وعطف رأسه عنهن حتى لا يرى آلامهن، وقال وكأنه يحادث نفسه المكلومة: قتل أبي وهزمت جيوشنا، وقضي على قومنا أن يعانوا الآلام جميعا، من أدنى الجنوب إلى أقصى الشمال.
ولم تتمالك توتيشيري فزفرت زفرة حرى كأنما مجت بها فتات كبدها، ووضعت يدها على قلبها وهي تقول: ما أشد جرح هذا القلب العجوز!
أما أحوتبي وستكيموس فقد ثقل رأساهما، ووكفت أعينهما دمعا ساخنا، ولولا وجود القائد بينهما لانتحبتا انتحابا عاليا.
ووقف بيبي وسط ذاك الحزن الشامل صامتا، مجروح الصدر ، مضعضع الحواس جميعا، وكان يحزنه أن يضيع الوقت سدى، وخشي أن تفلت من أسرة مولاه فرصة الهرب فقال: يا ملكات أسرة مولاي كاموس، تجلدن وتصبرن، فإنه وإن كان الخطب أكبر من العزاء، فإن الساعة أولى بالحكمة وعدم الاستسلام للحزن، وأستحلفكن بذكرى مولاي الشهيد أن تكفكفن دموعكن، بالصبر، وتحزمن أمتعتكن، فليست طيبة بالمثوى الأمين غدا!
فسألته توتيشيري قائلة: وجثة سيكننرع؟ - فلتطمئن نفسك يا مولاتي، سأؤدي واجبي نحوها كاملا.
فسألته مرة أخرى: وإلى أين تريد أن نذهب؟ - مولاتي، ستقع مملكة طيبة بين يد الغزاة إلى حين، ولكن لنا وطن آخر أمين في بلاد النوبة، ولن يطمع الرعاة في النوبة لأن الحياة فيها جهاد يشق على نفوسهم المترفة، فلتكن لكم مهجرا آمنا، لكم فيه أنصار من قومنا وأتباع من جيراننا، وهنالك يعاودكم التفكير في هدوء، فترعون أمل المستقبل الجديد، وتتعهدونه بالصبر والبسالة، حتى يأذن الرب فيشق سنا النور البهيج ظلمات هذا الليل الدامس!
وكان كاموس يصغي إليه في هدوء وسكينة، فقال له: فلتهاجر الأسرة إلى بلاد النوبة، أما أنا فأوثر أن أسير على رأس جيشي أقاسمه حظه في الحياة أو الموت.
فساور القلق القائد، ونظر إلى مولاه بعين رجاء وتوسل، وقال: مولاي، لن أستطيع أن أثنيك عن إرادة تريدها، فلأكل الأمر إلى حكمتك، ولا أسألك إلا أن تصغي إلي قليلا.
مولاي، إن القتال اليوم عبث ضائع، ومعناه الهلاك المبين، ومصر لن تنتفع بموتك، ولا موتك بمخفف عنها بعض آلامها، ولكنها بغير شك تخسر بفقدان حياتك خسارة لا تعوض، إن كل أمل في النجاة منوط بحياتك، فلا تحرم مصر الأمل بعد أن حرمت السعادة .. فاجعلوا «نباتا» هدفكم، وشدوا إليها الرحال، وهناك يتسع لكم المجال للتفكير والتدبير وإعداد وسائل الدفاع والكفاح، لن تنتهي هذه الحرب كما يتمنى أبوفيس، فلا يتسنى لشعب كشعبنا عاش سيدا كريما، أن يطرق على الذل طويلا، ولسوف تحرر طيبة يا مولاي في تاريخ قريب، ولن تقف بك الحماسة عند حد، فتطارد الرعاة القذرين حتى تطردهم من وطنك .. إن سنا ذاك اليوم الأغر يتخايل لعيني في ظلمات الحاضر الكئيب، فلا تتردد واعزم عزمة الحكمة، والآن وقد بينت لك نهج الحق، فاقض بما أنت قاض!
وكف بيبي عن الكلام، وما كفت عيناه عن التوسل والرجاء، وتحولت توتيشيري إلى «كاموس»، وقالت بصوت خافت: لقد نطق القائد بالحق فاتبع قوله.
Bilinmeyen sayfa