فواجب أن نقف بازاء الحق نصرح به وندافع عنه ونعشقه، ونتحمل الآلام في سبيله، ونتخذ من ذكرنا مثلا صالحا في حياتنا.
ومن هذا النوع من الشجعان من يهجر لذته وراحته، ويتحمل الآلام، لخير الناس وإسعادهم، كمن يرى مرضا اجتماعيا في أمته فيخصص حياته لدراسته ومعرفة أسبابه، ثم يتحمل المتاعب في سبيل إصلاحه، وكأن يرى الأطفال الذين لم يتجاوزوا العاشرة يعملون في المعامل ساعات طويلة في أماكن غير صحية بأجر قليل، لا يرحمهم ولا يشفق عليهم أصحاب المعامل ورءوس الأموال، فيشبون ضعفاء جهلاء يقسون على من دونهم كما قسى عليهم، أو يرى أولاد الشوارع ينشئون ولا علم ولا عمل فيكونون بعد مجرمين يعبثون بالأمن ويعثون في الأرض فسادا، أو يرى فقراء يألمون في الحياة آلاما جسيمة يقضون أطول زمن في العمل وينالون أقل أجر، تشتد مزاحمتهم على العمل، ويخضعون لنظم شاقة، يسكنون مساكن غير صحية وهم مع ذلك يستأجرونها بأجرة باهظة إذا قيست بمساكن الأوساط والأغنياء، أثمان طعامهم ووقودهم وحاجاتهم أغلى مما يدفعه الأغنياء لأنهم مضطرون إلى شراء كميات قليلة في أوقات يقل فيها الصنف، تكثر بينهم الأمراض والوفيات، ويشتد بهم الضيق بمجرد قعودهم عن العمل لأنهم لم يستطيعوا أن يوفروا شيئا من أجورهم وقت عملهم، بيوتهم وحاراتهم تشمئز منها النفس قذارة، اضطرهم الفقر إلى الإزدحام في الحجرة الواحدة مع ما يفشو فيهم من الأمراض، تنشأ بينهم أبناؤهم وبناتهم فيجدون حولهم جوا خانقا من سكر وعربدة وتسول ومسكنة وكذب جر إليها الفقر وسوء الحال، فيخضعون لذلك مضطرين، ويسيرون سير آبائهم وهم في ذلك مجبرون لا مخيرون، فمن رأى شيئا من ذلك أو نحوه من الأمراض فخصص حياته لمعالجته، وضحى بكثير من مصلحته لمصلحة أمته، وصبر على ما يناله من الشدائد، وتغلب على ما يصادفه من العقبات، كان أشجع من جندي في خط النار. (6-3) علاج الجبن
الشجاعة والجبن ونحوهما من الفضائل والرذائل تعتمد على الوراثة والتربية معا، فنحن نرث من آبائنا بذور شجاعتهم أو جبنهم، ولكن يجب ألا ننسى أن للتربية أثرا كبيرا، فهي إذا كانت صالحة زادت الشجاع شجاعة، وقللت من جبن الجبان، وإذا عولج الجبان علاجا ناجعا فقد يبرأ من مرضه، وليس للجبن علاج واحد، بل ينبغي أن ينظر إلى سببه، ثم يتخذ له العلاج اللائق به، شأن جميع الأدواء، فقد يكون سببه الجهل بالشيء، فالعلاج إذا العلم به، كالذي يرى شبحا في الظلام فينزعج منه وترتعد فرائصه، فإذا علم أنه حجر أو متاع أنس به وزال خوفه، ومن هذا النوع أكثر ما يخيف في الظلام من عفاريت ونحوها.
