومب وعلى رأسك إكليل غار الظفر، فأهلا وسهلا بك أيها المكتشف، بل الفاتح الأعظم.
كولومب :
لقد كنت يا مولاي سبب هذا الاكتشاف، ولولا عنايتك لم يكن شيء مما كان، فعلى الأجيال والدهور أن لا تنسى نعمتك علي، وعلى الأحقاب أن تطوب جلالة الملكة إذ لها في تلك المساعدة اليد الطولى.
الملكة :
إن ثمرة الاكتشاف تعزينا على أتعابنا، وتكفينا سخرية الأجيال الآتية، فشكرا لثباتك العظيم يا كولومب.
الملك :
هات حدثنا بما نظرت وسمعت أيها القائد.
كولومب :
قد بسطت لجلالتكم في الرسالة تفاصيل رحلتي من إسبانيا إلى حين الاكتشاف، وما صادفته في البحر من المخاطر، وهذه الجريدة أدفعها إلى جلالتك تطالعها على مهل، والآن أبسط على مسامع جلالتك ما اعترضني من المخاطر في رجوعي من العالم الجديد إلى إسبانيا؛ فإن الخطر كان أشد وأعظم!
في اليوم الرابع من شهر كانون الثاني سنة 1493 غادرت العالم الجديد، بعد وداع رفاقي وحضهم على الاتحاد، ولم يبق معي غير سفينة ذرية؛ لأن السنتا ماريا قد غرقت، وسفينة البانتا قد سافر بها مرتين ألونزو وغادرني وحدي. وبينما نحن نخترق العباب إذا بسفينة تلوح عن بعد ولم تكن غير سفينة مرتين، فاعتذر بأن الريح حملته على مغادرتنا، وكان قد أحضر معه ستة هنود قصد التجارة بهم فأطلقت سراحهم؛ لأنه من العار أن يتاجر الأخ بأخيه، فاغتاظ مني غير أني لم أبال بذلك، فسرنا حتى بلغنا جبال السيفاي وكان قوم تلك الجبال متوحشين فحاربناهم؛ لأنهم لم يسلموا فخضعوا أخيرا للقوة.
وفي الثاني عشر من شباط اشتدت الأنواء فتقطعت الحبال وأوشكت السفن أن تغرق فأخذنا نصلي ونبتهل، وكأن الله لم يستجب، ولم يكن حزني على حياتي، بل لأني أموت ورفاقي ولا تعلم إسبانيا باكتشافاتي، فانفردت بمخدعي وأخذت قلما وقرطاسا وكتبت باختصار ما اكتشفته من البلدان وخططت الطريق، ثم وضعت تلك الورقة في نسيج ومسحته بالشمع، وعنونته باسم جلالتك وجلالة الملكة، وعينت إلى من يوصله إلى جلالتكما جائزة ألف ليرة، ثم وضعته في برميل وطرحته في البحر، وما زلنا على تلك الحال حتى الصباح، ففتشت على البانتا فلم أجدها فحسبت أن الأمواج قد افترستها، وبعد ثلاثة أيام كلها خطر ومخاوف وصلنا جزيرة من جزائر مملكة البرتوغال تدعى سانتماري، ولما عرفت أن كنيسة تلك الجزيرة على اسم العذراء أمرت رفاقي بالذهاب لزيارتها، فذهبوا ولكن طالت مدة غيابهم، ومنعني ألم في جنبي عن الذهاب معهم، وبعد يومين بلغني أن رفاقي في السجن بأمر حاكم الجزيرة، فكتبت إليه أسأله إطلاق جماعتي باسم جلالتكما، وإذا لم يفعل هدمت أسوار المدينة، فخاف الحاكم إذ ذاك وأرسل معتمدين من قبله ليطلع إذا كنا إسبانيين فعرف ذلك من أوراقي وأطلق الأسرى، وما غادرنا تلك الجزيرة حتى هاجت الرياح ثانية وأخذت البروق والرعود تتعاظم حتى رأينا الموت أمامنا، وتهيأنا لمبارحة هذا العالم، ولكننا صباح النهار الرابع من آذار رسونا قرب مدينة دوستيلو فأقبل سكانها يهنئوننا بالسلامة؛ لأنهم كانوا رأوا الخطر الذي أحدق بنا، ثم أرسلت ألتمس من ملك البرتوغال أن يسمح لي بترميم سفينتي في ليسبونا فسمح لي بذلك، وقابلني بكل هشاشة وبشاشة وسر جدا بهذا الاكتشاف وتندم لأنه لم يساعدني وعرض علي أن أسافر برا على نفقته فرفضت ذلك، ثم برحت المدينة في الثالث عشر من آذار حتى وصلت إلى ميناء بالوس في الخامس عشر منه، بعدما غبت عن وطني أيها الملك سبعة أشهر ونصف شهر قضيتها بالأخطار والمخاوف. (مرتين ألونزو قادته الأنواء إلى ميناء «بيسكاي» في فرنسا، وإذ حسب أن كولومب غرق أرسل إلى الملك يخبره عن الاكتشافات، ولما وصل إلى ميناء بالوس شاهد سفينة كولومب فتكدر كثيرا، وخرج سرا إلى بيته، وأخذ ينتظر جواب الملك فأجابه يحظر عليه التوجه نظرا لسوء سلوكه، فساءه جدا هذا الجواب، وأصيب بمرض عضال فقضى نحبه.)
الملك :
إن مرتين وصل اليوم، وكتب إلي يطلب مواجهتي فرفضت؛ وذاك لأنه خانك.
الكردينال :
طوباك يا كولومب، ما أعظم جهادك!
ستنجل :
لقد حققت آمالنا أيها الأميرال، فلك منا جزيل الشكر.
المرشد :
إن العلماء سرج الأزمنة، فهنيئا لإسبانيا بك يا سراجها الوهاج. (يدخل دياكو.)
دياكو :
أبي أنت هنا، آه ما أحب لقياك يا أبي!
كولومب :
وما أطيب مرآك يا ولدي تعال أضمك إلى صدري، فقد كنت رفيقي في شقائي وتعاستي، وستظل شاهدا على أعمال أبيك مدى الحياة.
أنتوان :
كولومب، أنا لا أصدق أنك اكتشفت عالما جديدا، فأين هي العلامات التي تؤيد كلامك؟ أظهرها للعيان إن كنت صادقا.
الملك :
يقول المثل: «إذا قدمت من سفر فأهد أهلك ولو حجر.» إن سميرنا يحب المجون، ويريد أن يرى محتويات العالم الجديد، فماذا أحضرت معك؟
كولومب :
معي أربعة من الهنود، وسبائك كثيرة من الذهب.
المرشد :
وأين هم الآن يا كولومب؟
كولومب :
الهنود خارج القصر، أتأمر بإحضارهم يا مولاي؟
الملك :
أحضرهم أمامي (يخرج جنديان)
والذهب أين هو؟
كولومب :
في ميناء بالوس ضمن مائتي صندوق. (يدخل الهنود ويندهشون من منظر القصر والملك ويظهرون حركات الاستغراب.)
الملك :
يا لك من رجل عظيم! لا بد أن تكون تعبت فاذهب للاستراحة فقد أمرت أن يعدوا لك غرفة ضمن قصري أيها الأميرال، وسنقابلك ثانية بعد المداولة مع الوزراء. (كولومب يخرج.)
المشهد السادس (المذكورون إلا الهنود وكولومب وولده)
الملك :
ما رأيك أيتها الملكة؟ ما رأيكم أيها الوزراء في مسألة كولومب؟
الملكة :
علينا أن نحمد الله فهو ولي التوفيق.
الملك :
ذلك لا حاجة إلى تذكيرنا به أيتها الملكة، ماذا تظنون أن نصنع وما هي الخطة التي نسير عليها بعد الآن؟
ستنجل :
رأيك يا مولاي هو الرأي الموفق.
ألونزو :
وهل بقي ريب يا مولاي في نجاح كولومب؟ يجب أن يرجع عاجلا إلى حيث كان ليوطد دعائم سطوتنا هناك؛ إذ لا يبعد أن يزاحمنا غيرنا على هذا العالم الجديد.
المرشد :
هذا ما كنت أخشاه وأتوقعه، قد قلت ولا أزال أقول: إن العالم الجديد سيكون سببا للويل والدمار.
ستنجل :
مولاي ، إن في هذا الاكتشاف لفخرا عظيما لإسبانيا، ودرة ثمينة يرصع بها تاريخ مملكتنا.
الملكة :
إذا كان لا بد من عود كولومب فيقتضي أن تكون معه عمارة بحرية؛ لأنه لا بد أن يحتاج إليها.
الملك :
نعم، لا بد من ذلك (إلى ألونزو) : أصدر أيها الوزير أمرا بتجهيز ثلاثين سفينة بكل مقتضياتها، ولتكن مستعدة للسفر متى يشأ كولومب.
ستنجل :
أيد الله دولتكم يا مولاي، إنما أذكركم برفع مقام الأميرال تنشيطا له ومكافأة على أتعابه.
الملك :
ذلك أمر لا بد منه، وسنرى في ذلك عند اجتماعنا به.
الكردينال :
ها هو مقبل. (يدخل كولومب ويحيي بإحناء الرأس.)
