ثم كانت عداوة ابني آدم إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، وفتحت الصفحة الأولى من تاريخ الدم الإنساني في الأرض؛ فكان البغض أول سطورها، وجاء من بعده الفقر، وخطت بعد ذلك سطور وسطور كلها يلتقي إلى هذين المعنيين؛ يومئذ عرف هذا الفقر، وأصبح يتلبس في كل إنسان بمعنى يلائمه؛ إذ لم تعد الحياة هي الحياة، بل الوسائل التي يدفع بها الموت، ومنها الموت نفسه؛ فصار البغض وسيلة، والحسد وسيلة، والطمع وسيلة، والقتل وسيلة، وكل ذلك لأن الإنسان فقير بمعنى من معاني الفقر، وما البغض إلا فقر من المحبة، ولا الحسد إلا فقر من الثقة، ولا الطمع إلا فقر من العقل.
وإن أردت العجب فاعجب لهذه الطباع الإنسانية؛ إذ يحاول كل امرئ أن لا يفهم من معنى الفقر إلا ما يمكن أن يجريه على الناس كافة، حتى لا يكون هو وحده المبتلى في نفسه الممتحن في سعادته، وحتى يجد مادة العزاء من حيث التمسها؛ فالفقر على ذلك هو العوز إلى المال، وهذه بلية عليها يحيا الناس وعليها يموتون، ولقد كان الفقر قبل أن يكون المال، ثم وجد المال فما منع أن يلقى أهله الأغنياء من هموم الدنيا وبأساء الحياة ما لو استطاعوا لافتدوا من عذابه بكل ما في أيديهم، ولو أن لهم طلاع الأرض
12
ذهبا، ووجد المال فما منع الفقراء أن يخولهم الله من رحمته التي لا تفارقهم طرفة عين ما لا يحبون أن لهم به من الدنيا ولا الدنيا كلها.
13
دخل بعض الفقراء
14
على الرشيد العباسي وتاجه يومئذ سبيكة العصر الذهبي في تاريخ الإسلام، والإسلام يومئذ ترتجف به دفتا الشرق والغرب، وكأن الشمس والقمر يتلألآن على أرجاء ملكه ذهبا وفضة،
15
وكانت في يد الرشيد كأس ماء وقد رفعها إلى فمه، فلما أبصر ذلك الملك الذي لا يملكه شيء، أمسك ثم قال له: عظني. قال: أرأيت يا أمير المؤمنين، لو منعت عنك هذه الشربة التي في يدك، أفكنت تطلبها بكل ملكك؟ قال: نعم. قال : أفرأيت لو شربتها ثم امتنع خروجها منك، أكنت تفتدي من عاقبة ذلك بكل ملكك؟ قال: نعم. قال الرجل الصالح: فانظر يا أمير المؤمنين، ما قيمة ملك لا يساوي عند قدر الله شربة ولا ... ولا بولة ...!
Bilinmeyen sayfa