ويتصل بهذا عدم الإلف، فكثيرا ما يكون سبب الجبن، فالإنسان إذا لم يأنس بالشيء ويألفه يجبن أمامه، كالطالب الذى لم يتعود الخطابة فإذا هو حاولها تهدج صوته، وجف ريقه، وارتعشت أطرافه، ومن لم يتعود غشيان المجالس ومخالطة الناس يخاف منهم ويلجئه الجبن إلى حب العزلة، فإن هو اضطر يوما إلى الإجتماع بهم علاه الخجل، واضطربت حركاته، وزاد ارتباكه، وثقل على الناس وثقلوا عليه، وعلاج هذا الإلف والتعود، فلا يزال الرجل يتكلف الخطابة حتى يصير خطيبا، والجرأة حتى يصير جريئا.
ومما يفيد في هذا الباب أن يفرض وقوع النتائج التي تكون إن وقع المكروه ثم يهونها على نفسه، فلو تصور أنه خطب فلم يجد وانتقده السامعون ثم صغر هذه النتيجة وهونها تشجع ولم يجبن، ولو قرر الأطباء أن تعمل له عملية جراحية فقدر الموت واستصغره قابل العملية بثبات وهكذا.
ومن العلاج أن ينظر إلى نتائج كل من الجبن والشجاعة فإذا ظهر له أن ما يصل إليه من الخير إذا هو تشجع أكبر مما يصل إليه من الجبن استحثه ذلك على الشجاعة، فمن جبن عن أن يرحل عن بلده لطلب رزق أو علم فلينظر ير أن من المحتمل أن يصيبه مرض في رحلته أو يموت في غربته، ولكن من المؤكد أنه إن لم يرحل ضاق رزقه، أو قل علمه وكان جبانا حتما، فإن ذلك النظر قد يحمله على أن يكون شجاعا، لا سيما إن علم أن ليست الحياة أن ينبض قلبه، ويأكل في اليوم ثلاثا، إنما الحياة أن يعمل وينفع، ويستفيد ويفيد.
تذكر وقت جبنك سير الأبطال، وأكثر من مطالعة تاريخ حياتهم تستشعر الشجاعة، وتمتلىء حماسة، وتحس بقوة تدفعك إلى العمل على مثالهم، والسير في طريقهم. (7) العفة أو الإعتدال أو ضبط النفس (7-1) معناها
ضبط النفس - أو العفة بأوسع معانيها - هو اعتدال الميل إلى اللذائذ، وخضوعه لحكم العقل، وليس ذلك مقصورا على اللذائذ الجسمية بل يشمل أيضا اللذات النفسية، كالإنفعالات والعواطف، فلا يسمى الشخص «ضابطا لنفسه» إلا إذا اعتدل في لذاته الجسمية من مأكل ونحوه، واعتدل أيضا في انفعالاته فلم يغضب لأي داع، ولم يندفع في السير وراء عواطفه، كأن يحن حنينا شديدا إلى وطنه إذا نزح عنه، أو يفرط في حزن لفقد عزيز عليه، وكثير من الرذائل يرجع سببه إلى عدم القدرة على ضبط النفس كالشراهة والدعارة والطمع والإسراف والغضب والسخط والثرثرة والإدمان.
تتضمن هذه الفضيلة أن يكون الإنسان سيد نفسه لا عبدا لشهوات تسيره كما تشاء. (7-2) الزهد وآراء الناس فيه
والناس إزاء الملذات أصناف، فمنهم من ذهب إلى الزهد وقمع الشهوات، وقالوا: «إن شهوات النفس غير متناهية، فإذا أعطاها المراد من شهوات وقتها تعدتها إلى شهوات قد استحدثتها، فيصير الإنسان أسير شهوات لا تنقضي، وعبد هوى لا ينتهي، ومن كان بهذه الحال لم يرج له صلاح، ولم يوجد فيه فضل» هؤلاء يرون أن أرقى أنواع الحياة الأخلاقية محاربة الشهوات، فلا يتزوجون - مثلا - ولا يأكلون اللحوم، ولا يمكنون النفس من مأكل أنيق، أو مقعد وثير، أو ملبس جميل، وقد شنع «سنيكا»
Bilinmeyen sayfa