الملك :
ماذا تريد أن تصنع الآن أيها الأميرال؟
كولومب :
أنا رهين الإشارة يا مولاي، أنا أكره البطالة؛ ولهذا أسرعت بالعود لتأمرني بعمل جديد.
الملك :
اطلب ما تريد، فإننا نعتبر رأيك فوق كل رأي.
كولومب :
عفوا مولاي، أطلب العود إلى العالم الجديد.
الملك :
رعيا لك من مجاهد عظيم، فليكن لك ذلك، وقد صدرت الأوامر للوزارة الحربية بإعداد 30 سفينة، وها أنا أجدد ما منحتك إياه من لقب الأميرال الأكبر ونائب الملك، وأزيد على ذلك وضع عائلتك في مصاف العيال الشريفة، والحق لها بالاقتران ببنات الملوك والأمراء، ولك أنت مقام الملوك والسلاطين، والحق أن تتصرف تصرفا مطلقا في البلاد التي اكتشفتها، وما عليك إلا أن تقر لنا بالطاعة والسيادة والسير بمقتضى العهود المحررة ما بيننا.
كولومب :
مولاي، أنا عبد حقير لا أستحق كل هذا، ها أنا أقسم أمام الله والناس بالطاعة العمياء لجلالتكم ما دمت حيا.
الملك :
لله درك ما أصفى قلبك وأكرم أخلاقك! اقترب مني لأطبع على خدك قبلة أخوية، واذهب بسلام إلى الأرض الجديدة ولك أن تلبس بها التاج، وتحمل صولجان الملك كعادة الملوك العظام، اذهب بسلام أيها الأميرال الكبير والبطل الفاتح.
ستنجل :
ما أكرم هذا الملك!
الكردينال :
وما أشد تواضعه!
ألونزو :
وما أعظم حبه للعلماء!
كولومب :
مولاي، إنني أترامى على أقدام عظمتك ولي نعمة ألتمسها.
الملك :
قل ولك ما تريد، ولو كان نصف ملكي.
كولومب :
وضع هؤلاء الهنود في المدارس ليتعلموا لغتنا، وبعد ذلك يساعدوننا على التفاهم مع أقوامهم.
الملك :
كل ما تطلبه يكون لك فتهيأ للسفر، غدا ترافقك الحاشية إلى البحر، وتودع وداع الملوك والأمراء، فاستعد للسفر. (يرخى الستار)
القسم الثالث (القاعة عينها إنما لا يكون فيها غير عرش الملك.)
المشهد السابع (الكردينال - الملك - المرشد - أنتوان - ألونزو - دي أجيدا - ستة إسبان - ستنجل - بويال) (الملك جالس على العرش مطرق الرأس والغم باد على وجهه.)
الكردينال :
ما بال سيدي الملك مضطرب البال حزين القلب؟
الملك :
دعني أيها الكردينال، فإن أشقى الناس هو الملك! إن أشقى البشر من يهتم بجميع البشر، ولا تسلني عن مصائبي؛ فقلب الملوك مستودع الهموم.
الكردينال :
ماذا جرى؟ مولاي لا تستر عني أمرا، فلماذا لا تجيبني؟ لماذا لا تطلعني على دخيلة الأمر؟ فلعلي قادر على إفراج كربتك.
الملك :
إن مسألة كولومب كانت سببا لقلقي، تعلم أن ثمرة أول سفرة من سفراته كانت خلافنا مع ملك البرتوغال حتى تدخل في المسألة قداسة البابا، وقد سافر ثانية وكانت القلاقل ترافقه في كل سفراته، كأن الدهر كتب لهذا الرجل ألا يوفق له سعي، عجبا! هذه هي المرة الثالثة سافر بها وهو في أشد الخلاف مع شعبنا الإسباني في تلك البلاد والحرب الأهلية تكاد تنتشب بينهم.
أنتوان :
مولاي، قلت عن هذا الرجل ولا أزال أقول إنه بوم الويل وغراب الدمار.
المرشد :
جل من لا عيب فيه وعلا.
الملك :
قد ساد الخلاف بينه وبين رولدان الذي أرسلناه ليتولى الأمور القضائية.
ألونزو :
ومن أين عرفت ذلك يا مولاي؟
الملك :
من كتاب أرسله إلي كولومب بالأمس مع الخمسة مراكب، وهو يطلب إرسال رجل يقوم مقام رولدان، وفي هذا الصباح جاء مركب سادس وفيه تفاصيل الثورة، وكتاب آخر من رولدان وأتباعه يتذمرون من سوء تصرف الأميرال واستبداده، فما العمل يا ترى؟ قد عرفت أن مبغضي كولومب كثيرو العدد، فماذا نصنع يا الله؟
المرشد :
مولاي، لا تحكم قبل البحث الطويل.
الخادم :
مولاي، دي أجيدا بالباب يطلب الدخول.
الملك :
قل له يدخل (إلى الكردينال) ، هذا الرجل قادم من العالم الجديد، ولا ندري ماذا يحمل إلينا عن كولومب. (يدخل دي أجيدا.)
دي أجيدا :
سلام أيها الملك الأعظم.
الملك :
ما عندك عن كولومب؟ وكيف حال الإسبانيول في تلك البلاد؟
دي أجيدا :
إن شعبك في تلك البلاد في أتعس الحالات، ولا شقاء في الدنيا إلا نالوا منه قسما كبيرا.
الملك :
رباه ما هذا؟!
دي أجيدا :
فكولومب رجل مستبد عات، والحرب الأهلية بينه وبين الشعب قائمة على قدم وساق، قابلت هناك جمهورا غفيرا وكلهم يتذمرون ويشتكون من هذه الحال؛ فكولومب لم يدفع لهم مرتباتهم حتى أصبحوا يؤثرون الموت على الحياة، وهو يعاملهم معاملة خشنة لا يحتملها الهنود في تلك الأقطار. إن كولومب وأخويه يا مولاي لا يخرجان إلا تحت السلاح؛ نظرا لبغض الشعب لهم، ومتى بغض الشعب حاكما فكيف يرجى له التقدم والعمران؟!
الملك :
ويلاه من هذا المصير!
ستنجل :
مولاي، قد يكون في الأمر مبالغة، وقد تكون هذه الصورة مكبرة.
دي أجيدا :
أنا لا أكذب أيها الوزير، وهب أنني كذاب فأمام ملكي لا أقول إلا الحقيقة فلا تهني.
ألونزو :
إنه لم يلحق بك إهانة، ولكن ثقتنا بكولومب تحمل على التكذيب.
بويال :
ولماذا؟ فاليوم تلقيت رسالة من رولدان يقول بها إن كولومب طلب من الإسبانيين أن ينادوا به ملكا، ولما رفضوا ذلك ساد بينهم النفور، وكان من أمرهم ما كان.
دي أجيدا :
مولاي، بطر الرجل إذ رأى نعمتك الجزيلة عليه، رأى على رأسه التاج، وبيده الصولجان فطغى وتجبر.
الملك :
آه ماذا أقول؟! إن المسألة من الأهمية بمكان. (ضجة في الخارج.)
ستنجل :
ما هذا الضجيج؟ ما هذه الضوضاء؟ (يدخل ستة من الإسبان بأثواب رثة قادمون من العالم الجديد.)
الستة :
أين الملك؟! (يرونه) العدل الرحمة .
الملك :
ماذا تطلبون؟ تكلموا.
واحد :
مولاي، كولومب ظالم لم يدفع لنا مرتباتنا حتى كدنا نموت جوعا، استبد بنا، استخدمنا كما يشاء لأغراضه، نطلب من جلالتك العدل يا مصدر الإحسان والشفقة.
آخر :
سيدي، عاملنا برحمتك وحنانك.
الملك :
سيكون ما تريدون، عودوا إلى بيوتكم.
الجميع :
فليحي الملك، (ويخرجون).
المشهد التاسع (المذكورون - فرنسيس بوفاديليا)
الملك :
أيها الوزراء، إن ألسنة الخلق أقلام الحق، ولو لم يكن كولومب كذلك لوجدنا رجلا يمدحه، إن دوام الحال على هذا المنوال يؤدي بالمملكة الجديدة إلى الدمار، فمن الضرورة أن ننظر في الأمر، اليوم سنرسل معتمدا إلى تلك الديار يسوي الخلاف، حتى إذا ثبت على كولومب ما نسب إليه يتولى المعتمد أزمة الأحكام.
الكردينال :
ومن تريد أن يقوم بهذا العمل الخطير؟
الملك :
سنرسل فرنسيس بوفاديليا في هذه المهمة، فاكتب له الأوامر يا ألونزو (ألونزو يشرع بذلك) ، اذهب أيها الجندي وقل إلى فرنسيس أن يحضر (يخرج الجندي) ، إذا كان كولومب فعل ما نسب إليه فإنه يكون ناكرا للجميل لا يعرف قيمة النعمة! وأنتم أيها الوزراء يجب أن تساعدوني على فض هذا المشكل، ونسأل الله أن يوفقنا إلى ما به خير المملكة.
المرشد :
يا رب احفظ المملكة من كل شيء. (يدخل فرنسيس.)
