فقال طونا: نعم ما تفعلان، فما جدوى الفرار من حياة سعيدة؟ أما أنا فشقائي بمهنتي جلل، وشقائي بأسرتي وأولادي أجل، وشقائي بنفسي أفدح، ومناي ألا أرفع القدح عن شفتي.
فصفق ثمل مسرورا بقول طونا، وقال وهو يهز رأسه طربا: هذه الحانة مهجر البائسين، مهجر من يقدمون موائد الطعام الشهية وهم جياع، ومن ينسجون فاخر اللباس وهم عراة، ومن يهرجون في أفراح السادة وهم جرحى قلوب، صرعى نفوس.
فقال رجل غير هذين: اسمعا يا رجلي النوبة، لن تطيب الحياة لشارب حتى تخذله ساقاه، فيهوي فاقد الوعي، ولأضرب لكما مثلا بنفسي، فما من ليلة أعود إلى كوخي إلا محمولا.
وانتفض إسفينيس، وأدرك أنه بين جماعة من مبتئسي البشر، وسألهم: هل أنتم صيادون؟
فقال طونا: جلنا صيادون.
وهز صاحب الحانة كتفيه استهانة، وقال دون أن يحول رأسه عن عمله: أما أنا فخمار يا سيدي.
فقهقه طونا، ثم أشار بأصبع غليظة إلى رجل قصير القامة، نحيف القد، دقيق الأطراف، واسع العينين براقهما، ثم قال: وإن أردت التدقيق فهذا الرجل لص!
فنظر إسفينيس إلى الرجل بغرابة، فارتبك، وأراد أن يطمئنه فقال: لا يساورك القلق يا سيدي، فأنا لا أسرق في هذا الحي جميعه.
وعلق طونا على قول الرجل بقوله: يعني أنه لما كان لا يوجد في حينا ما يستحق مشقة السرقة، فهو يعاشرنا كأحدنا، ويمارس فنه في أطراف طيبة، حيث المال موفور، والسعادة وارفة الظلال.
وكان اللص نفسه ثملا، فقال بلهجة الاعتذار: لست لصا يا سيدي، ولكنني سائح يضرب الأرض ويشرق ويغرب كما تسوقه قدماه، فإذا عثرت في سبيلي بأوزة ضالة أو دجاجة تائهة، هديتها إلى مأوى، وهو كوخي في الغالب. - وهل تأكلها؟ - معاذ الرب يا سيدي، إن الطعام الحسن يسمم بطني، ولكني أبيعها لمن يشتري. - ألا تخشى الخفراء؟ - أخشاهم أكبر خشية يا سيدي، لأنه غير مسموح بالسرقة في هذا البلد لغير الأغنياء والحكام.
Bilinmeyen sayfa