135

Masakinler Kitabı

كتاب المساكين

Türler

19

وهو مصلوب يعاني غصة الموت: ما التصوف؟ فقال لسائله: أهونه ما ترى. فهذا رجل يموت في سبيل حقيقة تقتله بغموضها السماوي العجيب؛ وعلى أنها قد دقت المسامير في أطرافه، وجمعت لموته آلام الحياة كلها، وأنبتت في كبده من وخزات الجوع شجرة من الشوك، وأطلقت في عروقه من لذعات العطش لهيبا من النار، وتركته على عوده ممدودا تتساقط نفسه كما ينشر الثوب الذي بلي وانسحق، فهو يتمزق من كل نواحيه؛ على هذا البلاء كله لم تتغير الحقيقة في رأي الرجل، ولا فسد موضعها في نفسه، ولا رأى ما يكرهه الناس من الألم مكروها في ذاته فيميل عنه، ولا ما يحبونه من اللذة محبوبا فيميل إليه، ولا تسحب قلبه حركة واحدة في السخط على الحكمة الإلهية فانتقصها برأي أو اغتمز فيها بكلمة، بل نظر نظرة الحكيم من وراء الحد الإنساني المنتهي فيه، إلى ما يبدأ عنده الحد الإلهي الذي لا ينتهي، ورجع آخره إلى أوله، فكأنما يقول بلسان حكمته فيما نزل به: اللهم إنك بدأتني طفلا غرا، جعله فقدان العقل لا يملك مع أحد إلا صياحه، فخذني إليك طفلا عاقلا جعله العقل لا يملك مع أحد ولا صياحه.

واذكر الطفل يا بني فرب معضلة من أمور هذه الدنيا يحار الناس في آخرها، وهي محلولة من أولها، وما هؤلاء الأطفال إلا الأساتذة الذين يعلموننا وهم يتعلمون منا، غير أننا لا نأخذ عنهم فلا نصلح، ويأخذون عنا فيفسدون. أفرأيت ولد الشوهاء تعرف عيناه في كل ما طلعت عليه الشمس أجمل من وجه أمه، أو يرى طائلا في وجه سواها، أو يحن إلى غير طلعتها، أو يسكن إلى صدر غير صدرها، حتى كأن الله لم يخلق وجه حبيب لقبلات محبه إلا وجهها هي لقبلاته؟

إنه في ذلك ينظر من ناحيتين: الأولى ناحية صفاته هو، فإن القلب إذا لم يكن بهيميا منعكسا أشرق صفاؤه فيما حوله، فلا يرى إلا خيرا، ولبست المرئي صفة الرائي فلا ينظر إلا جمالا، واتصل الشعور الطيب الرقيق الجميل بين نظر النفس وبين ذات النفس، كما يصل الشعاع الذي يلقى على حائط من المصباح، بين هذا الحائط وبين المصباح فيغشيه النور، وإن كان الحائط نفسه من الطين.

فإذا كان القلب بهيميا زائغا عن الإنسانية إلى حيوانيته، استفاضت ظلمته وشهواته على ما حوله، فلن يشهد من صفات الجمال شيئا بل يرى في كل شيء من صفات نفسه هو، حتى ليكون الوجود كله في عين بعض الناس كما يكون الطعام كله في فم بعض المرضى، ومثل هذا يعشق أجمل النساء فلا يرى فيها جمالا البتة، وإن هو خدع نفسه في ذلك واختدع الناس، وإنما يرى فيها شهوات؛ شهوات جميلة ليس غير .

أما القلب البهيمي غير المنعكس - وهو ذاك الذي تحمله البهائم - فلا يحتفل فيه عقل ولا يحتشد فيه خيال، وما هو إلا أن ينصب الحيوان به على محض المنفعة؛ لأنه عامل في الطبيعة يعد من عمالها لا من شعرائها، فليس عنده جمال يقع في ظاهر الروح، وآخر يقع في باطنها، وثالث متوهم لا يقع ولا يمتنع أن يقع،

20

وليس يعرف من معنى القبح إلا أن تكون الأنثى قد طاش بها المرض فما تستقل إعياء وضعفا، وبذلك سلمت إناث البهائم من شر كثير يملأ لغة الحياة النسائية بمعانيه، وتجمعه كلمتان: الجمال والقبح.

والناحية الأخرى التي ينظر منها الطفل لأمه الدميمة الشوهاء، ناحية الصفات الإلهية؛ فإن الحب الصحيح الذي يمكن أن يسمى حبا، لا يكون فيما ترى من لون وشكل وتركيب وتناسق وغيرها مما يظهر البشرية على أتمها وأحسنها في الشخص المحبوب كما يظن الناس خطأ، بل هو في عكس ذلك، أي فيما يخفي البشرية بمحاسنها وعيوبها جميعا، ويظهر في أمكنتها خصائص الروح المحبوبة وحدها؛ فمن ثم يبدو لك شخص المحبوب على أي أشكاله وهيئاته كأنه تمثال سماوي وضع لروحك خاصة، فهو مجبول من مادة واحدة هي مادة الفتنة، ولو كان في أعين الناس كافة تمثال الأرض السفلى، يصور كل ما تشتت فيها من القبح.

فإذا لم تظهر لك خصائص روح المرأة ظهورا يستفيض على وجهها وجسمها، ويجعل كل شيء فيها ذا معنى منه، وكل معنى منه ذا معنى فيك، فما أنت من حبها في شيء، ولو ذهبت من جمالها بعقول الناس، ولا هي عندك من الجمال في شيء ولو كانت في النساء كليلة البدر في الليالي؛ ومن أجل ذلك لا يخلو الحب من بعض معاني الوحي، ولا تخلو الحبيبة من بعض المادة الملائكية

Bilinmeyen sayfa