فرنسيس :
ماذا تأمر يا مولاي؟
الملك :
نأمر بذهابك إلى البلاد الجديدة حيث كولومب المكتشف، وبموجب هذه الأوامر تصنع. أعطه الأوامر يا ألونزو (يأخذ الأوامر من الوزير)
واحذر أن تنقاد إلى الأغراض فأنا واثق بنزاهتك.
فرنسيس :
سأخدم جلالتكم بكل ما أقدر عليه، فمتى تأمرون بسفري؟
الملك :
اذهب الآن فالسفينة على استعداد وبها كل ما يلزم.
فرنسيس :
أستودعكم الله (ويخرج) .
الملك :
أمثل كولومب يتجاسر أن يرفع نظره إلى عرش إسبانيا، هذا العرش الذي ترتد عنه أبصار الملوك كليلة؟! سوف تنال أيها العاتي المتمرد عقاب خيانتك، آه لو أنني أستطيع أن أمد يدي إليك من فوق البحار لأسحقك سحقا! أتطمعك نفسك بالخروج على فردينان ملك إسبانيا؟! لقد صح بك قول الشاعر:
إن الزرازير لما قام قائمها
توهمت أنها صارت شواهينا
وصح بي أيضا قول المثل: «لا تأمن شر من أحسنت إليه!» (تدخل الملكة.)
الملكة :
ما بال مولاي شديد الغضب؟
الملك (بحدة) :
دعينا فأنت أصل الأمر والسبب. (يرخى الستار)
الفصل الرابع
القسم الأول (يمثل الملعب هيئة جزيرة إسبانيولا قرب قصر كريستوف كولومب.)
المشهد الأول (فرنسيس (معتمد الملك) - جنود - جمهور من الإسبان - فرنان (رفيق المعتمد))
فرنسيس :
إخوتي، لقد ملأت آذان إسبانيا أخبار تعاستكم وشقائكم في هذه البلاد الوافرة الثروة الغنية بخصبها ومعادنها. عجبا يحدثون عن هذه الأرض بأن تربتها ذهبية وببقعة منها ما لا يوجد في جميع خزائن الملوك. لقد أصبحتم في هذه الحال:
كالعيس في البيداء يقتلها الظما
والماء فوق ظهورها محمول
فوالله إن مصيركم يستنزف الدموع ويستبكي الصخور، تركتم بلادكم طمعا بالثروة الوافرة فاشتهيتم الكسر التي تملئون بها أجوافكم، فما هذا المصير؟ وكيف تصبرون على الضيم؟ لا شك أنكم جبناء، لقد بلغ مسامع الملك أنينكم الجارح وتذمركم من تصرفات كولومب السيئة؛ فأرسلني إلى هذه الأقطار لأتولى الفحص عما أجراه ويجريه هذا الرجل حتى إذا ثبت عليه كل ما نسب إليه أدبته تأديبا يستحقه كل ظالم ناكر للجميل. اخرج أيها الجندي وأحضر دياكو شقيق كولومب.
رجل :
بلساني ولسان الجالية الإسبانية أرحب بك يا من أتيت لإنقاذنا من مخالب الظلم، وبراثن الاستبداد.
فرنسيس :
وقد بلغني أن كولومب قد شنق ثمانية من إخوتنا الإسبانيول ولم يزل ثمانية في أعماق السجون ينتظرون الساعة الرهيبة، فهذا الأمر أرعد فرائصي، يا لها من فظاعة بربرية! ألأنهم ثاروا عليه يطلبون قوتهم يقضي بشنقهم؟ ما هذه العدالة؟! إن نيرون لم يحلم بهذا الظلم، ولم يخطر لفرعون على بال!
رجل :
قد فعل أكثر من ذلك يا مولاي ولو ...
فرنسيس :
فعل ما فعل وقد أتت الساعة، ساعة الانتقام من البغاة. (يدخل دياكو.)
المشهد الثاني (المذكورون ودياكو كولومب)
فرنسيس :
فباسم الملك فرديناند أخاطبكم فاسمعوا، اقرأ يا فرنان هذا الأمر (يدفعه إليه فيقرؤه) .
فرنان (يقرأ) :
نحن فرديناند ملك إسبانيا قد عهدنا إلى فرنسيس بوفاديليا أمر الفحص عن إجراءات كريستوف كولومب في العالم الجديد، وأمرناه أن يفعل كل ما تطلبه الحكمة ويقضي به العدل.
فرنسيس :
أعرفت الآن من أنا يا دياكو وما هي مهمتي؟ باسم الملك فرديناند آمرك أن تطلق سراح المسجونين لأطلع منهم على بعض الأمور المتعلقة بمهمتي.
دياكو :
إن هذا لا يكون بدون أمر من أخي، إن أخي يتجول الآن في سهول الفاغا، حيث يعمل فيما تطلبه الشروط المحررة بينه وبين الملك، فإذا شئت تكرم بصورة الأمر لأرسله إليه، ولا يبعد أن يحضر في الحال.
فرنسيس :
كأنك لم تعتد بهذا الأمر، فلنشنف آذانك بالأمر الثاني فلعله يخفف من خيلائك، اقرأ يا فرنان.
فرنان (يقرأ) :
نحن فرديناند ملك إسبانيا، نأمر معتمدنا فرنسيس بوفاديليا أن يتولى أحكام الجزيرة إذا قضت بذلك الظروف، وعليه أن يقضي بالعدل بين شعبنا الإسباني في تلك البلاد.
فرنسيس :
ألا تسلم الآن يا دياكو؟ ألا تخرج المسجونين؟!
دياكو :
لا يا حضرة المعتمد، لا أسلم.
فرنسيس :
إذن فاسمع أمرا ثالثا، اقرأ يا فرنان.
فرنان (يقرأ) :
نحن فرديناند ملك إسبانيا نقضي بتسليم مهام الأحكام وكل شيء مختص بالمملكة إلى فرنسيس بوفاديليا.
فرنسيس (إلى دياكو) :
وكيف الآن، ألم يلن حديد عزمك يا دياكو؟ أخرج المسجونين وإلا تلونا على مسامعك الأمر الرابع.
دياكو :
لا أخرجهم ولو قرأت جميع أوامر الدنيا، اقرأهم، أنا الغريق فما خوفي من البلل (على حدة)
أجن الملك يا ترى أم ماذا؟ (إلى فرنسيس)
نحن نعرف أنفسنا حكام هذه البلاد، فما أنت إلا مزور يا فرنسيس! فهيهات أن تؤثر بي أوامرك المزيفة.
فرنسيس :
إذن فاسمع الأمر الرابع، اقرأ يا فرنان.
فرنان (يقرأ) :
نحن فرديناند ملك إسبانيا نقضي على كريستوف وأخويه بدفع المتأخر قبلهم من مرتبات المتوظفين مع ديونهم الشخصية حالا، ونقضي أيضا على كريستوف بطاعة معتمدنا فرنسيس بوفاديليا، والامتثال لكل ما يأمره به.
فرنسيس (إلى دياكو) :
والآن لا تسلم؟
دياكو :
لا أرضى ولو صارت السماء أرضا، لا أريد ولو قطعوا لي حبل الوريد!
فرنسيس :
إذن تسلم بالرغم عنك!
دياكو :
كذبت في وجهك أيها المعتمد الدجال فلا ...
فرنسيس :
أتكذبني؟! ويحك يا قليل الحياء! جنودي، كبلوا هذا اللئيم بالقيود، وأنتم يا جنود كولومب عجلوا بالهجوم على القلعة، كسروا أبواب السجن، أخرجوا إخوانكم المظلومين من بين تلك الجدران السوداء (يخرجون بحماس ويبقى دياكو مقيدا)
وأنتم أيها الناس اشهدوا واشهد أنت يا دياكو أيضا أنني أضع يدي على قصر الأميرال كولومب الخائن وعلى ما فيه، وأنادي على رءوس الأشهاد أنه أصبح قصري بعد اليوم، ولا أمل لكولومب وعائلته بالتولي على هذه البلاد بعد اليوم، فمن له دعوى على كولومب وأخويه فليصدرها وأنا أسمع، خذ أيها الجندي هذا الأمر إلى كولومب وقل له يعجل بالحضور.
الشعب :
فليحي العادل، فليسقط الظالم.
دياكو :
بل فليسقط الخونة الغادرون.
فرنسيس :
اخرس يا لئيم، أخرجوا هذا الوغد واطرحوه في السجن.
دياكو :
ما كنت أحسب أن يمتد بي زمني
حتى أرى دولة الأوغاد والسفل (يخرجونه.)
فرنسيس :
لقد طغوا وتجبروا، وحسبوا أن عين العدل مغمضة لا ترى شرورهم وآثامهم، لقد نال دياكو عقاب تمرده وبقي كولومب، فعند حضوره سنرى، ولكل حادث حديث.
المشهد الثالث (فرنسيس - فرنان - المسجونون - جنود)
فرنان :
علام عولت يا مولاي في مسألة كولومب؟
فرنسيس :
إلى الآن لم أجزم جزما قاطعا، ولكن أقل حكم هو السجن. (يدخل جنديان.)
