والفضائل قائمة في الدنيا بالصغار والفقراء، ولكن من نكد الدنيا أن عنوانها هم الكبراء وحدهم؛ على أن أكثر هؤلاء لا تكون منهم في كل أمة إلا الطبقة المنحطة انحطاطا عاليا. فالناس مخطئون فيما اعتبروا به معنى الفقر؛ إذ حاصروه من جهاته الأرضية وقد ترامت، وضيقوا من حدوده السماوية وقد تراحبت،
7
وإنما هو طبقة معنوية فوق الأرض، وإنما هو أسلوب خاص في نظام الكون، ولا سبيل إلى التنقيح والتحرير في أساليب الله نصرفها عن معانيها، أو نتكذب في تأويلها، أو نرد عليها ما ليس منها، وإنما الشأن كله أن نحسن الفهم عن أوضاع القدرة الإلهية بمقدار ما نستبين فيها من الحكمة؛ فإن في ذلك صلاح أنفسنا، وما جعل الله سبيل المصلحة والمفسدة إلا من أفهامنا، حتى إن الأدمغة لتعد من أكبر العلل في أمراض التاريخ الإنساني، وربما كانت العلة الكبرى في طائفة من الطوائف صورة أثرية لأكبر رأس فيها.
فإن نحن أسأنا الفهم، أو ذهبنا به المذاهب، أو أفسدنا من تأويل حكمة الله أو غيرنا أو بدلنا؛ فذلك واقع بنا لا يعدونا، وما يستولي على الكون من جهلنا اضطراب، ولا تلحق به آفة في وضع من أوضاعه، وإن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون.
وما دام في هذه الدنيا شيء من المادة أو المعاني يحتاج إليه، أو يتوهم أحد أنه محتاج إليه؛ ففي الدنيا الفقر.
وما دام للناس رغبة يتنافسون فيها أو يرفعون من شأنها بالمنافسة؛ فثم الحسد.
وما دام في الغيب أيام وآمال، وفي الدنيا فقر وحسد؛ فهناك الطمع.
وما دام لهؤلاء الناس من أشيائهم ما تحملهم أخلاقهم على الضن به، أو يكون سبيله من الطبيعة أن يضن به؛ وفيهم الفقر والحسد والطمع؛ فثم خبء السوء والرذيلة الماحقة، وثم البخل، وإن البخل وحده لفي حاجة إلى نبي يصلحه!
هذه أخلاق أعرقت فيها الإنسانية، ولا بد منها ومن فروعها حتى يظل الناس ناسا لا ملائكة ولا شياطين؛ فإن من عجيب حكمة الله أنه لا صلاح للعالم إلا بالفساد الذي فيه.
بيد أن في كل شر جهة من الخير أو جهة تتصل بالخير، فإذا صلح فهمه صلح هو أيضا، أو كأنه صلح لظهور حكمته والوقوف به عند حد الشر الطبيعي، وهو الشر الذي لا بد منه.
Bilinmeyen sayfa