فقبل الرجال يدها النحيلة، وقال لها الملك كاموس وهو يودعها: سيكون شعارنا جميعا حياة أمنمحيت أو ميتة سيكننرع، وسيموت من يموت منا أشرف ميتة، ويحيا من يبقى منا أعز حياة.
وخرجت نباتا وعلى رأسها الأسرة الفرعونية والحاكم رءوم تودع الجيش اللجب، ودقت الطبول وعزفت الموسيقى وتحرك الجيش متبعا نظامه التقليدي، فتقدمته قوة الكشافة تحمل الأعلام، وسار الملك كاموس في طليعة الجيش وسط هالة من الحاشية والحجاب والقواد يتبعها الحرس الفرعوني في عجلاته الأنيقة، ثم تقدمت فرقة العجلات تسير صفوفا صفوفا لا يحدها البصر، تبعث عجلاتها في الجو صلصلة تصم الآذان، وتصهل جيادها كزفزفة الرياح، وتليها فرقة القسي الثقيلة بقسيها ودروعها وجعبات السهام، تتبعها عربات السلاح والمؤن والخيام تحرسها الفرسان، وأبحر كذلك الأسطول بسفنه الجبارة وقد تهيأ الجنود عليه بكامل معداتهم من القسي والرماح والسيوف.
وتقدمت هذه القوات على أنغام الموسيقى تستعر الحماسة في قلوبها الفتية الغاضبة، ويلقي منظرها الراهب الرعب في الأفئدة والنفوس، وتقطع النهار ضاربة في الأرض وتهجع إذا ما خيم الظلام لا تكل ولا يصيبها الإعياء، مستعينة على مشاق الطريق وطول الرحلة بعزائم تزحزح الجبال، فمروا في سبيلهم بسمنة وبون وأبسخليس وفتتزيس ونافس، وما زالوا يضربون في الأرض حتى بلغوا دابود آخر بلدان النوبة، ونسمت على وجوههم ريح مصر الطيبة، فعسكروا وأقاموا الخيام ليستريحوا من وعثاء السفر ويأخذوا أهبتهم للنضال.
ودبر الملك ورجاله خطة الغزو الأولى فأحكموا التدبير، وعهد إلى أحمس إبانا - وكان أمهر رجال الأسطول كافة - بقيادة جزء من الأسطول ليسير به إلى حدود مصر، باعتباره قافلة مما ألف الحراس اجتيازها للحدود في العهد الأخير، وعند فجر اليوم الرابع لوصول الجيش إلى دابود أبحر الأسطول الصغير فبلغ الحدود المصرية عند إسفار الصبح، وكان أحمس إبانا يقف على ظهر السفينة في ثياب التجار الفضفاضة، فأبرز جواز الدخول للحراس ودخل بأسطوله في سلام، وكان الضابط يعلم أن حرس الحدود مكون من سفن قلائل وحامية صغيرة، فكانت خطته ترمي إلى مفاجأة السفن الآمنة والاستيلاء عليها، ثم ضرب الحصار حول جزيرة بيجة حتى يدخل الجيش والأسطول أرض مصر، فيسهل عليه ضرب سيين ولما تأخذ أهبتها. وتقدمت القافلة في خط أفقي، فلما دنت من شاطئ بيجة الجنوبي حيث ترسو سفن الرعاة ظهر الجنود على سطحها وبأيديهم القسي، وخلع أحمس عباءة التجار فبدا في ثياب الضباط، وأمر بإطلاق السهام على حرس السفن، واقترب الأسطول من السفن الراسية بسرعة، وانقض عليها قبل أن يأتيها مدد من البر، وألقى عليها شباكه، وقفز الجنود إلى سطحها ليستولوا عليها، فاشتبكوا مع من وجد فيها من الحراس القليلين، في معركة صغيرة فأبادوهم في زمن يسير، وفي أثناء هذه الحركة كانت سفينة أحمس تطلق سهامها على حرس الشاطئ وتمنع الجنود من معاونة زملائهم في السفن، فتم الاستيلاء على السفن بسرعة دون أن يكلف المهاجمين ثمنا غاليا، وضرب الأسطول الحصار حول الجزيرة ليمنع الاتصال بالمدن الشمالية، وتنبهت حامية بيجة إلى الحركة الخاطفة فجرت إلى الشاطئ، ولكنها وجدت نفسها حبيسة محصورة، وأن أسطولها الصغير أسير.
ولم يمض إلا قليل وقت على انتهاء المعركة حتى بدت وحدات الأسطول المصري في الأفق تمخر عباب الماء متجهة صوب الحدود، ثم اجتازتها دون أن تجد مقاومة، وانضمت إلى أسطول أحمس إبانا، فصارت الجزيرة وسط دائرة من السفن الضخمة، مما اضطر حامية بيجة إلى التقهقر إلى قلب الجزيرة بعيدا من مرمى سهام الأسطول التي انهالت عليها من جميع الجهات.
وما هي إلا أن دخلت طلائع الجيش الحدود وانهالت على الجانب الشرقي، تتبعها الفرق ذات اللجب، فأدرك المحاصرون في بيجة أن القادمين غزاة لا قراصنة كما توهموا أول الأمر. ثم أصدر قائد الأسطول قمكاف أمره بالهجوم على الجزيرة، فانقضت عليها السفن من جميع الجهات، وأنزلت الجنود المدججين بالسلاح تحت حماية القسي، وزحف الجنود من جميع النواحي نحو الحامية المحاصرة في الوسط، وكان جنودها - إلى وقوعهم في مركز دقيق - قد رأوا تدفق القوات المصرية في البر والنيل فخذلتهم سواعدهم وخانتهم شجاعتهم، وألقوا السلاح وسلموا أنفسهم وأخذوا أسرى، وكان أحمس إبانا على رأس المهاجمين، فدخل قصر الحاكم دخول المنتصر، ورفع عليه الأعلام المصرية، وأمر بالقبض على الموظفين الرعاة والأعيان أسوة بالجنود.
ورأى أهل الجزيرة من الفلاحين والعمال والخدم الجنود المصريين فلم يصدقوا أعينهم، وهرعوا نساء ورجالا إلى قصر الحاكم الجديد وتجمعوا أمامه ليروا ما الخبر، تصطرع في نفوسهم الآمال والمخاوف، فخرج إليهم أحمس إبانا، وقد تطلعوا إليه صامتين، فقال لهم: حياكم الرب آمون حامي المصريين وقاهر الرعاة.
فوقعت كلمة آمون من آذانهم موقعا جميلا ساحرا، وقد حرموا سماعها عشرة أعوام، وأضاء وجوههم الابتهاج فتساءل بعضهم: هل أتيتم حقا لإنقاذنا؟
فقال أحمس إبانا بصوت متهدج: لقد جئنا لإنقاذكم وإنقاذ مصر المستعبدة فأبشروا، ألا ترون هذه القوات الهائلة؟ إنها جيش الخلاص، جيش مولانا الملك كاموس ابن مليكنا الشهيد سيكننرع، الذي جاء لتحرير شعبه واستعادة عرشه.
فنطق القوم باسم كاموس كالذاهلين، ثم غمرهم الفرح والحماسة فهتفوا له طويلا، وجثا كثيرون يصلون للرب آمون المعبود، وسأل بعض الرجال أحمس إبانا قائلين: هل انتهت عبوديتنا حقا؟ وهل نرد اليوم أحرارا كما كنا من قبل سنوات عشر؟ .. هل مضى زمن السوط والعصا وتعييرنا بأننا فلاحون؟
Bilinmeyen sayfa