جندي :
مولاي، قد طرحنا دياكو في السجن، والشعب قد أخرج المسجونين، وكان هزؤهم شديدا بدياكو عندما التقوا به على الطريق، وها هم آتون ورائي.
فرنسيس :
إذن قد أخذوا بثأرهم منه، وسيشتمون كولومب إن شاء الله. (يدخل المسجونون.)
سجين :
اسمح لنا يا سيدي ننطرح على أقدامك ونقبلها.
آخر :
فقد أنقذتنا من العذاب، وأرحتنا من الشقاء.
غيره :
شكرا لك يا نصير العدل وعماد الرحمة.
فرنسيس :
قد فعلت مشيئة ملككم العادل أيها الإخوان، قد سمعت نداء الضمير، وشعرت بالروح أنكم مظلومون؛ ولهذا قد أنقذتكم، وعن قريب ترون كيف أعاقب الظالم المتمرد، فادعو إذن لجلالة الملك بالنصر.
المسجونون :
فليحي الملك، فليعش الملك.
فرنسيس :
لماذا قضى عليكم كولومب بالسجن؟
واحد :
قسما برأس الملك، قبض علينا لأننا طلبنا قبض مرتباتنا، سجننا ليتخلص من مطالبتنا له.
آخر :
ما أمر ذاك السجن يا مولاي! هواؤه بارد نتن والقذارة تملأ غرفه، كأنما صنع للانتقام والحكم بالإعدام.
فرنسيس :
إن قلبي يتفطر من سماع هذه الأحاديث المفجعة. (يدخل خادم.)
جندي :
مولاي، قد أوشك كولومب أن يصل.
فرنسيس :
خذ هذا الأمر إذن وبلغه إياه قبل وصوله، جنودي كونوا على حذر. (يدخل كولومب وبرتلماوس في الباب فيدفع الخادم الأمر إلى كولومب فيقرؤه ثم يقول.)
المشهد الرابع (كولومب - فرنسيس - برتلماوس - مرتين (خادم كولومب))
كولومب :
وهنت قواي، خانتني ركبتاي، ماذا أرى؟ أتكذبني عيوني؟ ماذا أسمع؟ أتصدقني آذاني؟ أهذا توقيع الملك؟ لا أصدق، هذا سحر، هذه طلاسم! الملك يأمر بخضوعي للمعتمد وأنا ملك هذه البلاد، يا خيبة الأمل بعدلك يا فرديناند! آه ما أتعس حظي! أماتت الملكة حتى صدر مثل هذا الأمر؟ حتى اقترف الملك هذا الجرم، أمات ستنجل؟ أتقلبت الأحوال، آه ما أشقاك يا كولومب! أهذا جزاؤك؟ أهذه المكافأة على خدماتي العديدة؟!
أي حجارة مملكة إسبانيا انطقي، أنا كولومب طفت الدنيا، تعرضت للأخطار والأهوال حتى أسست مملكة جديدة تخفق فوقها أعلام إسبانيا، أهذا يكون جزائي؟ تبا لأحكام هذه الدنيا! لا عدل في هذا العالم، قد فعلت ما فعلت لمجدك أيها الإله الأعظم، فمنك وحدك أرجو الجزاء! إن ملوك هذا العالم دون عدلك يا ملك الملوك، أنت ينبوع العدالة يا الله، آه ما أحلى الموت قبل السقوط!
برتلماوس :
أخي تجلد ولا تخف، فأنت ملك هذه البلدان.
كولومب :
لا تاج ولا صولجان ولا ملك بعد الآن (ويسقط على الأرض) .
برتلماوس :
رباه ماذا جرى؟ أخي بحقك أخبرني.
كولومب (برباطة جأش) :
يا من يرد إلي ما فقدت يدي
هيهات ليس يرد أمس إلى الغد
فقدت يدي طيب الحياة وهل ترى
لي مطمع في الغابر المتجدد؟
قد خانني صحبي وأنصاري وما
قد عاد لي بين الورى من منجد
واليوم فردينان أصدر أمره
يقضي بطاعة أمر باغ معتد
قد كنت أحسد سيدا في ملكه
وغدوت أحسد عبد عبد السيد!
رباه ما لي غير حلمك ناصر
في الضيق فلتكمل مشيئة سيدي (ثم ينهض متجلدا ويقول لفرنسيس)
إن مولاي الملك يأمرني بالخضوع لأوامرك يا حضرة المعتمد، أتريد أن تفحص عن تصرفاتي، فهات المدعين فأنا ماثل بين يديك.
فرنسيس :
لا داع ولا مدع، قد عرفت كل شيء يا كولومب.
كولومب :
إذن أنا بين يديك فمر بما تشاء.
فرنسيس :
باسم الملك فردينان أنا فرنسيس بوفاديليا، قد حكمت على كريستوف كولومب وأخويه بالإعدام جزاء خيانتهما.
كولومب :
الإعدام؟! الإعدام جزاء أعمالي؟! هذا خير جزاء!
فرنسيس :
جنودي كبلوا كولومب بالحديد (لا يقدم أحد)
جنودي تقدموا (لا يقدم أحد)
أتخافون هذا الرجل وهو خاضع مسلم؟ جنودي تقدموا (لا يقدم أحد)
أساحر هذا الرجل؟ ما هذا؟! (يتقدم خادم كولومب الخصوصي.)
مرتين (خادم كولومب) :
هاتوا القيود لأكبله (ثم يأخذ القيود ويبدأ بتقييده) .
كولومب :
يوضاس سبقك إلى هذا العمل يا خادمي الأمين.
الجمهور :
يغطون وجوههم، والخادم يقيد كولومب وبرتلماوس.
فرنسيس :
أخرجوا هذين الخائنين إلى السجن حيث أخوهما الثالث، وهناك ينتظرون ساعة الإعدام. (يسدل الستار)
القسم الثاني (يمثل الملعب سجنا مظلما.)
المشهد الخامس (كولومب ودياكو وبرتلماوس في السجن - دياكو وبرتلماوس نائمان)
كريستوف كولومب :
أي قلب نظير قلبي معذب
وعلى نار حزنه يتقلب
أنشب الدهر في فؤادي مخلب
فأراني برق السعادة خلب
ما أمر الحياة! طاب مماتي
أين مجدي والملك والتيجان؟
أين أين البرفير والصولجان؟
أين جندي بل أين فردينان؟
غدروا بي وكلهم قد خانوا
ما أمر الحياة! طاب مماتي
لم يعد لي غير الشقا والسلاسل
وعذاب ما إن له من مماثل
ظلموني وحكمهم غير عادل
فكأني لص أثيم قاتل
ما أمر الحياة! طاب مماتي
بعد ذاك العلا وسكنى القصور
بعد جوب الدنى وخوض البحور
بعدما كنت سيد المعمور
بت في السجن مثل مرء حقير
ما أمر الحياة! طاب مماتي
أيها السجن مدفن الأحياء
رق وارحم تعاسة الأبرياء
يا قيودي ألا تجيبي ندائي
خففي الوطء وارحمي أعضائي
ما أمر الحياة! طاب مماتي
إيه كولومب يا أمير البحار
صاحب التاج فاتح الأقطار
لا يغرنك الزمان حذار
فاصطبر واحتمل قضاء الباري
ما أمر الحياة! طاب مماتي
إن قوما خدمتهم ظلموني
فوق شوك الهوان قد طرحوني
وبهذه القيود قد كبلوني
فلقيت العذاب بين السجون
ما أمر الحياة! طاب مماتي
أأرى بعد وجه «إيزابلا»
مثل بدر بين الدجى يتلالى؟
ملكة لا تخيب الآمالا
آه يا رب قربن المجالا!
ما أمر الحياة! طاب مماتي
يا إلهي، أشفق على أخويا
وبعين الرضا انظرن إلي
وغيوث الصبر اسكبن علي
لم يعد لي من ذلك المجد شيا
ما أمر الحياة! طاب مماتي
إن شخص المنون بات أمامي
آه من جور معشر الحكام!
أعلينا قضيت بالإعدام
يا فرنسيس آه من ظلامي!
ما أمر الحياة! طاب مماتي (دياكو وبرتلماوس يفيقان.) (كولومب يغمى عليه ويسقط على وجهه.)
المشهد السادس (المذكورون - السجان - جوزف (صديق كولومب))
دياكو :
أخي كولومب! كريستوف! استفق، لا تجزع.
كولومب (يرفع رأسه قائلا) :
أنا لا أعرف الجزع يا دياكو، أنا لا أخشى الموت فقد استقبلته قبل الآن وتقت إليه، ولكنه لم يقترب مني، أنا أتألم من الظلم ويذيب قلبي نكران الجميل، آه من نظرة وداع إلى البلاد التي اكتشفتها، فتلك أعظم أمنية يطلبها هذا المظلوم.
برتلماوس :
آه ما أمر الموت! أنقضي غرباء عن الوطن؟! لا يسكب علينا محب دمعة.
كولومب :
سيندبنا التاريخ وتبكينا الإنسانية جمعاء يا أخي وكفانا بذلك تعزية.
دياكو :
التاريخ؟! ومن يصنع التاريخ غير الناس يا أخي؟!
