وبلغ إسفينيس والعبيد السفينة بعد منتصف الليل، فوجدوا لاتو ساهرا يترقب، فأقبل على الشاب قلقا متشوقا إلى سماع أخباره، فقص عليه إسفينيس ما صادفه في القصر من النجاح والمتاعب، فقال لاتو: لنحمد الرب آمون على ما أولانا من نجاح، ولكني أخون واجبي إذا لم أصارحك بأنك اقترفت خطأ كبيرا باستسلامك للغضب والكبرياء، وما كان ينبغي لك أن تعرض آمالنا الكبار لخطر الانهيار من أجل ثورة غضب، أفما كان من الجائز أن يظفر القائد بك؟ .. أو ما كان من المتوقع أن يبطش الملك بك؟ .. ينبغي أن تذكر دائما أننا هنا عبيد وهم سادة، وأننا طلاب فضل هم أصحابه وذووه، فليكن رائدك أن تتظاهر بالشكر والإخلاص لهم، وعلى رأسهم ذلك الحاكم الذي وجه إلى جدك العظيم وإلى مصر جميعا الضربة القاضية، افعل هذا من أجل مصر، ومن أجل من تركناهم وراءنا في نباتا يخشون ويرجون.
ولم يتمالك الرجل فأجهش في البكاء، ثم مضى إلى مخدعه فصلى صلاة حارة.
وفي صباح اليوم التالي قصدا إلى كوخ السيدة إبانا كما وعدا أصحابهما من قبل، فاستقبلتهما السيدة وابنها أحمس وبعض الأصدقاء، بينهم سنب وهام وديب وكوم، وكانوا جميعا قلقين متلهفين على سماع الأخبار، فقال لهما هام: إن قلوبنا قلقة يعذبها الخوف ويلهبها الأمل، وقد تركنا وراءنا في الأكواخ القريبة المئات من الأصدقاء ممن لم يغمض لهم جفن طوال الليلة الماضية.
فابتسم إسفينيس ابتسامة حلوة، وقال: أبشروا يا أصدقاء، لقد أذن لنا الملك في الاتجار بين مصر والنوبة.
فلاح البشر في وجوههم، وتألقت أعينهم بنور الرجاء، وقال لاتو بحزم: جاء وقت العمل فلا تضيعوا الوقت هباء، واعلموا أن الطريق طويل فينبغي أن نحمل أكثر ما نستطيع من الرجال، لا تتوانوا عن إغراء العامة بالاشتراك في رحلتنا، ومنوهم بالربح الوفير دون أن تصارحوهم بالحقيقة، حتى نبلغ هدفنا فيما وراء الحدود، وسنجدهم بغير شك من المخلصين كعهدنا برجال طيبة ومصر جميعا .. هلموا جميعا فاحزموا أمتعتكم.
وانتشرت في الخفاء حركة واسعة النطاق يضطرم في جوانبها الحماسة والإيمان، وهرع الرجال المتخفون في ثياب الصيادين إلى السفن، وشغلوا كل مكان يمكن أن يشغل من أسطحها وبطونها. ثم واجهت إسفينيس مشكلة عسيرة وهي إرحال النساء والأطفال، وشغلهن أماكن أحق بها الرجال والشبان، أو تركهن وحدهن على ما في هذه من إيلام لهن ولذويهن، ورأى الشاب أن يثير المسألة فشاور فيها أصدقاءه الأقربين، وطال الأخذ والرد، حتى انبرى أحمس بن إبانا فقال: أيها السيد إسفينيس، نحن في حاجة إلى جيش عرمرم من الرجال، فلا يجوز أن يؤخر النساء تجنيد هذا الجيش العظيم، وما يضيرهن أن يمكثن في طيبة حتى نعود إليهن عودة الظافرين؟ وإنه لأدعى إلى حماستنا أن نقاتل وفي البلاد نساؤنا، من أن نخلفهن وراءنا في النوبة، وإذا كان في هذا الرأي ألم لنا، فليؤد كل منا نصيبه من ضريبة الألم والتفدية في سبيل غرضنا الأسمى.
وبلغ التأثر بإبانا مبلغا عظيما فقالت: نعم الرأي الحكيم .. إن مكاننا هنا، وسنقاسم أهل طيبة حظهم، إن موتا فموت، وإن حياة فحياة!
ولم يتردد أحد عن القبول، ورضي النساء بفراق الأزواج والأبناء، وكان جنوب طيبة يذوب من حرارة الوداع وذرف الدموع واضطرام الدعاء والآمال.
وكان إسفينيس لا يذوق الراحة في تلك الأيام القلائل الحافلة بجلائل الأعمال والتفديات الصامتة، كان يستقبل الرجال ويزور الأسر وينظم الراحلين، وكان إلى هذا يعلل نفسه بالآمال، ويذكر الحاضر والمستقبل، ويعالج بالصبر فورة الغضب والرغبة في الانتقام، وكان إلى هذا وذاك يكتم أشواقا تضطرم في فؤاده، ويغالب لواعج الوجدان التي باتت تأكل صدره وكبده، ويضني بما يعترك في نفسه من أسباب البغضاء وقوى المحبة .. فلشد ما جاهد وتحمل في الأيام القلائل، ولشد ما تجلد وتصبر.
14
Bilinmeyen sayfa