إن لنا على هذه الأرض حياة واحدة علم أهل العلم أنها حقيقة مسرعة بين أوهام، فهي ما تبرح تجاهد كل شيء، ولا تثبت أطول من مدة جهادها إلى أمد غايته أرذل العمر،
14
وعرف أهل الجهل أنها تتقدم إلى الموت، وأن الموت يتقدم إليها، فهما لا بد ملتقيان، لا العلم ولا الجهل يرتاب أو يشك في الموت، ولا الفقر ولا الغنى، ولا الصحة ولا المرض، ولا شيء من خصائص الأحياء؛ لأنه ليس على الأرض حي قديم! ولكن العالم والجاهل، والفقير والغني، والصحيح والمريض؛ كل هؤلاء يخافون الموت ويحرصون على الحياة إلا قليلا منهم؛ فليتهم علموا أن النفس روحية، وأنها تألم لهذا الخوف ولا تقار عليه؛ إذ هي لا تعرف الموت لأنها خالدة، ولكنها تعرف الألم لأنها في غير دار خلود، ومعنى ذلك أن الإنسان يخاف الموت، فيتصل هذا الخوف بالنفس فترده إلى حوادث الحياة، فتخيفه هذه الحوادث، فيذله هذا الخوف، ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت.
15
ونحن إنما ننصب الحبالة
16
ثم نرتبك فيها ونضطرب، فكأننا لا نصيد إلا من أنفسنا؛ إذ لسنا نجهل أن للنفس حظا ليس للجسد، وأن الفارس لا يربط في الإصطبل وإن كان جواده فيه، غير أننا مع ذلك نحاول أن نغذو النفس من اللذة الجسمية، وأن نعلف الفرس والفارس من طعام واحد! فهذا التناقض الذي نسيء به إلى أنفسنا هو الذي يجعل النفس خائفة من الحياة؛ إذ لا تجد فيها غير ألم التعبد للأهواء والشهوات، ولا تصيب من الحياة إلا ما تستذم
17
به الحياة إليها، فلا يكون من ذلك إلا أن تسيء إلينا هذه النفوس بتناقض آخر، فربما كان الرجل في النعمة السابغة قد أينعت خضراؤها، ثم هو لا يشعر منها إلا ما يشعر من المصيبة الماحقة، ومتى فزعت النفس من الحياة كما عرفت فلا هناءة على ذلك الفزع، ولا تكون الحياة من ثم إلا موتا مستمرا أو خوفا من الموت لا ينقطع.
18
Bilinmeyen sayfa