كولومب :
التاريخ يخط بإصبع العدل ومداد النزاهة، وكل تاريخ لم يكن كذلك يداس من الناس، التاريخ ينصف يا أخي والمرء يعطى حقه تحت الثرى، أنا شديد الأمل بالتاريخ، وعلى هذا الأمل لا أخاف من الموت.
برتلماوس :
ولكن أهكذا جزاء الشهامة والإخلاص من الملوك؟!
كولومب :
أتطلب العدل في كل حين، أتطلب الكمال من الناس؟! لا تطمع بذلك يا أخي، ولكن أشفق على الظالم فهو أولى بالشفقة من المظلوم.
السجان :
ثلاثة عقبان من بيضة واحدة.
دياكو :
قد اكتشفت طريقة ننجو بها.
كولومب :
إنك تهينني يا أخي، أنا أهرب؟! كولومب يضع في تاريخه نقطة سوداء، لا، هذا لا يكون، لا تحدث نفسك بهذا فيما بعد.
السجان :
ما أكبر نفس هذا الشيخ، وما أعظم شهامته! (يدخل جوزف.)
كولومب :
لماذا أتيت في جنح الظلام؟ وهل سمح لك السجان؟
جوزف :
أتيت لأعزيك في ضيقتك، وأشدد عزمك. (همسا)
والسجان رشوته بالمال.
كولومب (يهز رأسه) :
لا، بل أتيت لوداعي قبل دنو الأجل قبل ساعة الإعدام، فشكرا لولائك وإخلاصك يا جوزف.
جوزف :
لا تخف فبينك وبين الموت مسافة بعيدة.
كولومب :
نعم، ولكن يد الظالمين تقصر هذه المسافة.
جوزف :
يعز علي أن أراك ساقطا تحت أعباء الظلم والعدوان، يعز على العدالة أن تضحى على مذابح الجور، وأنت قد أنقذت شعبا عظيما من عبودية الهمجية.
كولومب :
ذاك حظ الفضيلة في هذا العالم، ولكن ثق أني إذا تمكنت من العود إلى إسبانيا فهناك تظهر براءتي أمام الملك. رباه قرب تلك الساعة، ولكن هيهات! فسيف الجلاد أقرب (يغص بالدموع) (إلى جوزف)
اخرج فإني أسمع وقع أقدام، آه أتت الساعة (يدخل فيليجو ويخرج جوزف)
أقبل الجلاد، دنا الإعدام.
المشهد السابع (المذكورون - فيليجو)
كولومب :
أإلى الموت يا فيليجو؟
فيليجو :
إلى إسبانيا يا مولاي.
كولومب :
بربك أصدق ما تقول؟ عهدتك صادقا يا فيليجو، قل الحقيقة، فأنا شجاع وقد تعودت مثل هذه المواقف.
فيليجو :
قسما برأس مهابتك يا مولاي سنسافر الآن إلى إسبانيا، السفينة معدة فتهيأ للذهاب.
أخواه :
أصحيح ما يقول؟! رباه!
كولومب
فلننهض :
عليك كل اعتمادي أيها الصمد
ما خاب عبد على مولاه يعتمد (يمشي ويجر قيوده الثقيلة ويتبعه أخواه.)
فيليجو :
مولاي، أتسمح لي بحل هذه القيود؟
كولومب :
لا يا فيليجو، قد تعودت طاعة أولياء أمري، بهذا يأمر معتمد الملك، وأنا خاضع لأمره في السر والعلن.
فيليجو :
ناشدتك الله تسمح لي.
كولومب :
لا أيها الصديق؛ فهذه القيود أعظم وسام نلته جزاء أتعابي، ومن لا يفتخر بالوسام؟! هذه القيود ستحفظ عندي كتذكار عظيم، وستوضع معي في اللحد لترافقني إلى الأبدية، سيروا بنا ولا تضيعوا الزمان، فالوقت قصير والزمان ثمين. (يسدل الستار)
القسم الثالث (في قصر الملك.)
المشهد الثامن (الملك - ستنجل - بويال الكردينال - ألونزو)
الملك (إلى ستنجل) :
لم يرد اليوم شيء من معتمدنا فرنسيس في العالم الجديد.
ستنجل :
لقد ذهب كغراب نوح ولم يعد.
الملك :
إذن قد اتفق الاثنان علي، أم شبت نار الحسد بينهما فأدت إلى حرب طاحنة، ولكن لا؛ فكولومب لا يحب الدم.
بويال :
وإذا كان ذلك فلماذا شنق الثمانية وحمل الإسبان أحمالا ثقيلة؟
الملك :
للضرورة أحكام، ومتى أمثل بنادينا نحاسبه عن كل شيء.
بويال :
ولكن هيهات أن تراه يا مولاي، فهو يدعي الملكية ويطلب الاستقلال.
الملك :
إلى أين يهرب؟ فلأنكلن به ولو كان في عرين الأسد.
بويال (على حدة) :
لقد نلت الغاية. (إلى الملك)
وإذا جند يا مولاي عسكرا من أولئك البرابرة فماذا تصنع؟
الملك :
نملأ تلك البلاد بأساطيلنا وعساكرنا، ونصب عليها كرات المدافع، وإذا قضى الأمر فأنا أتولى قيادة الجيش بنفسي كما توليت قيادة جيش غرناطة.
بويال :
جلالة مولاي قدير على كل شيء متى أراد.
الكردينال :
لا نظن كولومب يعصى هذا العصيان، فهو يطيع الملك عن حب لا عن خوف، ولا إخاله إلا طائعا المعتمد بكل ما يقضي.
ألونزو :
ولكن قطع المخابرات مما يحمل على الريبة وترجيم الظنون.
ستنجل :
قد أقبلت جلالة الملكة. (تدخل الملكة.)
المشهد التاسع (المذكورون - الملكة - أحد البحارة)
الملك :
هل عرفت شيئا عن العالم الجديد عن كولومب؟
الملكة :
لا يا سيدي، وهذه المسألة تقلق خاطري!
الملك :
لقد كنا في غنى عن كل هذا أيتها الملكة لولا ...
الملكة :
نعم أنا كنت السبب، ولم أندم على ما جرى؛ لأن ذلك أعظم فخر للمملكة، وينبوع ثروة غزير.
الملك :
ولكن من الاكتشاف للآن لم يرد علينا ما يستحق الذكر.
ستنجل :
البلاد غنية يا مولاي، فمعادن الذهب فيها لا تحصى.
الملك :
وفي قلب الأرض معادن، ولكن من يكفل استخراجها؟
الملكة :
التعب مشروط في كل عمل يا سيدي.
الملك :
دعونا من هذا الحديث فهو كالأحلام المزعجة، ألم يزل يخشى من ثورة المسلمين ثانية، أم أخلدوا إلى الهدوء والسكون؟
ألونزو :
الحالة الظاهرة مرضية، ولكني أظن كل هذا نارا يغطيها رماد.
حاجب :
مولاي، بالباب بحري يطلب الدخول، وهو قادم من إسبانيولا.
الملك :
من إسبانيولا؟ قل له يدخل. (إلى الحاشية)
لا بد أنه يحمل إلينا الخبر الشافي عن مملكتنا الجديدة. (يدخل.)
البحري :
مولاتي، هذا كتاب أمرني كريستوف كولومب برفعه إلى نادي جلالتك.
الملكة :
هاته (تقرؤه ويظهر على جبينها الكدر) .
الملك :
وماذا يحتوي؟
الملكة :
تفضل واقرأ، ظلموك يا كولومب! (وتطرق برأسها) .
الملك (بعدما يقرأ) :
كريستوف كولومب مقيد بالسلاسل؟ هذا ظلم، هذا عدوان، ما أفظع هذه المعاملة!
الملكة :
هذا بغي أيها الملك، إنها لمعاملة بربرية.
ستنجل :
يا للجور والبهتان!
ألونزو :
هذا عار على إسبانيا.
الكردينال :
ما أقسى قلبك يا فرنسيس!
بويال (على حدة) :
هذا بعض ما يستحقه ذلك الخائن.
الملك :
وهل صعد إلى البر مكبلا؟
البحري :
نعم مولاي، وقد حدثت في المدينة ثورة خواطر، واشمأز الجمهور من هذه المعاملة، وتصاعدت اللعنات إلى الجو.
الملكة :
حسنا فعلوا؛ فهذا ما تأباه النفوس العالية.
الملك (إلى ستنجل) :
اكتب إلى رئيس السفينة، ومره بحل قيود كولومب وأخويه، وأرسل مبلغا من المال لينفق على الملبوس اللائق بمقام كولومب وشقيقيه.
البحري :
مولاي، قد طلب إليه الضابط فيليجو أن يحل قيوده في البحر فأبى؛ لأن ذلك بأمر معتمد جلالتكم وهو لا يعصي لكم أمرا.
الملك :
ما أكرم هذا الرجل! عجل أيها الوزير وأصدر الأوامر كما قلت لك وحرر لكولومب أن يعجل بالحضور، وبين له أسفنا الشديد على هذه المعاملة الجائرة. (يخرج ستنجل ويتبعه البحري.)
المشهد العاشر (المذكورون)
الملكة :
لقد طعن قلبي بسهم حاد من جراء المعاملة الجائرة.
