انظر بعيشك ما عسى أن تكون آلام الفقر إلا صورا من اضطراب النفوس؛ إذ ينصرف بعضها عن بعض وذلك أيسر البغض، أو ينازع بعضها بعضا وذلك سبب البغض، أو يكيد بعضها لبعض وذلك عين البغض.
من أجل هذا كان البخيل مادة من مواد الفقر، وإن كان هو في ذات نفسه معنى من معاني الغنى.
ولقد يصاب الناس بألوان من العذاب ، ويمتحنون بضروب من المكروه، وترسل عليهم الآفات تختلجهم من ههنا وههنا؛ غير أنهم يجدون لكل مصيبة محلا من الصبر يمسكونها فيه، فتجيء وحدها وتذهب وحدها، وإنما هي الغمرات ثم ينجلين؛ فإن من رحمة الله أن لا يزال الليل والنهار يتراكضان بيننا وبين النسيان كما يتراكض البريد، فيذهبان بشكوى المصيبة ويرجعان من النسيان بالسلوى أو العزاء أو نحو ذلك. ولكن الطائفة من الناس إذا ابتليت بالغني البخيل ابتليت منه بالمصيبة التي تأكل المصائب؛ إذ يرون فيه أشياء من معاني القحط والجدب والوباء والفقر والعداوة والبغضاء، وطرفا من كل جائحة، ومعنى من كل آفة، بحيث تضيق به جوانب الصبر على سعتها وانفساحها، وتنزوي دونه فتختلط كل مصيبة بكل مصيبة، وليس يأتي على هذا الإنسان شيء
23
كتداخل مصائبه بعضها في بعض، فإن ذلك يمحق الصبر، ويذهب بالسكينة، ويفسد الرأي، ويفتق على العزم من كل ناحية فتقا، ويترك المرء كأنه مجنون بشيء أكبر من الجنون.
فالغني البخيل من ذلك كله، بل هو ذلك كله!
هوامش
غرض الكتاب
وأما بعد، فإني قد وضعت هذه الأوراق وكتبت فيها عن الفقر وما هو من باب الفقر، لا لمحوه ولكن للصبر عليه، ولا من أجل البحث فيه ولكن للعزاء عنه. ثم كتبت عن الغنى وما إليه، لا رغبة في إفساده على أهله، ولكن لإصلاح ما يفهم منه غير أهله، وأدرت الكلام في كل ذلك على الوجه الذي يراه الشاعر في ضحك الطبيعة ورقتها، دون الوجه الذي يعرفه الفيلسوف في عبوس المادة وجفائها، ونحوت به نسق العقل في بث خواطره للنفس؛ لأني أريد به النفس في مستقرها، وجئت به من مبرق الصبح لا من غياهب الليل، وأطلعته من أفق الإيمان لا من قرارة الشك، وأردت به تفسير شيء من حكمة الله في شيء من أغلاط الناس، فإن من ضرائب اللؤم وغرائز السوء في هذا الإنسان أنه ما ينفك يحمل نعم الله ورحمته، وما لا حد له من العناية الإلهية، ولكن كما يحمل الطاووس ألوانه وتحاسينه وزينته البديعة على ساقين مجرودتين في الغاية من القبح كأنهما من غراب!
ولست أدعي أن كتابي هذا يسمن من شبع أو يغني من جوع؛ فإن هذه العلوم كلها ومجموعة العقول البشرية وتاريخ ما شاء الله من عمران الأرض، لا يتهيأ للإنسان أن يعجنها ولو أفرغت عليها السماء كل ما في سحائبها، ولا يأتي له أن يخبز منها رغيفا واحدا ولو حملته الملائكة ليضعه بيده في عين الشمس، ولا يخرج منها غذاء المعدة إلا إذا خرج الحبر الأسود من عرق الزنخ؛ ولكني أرمي بالكتاب إلى عزة النفس، وإلى الثقة بالله، وإلى الصبر على الفضيلة؛ فإن الناس من الشر بحيث لا يعان على الفضائل إلا من صبر لها صبر المبتلى، ثم إلى مغالبة الوهم التاريخي القديم الذي نشأ منه معنى الغنى كما نشأ منه معنى الفقر، وأنت لو انتزعت الأنبياء والحكماء وأهل العزائم من مجموع هذا الخلق، لرأيت التاريخ الإنساني كله في ذينك المعنيين بابا واحدا من الخطأ.
Bilinmeyen sayfa