وكان سيكننرع يدرك الهول الذي ينتظره وجيشه، ولكنه كان رجلا باسلا عظيم الإيمان، فلم يتردد لحظة ونظر إلى السماء وقال بصوت صافي النبرات: «أيها الرب آمون لا تنس أبناءك المخلصين»، ثم أصدر أمره إلى قوة العجلات المحيطة به بالهجوم، واندفع أمامها ليلقى عدوه.
وبدأت معركة من أشد المعارك هولا، علا فيها الصراخ والصهيل وتطايرت الخوذ، وتساقطت الرءوس، وجرت الدماء ولكن لم تجد بسالة المصريين شيئا في مقاومة العجلات السريعة المدرعة، ففتكت بهم فتكا ذريعا، وحصدتهم حصدا كالهشيم، وقاتل سيكننرع قتالا مجيدا غير يائس ولا متخاذل، وبدا ساعة كأنه رب الموت يختار له من يشاء من عدوه. واستمرت المعركة حتى الأصيل، وهناك بدت الغلبة في صف الرعاة، فتحفزوا ليضربوا الضربة القاضية، وهجمت عجلة كبيرة تحرسها قوة عظيمة يقودها فارس شديد البأس طويل اللحية ناصع البياض على عجلة سيكننرع، وشقت إليه الصفوف ببسالة خارقة، وأدرك الملك غرض الفارس الجسور، فهرع نحوه حتى تواجها، ثم تبادلا ضربتين هائلتين برمحيهما، فتلقى كل منهما الضربة الموجهة إليه بترسه وتحفز للقتال، ورأى سيكننرع غريمه يسل سيفه، فعلم أنه لم يقنع بتجربة حظه، فسل سيفه واندفع نحوه، وفي تلك اللحظة الرهيبة استقر سهم في ساعده، فارتعشت يده وسقط منها السيف، وصاح كثير من حرس الملك: «حذار يا مولاي .. حذار» ولكن الغريم كان أسرع إليه من الحذر، فوجه إلى عنقه ضربة هائلة بأقصى قوته، فأصابت هدفها، وارتسم على الوجه الأسمر أبلغ الألم، وتوقف مقهورا عن المقاومة، فقبض عدوه بيمناه على رمح ورشقه بقوة، فاستقر في جانب الملك الأيسر، وترنح على أثره ذاهلا وسقط على الأرض، وتعالى الصياح من كل جانب، فقال المصريون: «رباه .. لقد سقط الملك .. دافعوا عن مليككم!» وصاح قائد العدو وهو يبتسم ابتسامة الظافر: «أجهزوا على المتمرد العاصي، ولا تبقوا على أحد من رجاله»، فاشتد القتال حول جسد الملك الملقى، وانقض عليه فارس حقود، ورفع بلطة حادة، وهوى بها على رأسه فأطاح عنه تاج مصر المزدوج، وتفجر منه الدم كالينبوع، وثنى بضربة أخرى فوق العين اليمنى، فحطمت العظام وتناثر المخ في حالة بشعة، وأراد كثيرون أن يصيبوا من تلك المأدبة الدموية ما يشفون به غلهم، فتكالبوا على الجثة ووجهوا إليها طعنات مجنونة قاسية، أصابت العينين والفم والأنف والخدين والصدر، فمزقت الجثة وأغرقتها في بحر من الدماء!
وكان بيبي يقاتل على رأس من بقي من جنوده، مدافعا قوات العدو المتدفقة على البقعة التي سقط فيها مولاه، واستيأس القوم في القتال، وهانت عليهم الحياة، وعزموا جميعا على الاستشهاد في المكان الذي ارتوى بدماء مليكهم الباسل، فما زالوا يسقطون رجلا إثر رجل حتى أدركهم المساء، ولبس الكون الحداد، فكف الفريقان عن القتال، وقد نهكهم التعب وأثخنتهم الجراح.
11
وخرج الجنود بالمشاعل يبحثون عن قتلاهم وجرحاهم، وكان القائد بيبي واقفا إلى جوار عجلته بعد أن نال الإعياء منه كل منال، يتجه قلبه إلى الجثة التي خضبت دماؤها الزكية الميدان، فسمع صوت قائد يقول: يا للعجب .. كيف انتهت الموقعة العظيمة بمثل هذه السرعة؟! من يصدق أننا فقدنا جل قواتنا في نهار واحد؟! كيف أمكن التغلب على جنود طيبة الأشداء؟!