الملك :
سنسكب على قلب كولومب المجروح بلسم التعزية، وكفاه فخرا أننا صرحنا له بأنه مظلوم، وأن ذلك ساءنا أشد الاستياء.
الكردينال :
بارك الله بعدلك وحلمك يا مولاي.
الملك :
ولكن لماذا فعل ذلك فرنسيس، لا ريب أن في الزوايا خبايا.
ألونزو :
سيظهر كل شيء عند حضور كولومب.
الملكة :
وا شوقي إلى مرآه، ووا أسفي على تعاسته!
بويال :
لا تأسفي يا سيدتي، ومن هو هذا الرجل حتى يستحق أسف الملكات؟!
الملكة :
اسكت فأنت عدو لئيم، بل سبب كل هذا، أما فرنسيس الماكر فسنريه.
الملك :
لا تغضبي أيتها الملكة، لا تغضبي، فأنت أكبر من الوعيد، هدئي روعك ومري بما تشائين، عن قريب سيأتي كولومب ولا نخرجه إلا حامدا شاكرا.
الملكة :
شكرا لك يا مولاي. (يدخل جندي.)
المشهد الحادي عشر (الملك - الملكة - كولومب - جندي)
جندي :
مولاي، قد أقبل كريستوف كولومب.
الملك :
فليدخل (يخرج الجندي)
انعمي بالا فقد أقبل ابنك.
الملكة :
ولي الفخر يا مولاي.
يدخل كولومب ويركع أمام الملكة والملك، فتغص عيناها بالدموع، ويظل نحو دقيقة لا يتكلم، فتنهض الملكة عن عرشها، وتأمره بالنهوض ثم تأخذ بيده قائلة:
الملكة :
انهض يا كولومب، انهض أيها المجاهد العظيم. (ينهض.)
الملك :
اجلس عن يميني أيها المخلص الأمين!
كولومب :
لا أجلس قبل أن تظهر براءتي أمام سيدي، فمر لي بالكلام.
الملك :
لقد ظهرت لنا براءتك ولا حاجة إلى البرهان، ولكن تكلم.
كولومب :
ظلمت يا مولاي، ولكن الالتفات الملوكاني العظيم أنساني كل شيء، أنا لم أفعل إلا كل ما به خير المملكة، خاطرت بحياتي، كدت أقتل من رفاقي، كدت أغرق، تحملت الجوع والبرد، لم يبق خطر ولم أقع به، ومع ذلك لم أخرج عن دائرة الواجب، حصلت للمملكة شرفا ومالا وجاها؛ ولذلك يعز علي أن أسلم إلى الحساد القساة ليفعلوا بي ما يشاءون وتشاء أهواؤهم، إذا قضت علي الظروف أن أعامل الشعب بالقسوة فذاك لأن القسوة واجبة، ولولا ذلك لم أثبت في تلك البلاد البربرية، فأين بوفاديليا وأين من شكاني إليك؟ لماذا حكم علي بالإعدام؟ ولماذا لم يحاكمني؟ العدل العدل! لا أطلب غير العدل، فإذا استحققت الموت، فأنا أقبله بكل طوع واختيار.
الملك :
مهلا فقد قضينا بإسقاط بوفاديليا جزاء خيانته، وأنت لا تستحق عندنا غير التجلة والإكرام، وكل ما وعدناك به من الإنعامات، نزيد عليها ما ستراه أيها الأميرال.
كولومب :
مولاي، أعظم مكافأة أطلبها هي إرجاعي إلى مقامي.
الملك :
إن مملكة إسبانيا بل العالم بأسره مدين لك يا كولومب، ولكن رجوعك الآن لا يوافق؛ لأنك تعبت وصحتك لا تساعدك على ذلك.
كولومب :
أنا رجل أحب أن أموت في ساحة الجهاد يا مولاي.
الملك :
ولكن الآن لا يناسب رجوعك إلى ما كنت عليه بسبب القلق السائد في تلك البلاد، ولكن متى نسيت تلك الحوادث تعود إلى رتبتك ومقامك، والآن فقد أمرنا بإرسال أوفاندو حاكما إلى تلك البلاد، وتجهيز ثلاثين سفينة لسفره.
كولومب (على حدة) :
ما أشقاني! يا لتعاسة حظي! ليس بهذا يقضي العدل، (إلى الملك)
ولكن أنسيت يا مولاي أن هذا من حقوقي بموجب الشروط التي وقعتموها جلالتكم في سنتنافه؟ فعاملني بموجب الشروط وأنصف يا جلالة الملك.
الملك :
إن الإنصاف الآن وخيم العاقبة، فعد عن هذا الطلب.
كولومب :
وا خيبة الأمل! (يفكر قليلا)
مولاي، إذن لا أمل بالعود.
الملك :
كلا أيها الأميرال.
كولومب :
يقنعني بهذا اللقب، إذن مر لي ببضع سفن لأكتشف طريقا جديدة أعلل النفس بها بين جزيرة كوبا والأرض التي اكتشفتها.
الملك :
سنأمر لك بذلك، فطب نفسا وقر عينا.
كولومب (على حدة) :
هذي مكافأتي العظمى على تعبي
تبا لكولومب منكودا وأي شقي
إني رضيت بما جاد المليك به
جندي :
من فاته اللحم فليشبع من المرق (يرخى الستار)
الفصل الخامس
القسم الأول (يظهر الملعب بهيئة مقبرة وعلى قبر الملكة إكليل.)
المشهد الأول (جنديان)
أول جندي :
لقد طال غياب جلالة الملك في حديقة المقبرة.
ثاني جندي :
نعم، فمحبته للملكة كانت عظيمة، ولقد كان موتها مجلبة أحزان وكدر، فهو لا تصفو له ساعة ولم يعد يطيق ترداد اسمها على مسامع جلالته.
أول :
ما أجمل هذا الإكليل الذي وضعه اليوم على قبرها! إن مشهد الموت لمؤثر.
ثان :
وأشد تأثيرا منه ركوع ملك عظيم فوق قبر منفردا، إن سلطان الموت لأعظم من كل سلطان.
أول :
دعنا يا أخي من حديث المقابر وأهل القبور.
ثان :
وبماذا تريد أن نتحدث؟
أول :
حدثني عن كولومب، فقد سمعت أن أخاه برتلماوس جاء أمس يطالب بحقوقه، ويسأل جلالة الملك القيام بالعهود.
ثان :
ولكن ألم تعلم أن جلالة الملك طرد برتلماوس، وقال له: إن قيامي بما وعدت يهدم أركان مملكتي، ويحمل الإسبان على الخروج.
أول :
ولم ذلك؟
ثان :
ذلك لأن الأهلين هناك يكرهون جدا كولومب وأخويه.
أول :
ولماذا لم يحضر كولومب بنفسه؟
ثان :
إن كولومب في أشد الخطر، وقد ثقلت عليه وطأة المرض، وهو في مدينة سافيليا، فسفرته الأخيرة إلى الجماييك كانت ويلات ومصائب، وقد قذفته الأنواء إلى العالم الجديد فعامله حاكمه أوفاندو معاملة سيئة، وتكسرت مراكبه ولم يبق معه غير سفينة واحدة، جاء بها إلى سان لوكار ميناء الأندلس، بعدما قاسى أشد الاضطهاد.
أول :
مسكين هذا الرجل فإنه يسير والمصائب جنبا لجنب!
ثان :
أتظن الملك يجيب طلبه؟
أول :
لا، لا، هذا لا يكون.
ثان :
إذن خرج برتلماوس غاضبا ساخطا.
أول :
وسيعود كولومب أيضا مثله، فقد بلغنا أنه بعد شفائه سيحضر لقيام الدعوى، ويطالب بحقوقه رسميا.
ثان :
ومن يطالب؟ أيكون الملك المحاكم والحكم ويأمل كولومب بنجاح دعواه؟! (يهز برأسه)
لا تعاند من إذا قال فعل يا أخي.
أول :
مسكين كولومب! لقد كانت الملكة تعضده ولكنها ماتت، وبموتها موت كل آمال كولومب.
ثان :
أبلغه موت الملكة يا ترى؟
أول :
لا ريب، فالملكة ليست برجل خامل الذكر، حتى لا يشيع خبر موتها.
ثان :
أصبت فيما تقول، ولكن لا بد أن يحضر.
أول :
إذا لم يمت، أنسيت أنك قلت لي إنه مريض.
ثان :
أنا أنسى، فالكذاب يلزم أن يكون قوي الذاكرة، وقد مارسنا هذه الصنعة في قصر مولانا الملك؛ لأن الظروف تقضي علينا بالكذب غالبا، والملوك لا ترضيهم الحقيقة كل حين.
أول :
دع هذه المجون، أنسيت أنا في مقام الجد؟
ثان :
خل السياسة لأصحابها، فإنها تشغل الفكر ولا فائدة نجتنيها منها، فالمجون أحرى بنا وأولى.
أول :
مهلا، اجلس الجلوس العسكري، أسمع وقع أقدام، أظن الملك مقبلا. (يجلس الجنديان على السلاح.)
المشهد الثاني (كولومب - الجنديان)
ثان :
لا، هذا كولومب المسكين. (يدخل كولومب ويرتمي على القبر.)
كولومب :
هنا على هذا الضريح على قبر الملكة إيزابل يجب أن تموت يا كولومب، على هذا اللحد يجب أن تسكب الدموع، وعلى أحد جانبيه أن ترقد رقادا أبديا جزاء معرفة الجميل، شلت يمينك أيها الموت، كيف قوضت أركان ذلك الهيكل الشريف رمز العفاف والطهارة؟! آه ما أقوى شوكتك! فإنك لا تخاف العروش ولا تهاب الجنود! أصم أبكم لا تشفق ولا ترحم، أيها القبر، انطق، تكلم، خبرني عن فناء هذه الدنيا، وحدثني كيف تعامل الملوك؟ آه إنه لا يجيب!
إيزابل سيدتي، أجيبي عبدك الواقف ينتظر الجواب، ما هذا السكوت؟ عهدتك لا تسكتين عن جوابي! قد كدت ترهنين تاجك حبا بي، أتبخلين علي بكلمة في هذا الموقف الأخير، إيزابل أنا راكع على الحصى فأنهضيني كما أنهضتني الأمس عن البسط الحريرية، أين تلك اليد الناعمة؟ آه قد أكلها الدود! (يغص بالبكاء)
تكلمي يا مليكتي، عهدتك طليقة اللسان، آه أخرسها الموت! يا ملكة كستيليا نظرة واحدة إلى كولومب، نظرة واحدة تحييني يا إيزابل، قومي انظري ظلم فردينان.
أول :
ويحه، اسمع ما يقول! (يشير الثاني بالسكوت.)
كولومب :
قومي انظري كيف يخلف الملوك الوعود! انهضي وانتقمي بعدلك من الظلم، وأنقذي كولومب من مخالب المستبدين ... ما تراني أضع على قبرك! أإكليلا جميلا؟ أتمثالا من الذهب الذي اغتنمناه من العالم الجديد؟ وا أسفاه لا أملك شيئا من ذلك، ولكن بقي لي واحد وهو هذا الصليب الذي رافقني في كل أسفاري، فها أنا أضعه تذكارا على قبرك ليؤنسك في وحشة الليل، فاقبليه مني يا ولية نعمتي، أيها الضريح، أشفق عليها فقد كانت مصدر الشفقة والرحمة، ويا ملائكة السماء احرسي جثمانها؛ فقد كانت ملاكا بصورة إنسان، لقد عاد كولومب يا إيزابل فقومي بحقك وانظريه، ولكن هيهات! (نشيد):
سلام على قبر به الفضل والتقى
سلام على مثوى الطهارة والمجد
سلام على لحد به العدل نائم
فيا ليتني قد كنت في ذلك اللحد
سلام على شمس المكارم والعلى
فلما توارت غاب مع نورها مجدي
سلام على جيد هوى فوقه الثرى
وقد كان يشكو أمس من حملة العقد
سلام على عرش هوى بعد فقدها
وكان وطيد الركن من قبل ذا الفقد
سلام على كولومب من بعد أمه
فيا ليتني قد غبت قبلك في لحدي
سلام على الدنيا الجديدة بعدها
سلام على الدنيا سلام على الهند
فلا أمل أرجوه من بعد فقدها
وهل يرتجى الإصلاح من فاقد الرشد؟ «إيزابل» رقي وارحمي ضعف هائم
أسيدتي رفقا وعطفا على العبد! «إيزابل» فردينان زوجك ظالم
فقومي انظريه اليوم يخلف بالوعد «إيزابل» فردينان خان عهوده
وويلاه من ملك غدا ناكث العهد!
مليكة قلبي، إن بعدك قاتلي
فيا رب صبرني على لوعة البعد!
ترى نلتقي من بعد بعد وجفوة
ترى نلتقي من بعد هجر ومن بعد؟
وداعا إلى حين وإنا سنلتقي
على رغم أنف الدهر في جنة الخلد
والآن فاسمحي لي أن أقبل ثرى ضريحك قبلة الوداع، على أمل اللقاء في عالم الأبدية. (يظهر الملك قادما من وراء القبر.)
المشهد الثالث (الملك - كولومب - الجنديان)
الملك :
ما هذا النواح؟ ما هذا العويل؟ ومن دخل المقبرة يا أوفاندو؟
أول جندي :
كريستوف كولومب يبكي على قبر الملكة.
الملك :
أجاء يزعجها في مماتها كما أزعجها في حياتها؟ إن مطاليبه كثيرة، فما جاء يطلب؟ آه من هذه المطاليب!
كولومب :
أطلب العدل والإنصاف أيها المولى.
الملك :
وممن تريد أن ننصفك يا كولومب؟
كولومب :
من الملك فرديناند.
الملك :
وماذا تطلب منه؟
كولومب :
القيام بالعهود وإعطاء كل ذي حق حقه.
الملك :
قل أي حق لك؟
كولومب :
لا إخالك تجهل، وهل تنكر إمضاك؟
الملك :
يريد أن يعاملنا قانونيا، على رسلك أيها الرجل.
كولومب :
واعدل أيها الملك العظيم.
الملك :
أنا عادل ولكن عين الطمع حديدة البصر.
كولومب :
لقد أرسلت أخي برتلماوس وطردتموه فأتيت بنفسي لأطلب حقي فماذا تجيب يا مولاي؟
الملك :
نجيبك كما أجبنا أخاك، أنا هو المملكة، ولنا أن نفعل ما نشاء.
كولومب :
ليس على الظالم من حرج (على حدة)
صرح، لم أفهم شيئا.
الملك :
لا حق لك علينا، وإذا جدنا عليك بشيء فذلك من حلمنا.
كولومب :
أطلب عدلا لا رحمة، اذكر وعودك أيها الملك شفاها وخطا، اذكر هذه الشروط (ويظهرها)
إن التاريخ يحكم عليك بها.
الملك :
أنا في مأمن حكومة التاريخ، إن حكمها لي لا علي.
كولومب :
التاريخ لا يرتشي، فرديناند، أستحلفك بهذا الضريح، أستحلفك بعظام إيزابلا، أستحلفك بهذه الراقدة رقادا هادئا، أنصفني.
الملك (يغطي وجهه بيديه) :
لا توقظها أيها الرجل، لا تزعج عظامها.
كولومب :
إن روحها تطل علينا من فراديس الجنان، فلا تدعها تغضب.
الملك :
لا تلفظ اسمها فيما بعد، لقد قدتها إلى القبر بمطاليبك المزعجة، فلا تلحقها إلى الأبدية.
كولومب :
مظالمك قادتها إلى الموت! (جندي يستل سيفا ليضرب به كولومب .)
الملك :
احذر أيها الجندي، مكانك، أليس من العار أن ننتقم من المجانين؟
كولومب :
مجنون لأني أرجو عدلك؟
الملك :
اذهب أيها الرجل، اذهب أنا أسامحك، وإن كنت قد أهنت الملوك.
كولومب :
أيسامح الظالم المظلوم؟! هذا أمر غريب، أنا أسامحك أيها الملك؛ لأنني أحس بدنو الأجل، أسامحك لأنني سأغادر هذا العالم، ومن يترك هذا العالم يصفح عن كل آثامه.
الملك :
إذن لماذا تطالب بهذه الحدة والعنف؟
كولومب :
أطالب لئلا يقال مات كولومب ولم ينصفه الملك، أحاول أن أمحو بهذا الطلب نقطة سوداء في تاريخ حياتك، ولكن يظهر أنك لا تريد.
الملك :
لا، لا أريد (يهم بالخروج) .
كولومب :
كلمة واحدة يا فردينان.
الملك :
لا كلمة ولا كلمتان. (يخرج الجميع إلا كولومب.)
المشهد الرابع
كولومب (وحده) :
هذا جزاء «سنمار» ظفرت به
من المليك فأين العدل يا بشر؟!
سيأخذ الله ثأري وهو لي عضد
ومن عدالته يا ويل من غدروا!
عدلا ملوك الورى فالله يرمقكم
عن عرشه وهو للمظلوم ينتصر
لا تجزعوا يا بني الدنيا لمظلمة
جاء الملوك بها يوما بل اصطبروا
لم يرشفونا كئوس الظلم مترعة
إلا وفي كأس ذاك الظلم قد سكروا
لكم بما ذقته يا إخوتي مثل
الله أكبر وهو الفوز والوطر
آه من الجور! آه من الظلم! من لي بأن تكوني ناظرة يا إيزابلا شقاء كولومب، يا ليتك بقيت حية لتشاهدي آخر مشهد من رواية حياتي المحزنة، آه إني أحس بارتخاء في مفاصلي، ستعاودني نوبة المرض، إني أشعر بدنو الأجل، بقرب الاجتماع بالملكة إيزابل بين الملأ الأعلى، حيث الحق والنور، حيث العدل والرحمة، فهناك لا ظلم ولا خيانة ولا غدر، آه من ناس هذا العالم فأكثرهم خونة ناكرو الجميل ... ما هذا الضعف ما هذا الدوار؟! ساعدني يا الله لأصل إلى فراشي ولا أحتاج إلى أحد ينقلني إليه، فأنا مسكين لا نصير لي.