فقال له صوت آخر كان من الإعياء كالحشرجة : إنها العجلات التي لا تقاوم، لقد حطمت آمال طيبة جميعا.
فناداهم القائد بيبي قائلا: أيها الجنود .. هل أديتم ما عليكم نحو جثة سيكننرع؟ .. هلموا نبحث عنها بين الجثث!
فسرت قشعريرة في نفوسهم المتهالكة .. وأخذ كل منهم مشعلا وتبعوا بيبي صامتين، يعقد ألسنتهم حزن عميق، وتفرقوا في البقعة التي سقط فيها الملك، تصك آذانهم أنات الجرحى وهذيان المحمومين، وكان بيبي لا يكاد يرى ما بين يديه من الحزن والألم، ولا يكاد يصدق أنه يبحث حقا عن جثة سيكننرع، ويكبر عليه أن يسلم بأن موقعة طيبة قد انتهت هذه النهاية الأسيفة، وكان يقول والدموع تطفر من عينيه: «اشهدي يا أرض كبتوس واعجبي ... إننا نبحث عن جثة سيكننرع بين كثبانك .. ألا رفقا بها، ولتكوني فراشا وثيرا لأضلعها المصابة، ألم تسقط فداء لك ولأرض طيبة! .. واها يا سيدي .. من لطيبة بعدك؟ .. من لنا غيرك؟ ...» وظل في حيرته قليلا ثم سمع صوتا يصيح قائلا: «أيها الرفاق تعالوا .. هاكم جثة مولانا»، فجرى صوبه والمشعل في يده، فزعت عيناه من الهول الذي ستراه، ولما بلغ مكان الجثة فرت من فمه صرخة مدوية، امتزج فيها الألم بالغضب، رأى ملك طيبة كتلة مشوهة من لحم ممزق وعظام بارزة ودم مسفوح والتاج ملقى إلى جانبه، فصاح غاضبا: «يا للغربان الدنية .. لقد فعلوا ما قد تفعل الذئاب بجثة الأسد الهصور، ولن يضيرك أن يمزقوا جسدك الطاهر، فقد حييت كما ينبغي لملك من ملوك طيبة أن يحيا، ومت ميتة البطل الباسل ...» وصاح فيمن حوله ممن أذهلهم الحزن: «أحضروا الهودج الملكي، هيا يا نيام» وأتى بعض الضباط بالهودج، واشتركوا جميعا في رفع الجثة ووضعوها عليه، ورفع بيبي تاج مصر المزدوج ووضعه إلى جانب رأس الملك، ثم سجى الجثة، وحملوا الهودج في صمت أليم، وساروا به نحو المعسكر المهيض الجناح، ووضعوه في الخيمة التي فقدت حاميها وسيدها إلى الأبد .. وكان جميع القواد والضباط الذين نجوا من الموت يقفون حول الهودج منكسي الأذقان، ترهقهم كآبة، ويغشى أبصارهم حزن عميق، فالتفت إليهم بيبي بصوت قوي النبرات : أفيقوا أيها الرفاق ولا تستسلموا للحزن، فليس الحزن بمعيد سيكننرع إلينا، ولعله ينسينا واجبنا نحو جثته ونحو أسرته ونحو وطننا الذي قتل من أجله، لقد وقعت الواقعة، ولكن المأساة لم تتم فصولها، فينبغي أن نثبت في مراكزنا حتى نؤدي واجبنا كاملا.
فرفع الرجال رءوسهم، وأصروا بأسنانهم صرير العزم والقوة، ونظروا إلى قائدهم نظرة كأنما يعاهدونه بها على الموت، فقال بيبي: إن الشجاع الحق من لا تنسيه الكوارث واجبه، وقد يكون من الحق أن نقر بأننا خسرنا موقعة طيبة، ولكن واجبنا لم ينته بعد، وعلينا أن نثبت أننا أهل للميتة الشريفة، كما كنا للحياة الشريفة.
فصاحوا جميعا قائلين: لقد ضرب لنا مليكنا المثل الأعلى، وسوف نتبع أثره.
Bilinmeyen sayfa