من لي بأن أراك يا ولدي المحبوب؛ لأودعك وأوصيك لتخط على قبري مات مظلوما، قرب الله الساعة التي أقول بها على فراش الموت: سامحك الله يا فردينان، واغفر يا رب لمن أساء وأخطأ إلي. (ستار)
القسم الثاني (يمثل الملعب غرفة نوم والملك راقد في سريره.)
المشهد الخامس (الملك - الأشباح)
الشبح :
فردينان، فردينان، انهض.
فردينان (يتحرك في فراشه بين النائم والمستيقظ) :
ما أطول الليل!
الشبح :
نعم، ليل الظالمين طويل، استفق يا فردينان.
فردينان :
رباه! أسمع صوتا، من يجسر على إقلاق الملك؟!
الشبح :
الحقيقة فوق كل ملك، العدالة أكبر من كل سلطان، استيقظ يا فردينان.
فردينان :
تبددي أيتها الأحلام، تفرقي أيتها التصورات المزعجة.
الشبح :
فردينان، ويلك من يوم الحساب! فردينان، أنت ظالم!
فردينان :
من هو هذا الوقح؟
الشبح :
هذا أنا يا ظالم.
فردينان :
ماذا أرى؟ ماذا أنظر؟ ما هذا الشبح؟ جنودي!
الشبح :
اسمع لأناقشك الحساب، فأنا لست من هذا العالم، أنا روح، وهيهات أن تقوى الجبلة الترابية على الأرواح!
فردينان (بصوت مرتجف) :
ماذا تريد؟ قل ولا تعذبني.
الشبح :
العدل، القيام بالعهود.
الشبحان :
العدل، العدل.
فردينان :
إنه يخيفني، عجبا! أنا فردينان لا أخاف الجيوش الجرارة، كيف أخاف الظل؟ أين أنت أيها السيف؟ (يمد يده إلى سيفه) .
الشبح :
خل عنك السيف، فلست من لحم ودم. (يقع السيف من يده ويرتجف.)
فردينان :
قل من أنت؟ ولا تطل عذابي أيها الخيال، قل ما تريد.
الشبح :
أريد إنصاف كولومب، أريد القيام بالعهود.
فردينان :
يا رب، بقيت الأرواح لم تطالب بحقوقه، وها قد أتت الآن فما أصنع؟ قل من أنت أيها الشبح؟
الشبح :
هذا لا يعنيك، فقم بعهودك يا رجل.
فردينان :
ناشدتك الله، قل من أنت أيها الخيال وأنا لا أخيب لك طلبا.
الشبح :
أنا ملكة كستيليا، أنا روح إيزابل، ثم يتوارى الشبح ويتبعه الشبحان.
فردينان (ينهض الملك مذعورا وينير المصباح ويضرب الجرس) :
ما هذا الليل المزعج؟ يا الله! (يدخل أوفاندو)
قل للوزراء والحاشية أن يعجلوا بالحضور.
المشهد السادس (الملك - ستنجل - ألونزو - الكردينال - وزير - جندي)
فردينان :
يا رب ألا يفارقني ظل كولومب أين سرت؟! أأرسل الله هذا الرجل حتى يعذبني ويكدر صفاء عيشي؟! ما أنكد حظي! أجل، لا راحة لي إلا بإنصاف الرجل، فلننصفه ونرتاح من كل هذا العذاب (يدخل الوزراء)
لقد دعوتكم لنتباحث في أمر كولومب.
ستنجل :
ماذا جرى؟ خير إن شاء الله.
فردينان :
ظهرت لي في هذا الليل روح إيزابل تقضي بإنصاف كولومب.
ألونزو :
ما هذه الأوهام يا مولاي؟!
فردينان :
ويحك قد رأيتها بأم عيني وأرعدت فرائصي بكلامها الجريء ومنظرها الهائل، والآن عزمت على إعطاء الرجل حقه.
ألونزو :
أنسيت يا مولاي تقريعه لك وغضبك عليه؟ أيليق بالملوك أن تعود عن أقوالها؟!
فردينان :
ويلاه! ما هذه الحيرة؟!
الكردينال :
وأي حيرة يا مولاي؟
فردينان :
من هذا الرجل.
الكردينال :
لا داعي للحيرة، ولك أن تسمع نداء الضمير.
فردينان :
نعم يا نيافة الكردينال، سنعيد الرجل إلى مقامه، وإذا عاد أحد العامة عن غلطه يعدون له ذلك فخرا عظيما، فكيف لو عاد الملك؟ لنعلم الشعب أمثولة جديدة بعودنا عن خطئنا.
الكردينال :
بارك الله فيك يا مولاي، إنك بذلك ترضي الله.
فردينان :
اخرج أيها الحاجب، وعجل بحضور كولومب إلى هذا النادي.
ألونزو :
هذا لا يليق يا مولاي.
فردينان :
عجل أيها الحاجب، عجل فلا مرد لأوامرنا. (يخرج الحاجب.)
المشهد السابع (المذكورون - دياكو كولومب)
فردينان :
يا نيافة الكردينال، أيها الوزراء والأمراء:
إذا فعلنا هذا الأمر فإنما نحن مشيئة الله، وننتصر للعدل، ونمحو الظلم الذي فعلناه عن غير عمد. إن الملوك يقترفون المظالم أحيانا وهم يحسبون أنهم يفعلون العدل ويلبون أوامر الشريعة، فمثل هؤلاء يجب ألا نسميهم ظالمين؛ لأنهم لم يبنوا حكمهم إلا على ما اتصل بهم، فاعذروني إذا كنت ظلمت كولومب، وها أنا أطلب المغفرة من التاريخ. (يدخل الحاجب.)
الحاجب :
مولاي، صان الله مملكة إسبانيا من كل داهية، وحفظ جلالة ملكها الأعظم (ويقدم الرسالة) .
فردينان (بعدما يقرأ الرسالة) :
أنعى إليكم أيها الوزراء كريستوف كولومب المكتشف العظيم، مات ولكن آثاره لم تمت، قضى ويا لهف نفسي عليه! فقد عاش عظيما ومات عظيما، مات مكسور الخاطر وليته عاش إلى هذه الساعة لكان فارق الحياة قرير العين عزيزا كريما، ولكن لله في خلقه شئون، سر يا كولومب بأمان إلى العرش السموي، واصفح عن سيئات هذا العرش الترابي؛ لأنه لم ينصفك لأنك مت مظلوما، وأنت يا روحه الطاهرة فسيري على أجنحة الملائكة، وارقدي في حضن إبراهيم في عالم الحق والنور، في عالم الحياة الأبدية، ترثيك يا كولومب مآثرك الغراء وتبكيك أياديك البيضاء، وتنوح عليك الإنسانية جمعاء، فقد كنت لها أعظم نصير، تندبك البلدان التي افتتحتها، ويرثيك العالم الجديد الذي أطلعت في سمائه بدور المدنية وشموس الدين الساطعة، تؤبنك إسبانيا وتقر فوق قبرك بفضلك العظيم، فقد خلدت لها في التاريخ ذكرا لا يمحى، يندبك فردينان ملك إسبانيا ويكفر عن إثمه إليك بهذه الدموع، لقد مت حانقا علي يا كولومب ولا يبعد أن تكون أمطرت علي صواعق اللعنات، ولكن لا، فأنت مسيحي حقيقي تصفح عمن أساء إليك، فسر بسلام إلى ملكوت الله حيث تجتمع على مائدة الأبرار والصديقين بمليكتك إيزابل.
ألونزو :
مولاي، ما هذا الانفعال؟!
فردينان :
اسكت فالرجل يستحق أعظم من هذا، والآن بما تراني أكفر عن ذنبي يا ترى؟ (يفتكر ثم يقول)
الآن قد اهتديت إلى طريقة أمحو بها ما سبق من الذنوب، سأقيم ابن كولومب مقام أبيه كما آليت على نفسي في الشروط. (جندي من الخارج يدخل.)
الجندي :
مولاي، على الباب رجل يلبس الحداد يطلب المثول بناديك.
فردينان :
قل له يدخل، من هو هذا يا ترى؟ (يلتفت الملك فيراه ويقول له):
تعال يا ابن الأميرال، تعال يا ابن كولومب الشهيد، فقد أرسلتك العناية الإلهية في أوانك، نحن في حاجة إليك.
دياكو :
وأي حاجة يا مولاي؟!
فردينان :
حاجة عظمى، وهي أن نقيمك خلفا لأبيك.
دياكو :
شكرا لك يا مولاي (يركع) .
فردينان :
انهض فأنت منذ الآن حاكم البلاد التي اكتشفها أبوك، ولك كل ما عاهدناه عليه، لا تشكرني فأنا أكفر عما أخطأت به ضد أبيك، وها أنا أسأل روحه في السماء أن تغفر لي، وأنتم أيها الوزراء فجهزوا المعدات لسفر هذا الشاب وقولوا: لتحي عظام كولومب.
الجميع :
فلتحي عظام كولومب.
الملك :
وأنا أقول قولا ستردده بعدي الأجيال والأعصار:
لو كنت أقدر أن أعاقب أبحرا
قاسى بها «كولمبس» الأهوالا
لنزعت منها درها وجعلته
فوق الضريح لمجده تمثالا
Bilinmeyen sayfa