وكلما ألحت عليه جروح الذكرى استدعى يحيى أو استدعى ممدوحا فأحس أنهما بوجودهما تحت رئاسته يمحقان الماضي جميعا.
كان جالسا بمكتبه حين دخل السكرتير مرتبكا خائفا: سعادة البك ... تسمح. - قل. - فقط ... - قل. - شخص يقول إنه والد سعادتك. - من؟ - يقول هذا يا سعادة البك. - قل له يذهب إلى البيت. - ممكن أن يدخل وأمنع أي أحد بعد ذلك ... - امش، قل له يذهب إلى البيت ... اخرج.
أكرمت حياة ضيافة حميها فهيم وقدمت له التحايا من حلوى إلى قهوة إلى مشروبات باردة وأبدت له من الاهتمام ما استطاع به أن يبتلع طرده من مكتب ابنه: وماله ... أنا أبوه ويجب أن تكون زيارتي له في بيته لا في شغله.
وجاء فرغلي ودون أن يبدي ترحابا ولو كاذبا بأبيه. - لماذا جئت إلى الشركة يا آبا؟ - أردت يا ابني أن أراك في مكتبك ولك سعاة وسكرتير وحجرة خاصة. - كل هذا لا يبرر مجيئك إلى مكتبي. - معلهش يا بني ... ربنا يخليها حياة قامت بالواجب. - ماذا تريد يا آبا؟ - لا شيء يا ابني. - بل تريد. - وما دمت تعرف فلماذا تسأل؟ - لأني أريد أن أناقشك. - الحكمة يا ابني لا تحتاج إلى نقاش فليس فيها شك. - كل شيء في الدنيا يحتاج إلى نقاش وفيه شك. - ليس في الله شك يا ابني. - دع الله ولا تدع التصوف. هذا موضوع لا أناقشه ولا أناقش حتى إذا كان يحتاج إلى نقاش أم لا يحتاج. - يا ابني الحالة ... - صعبة. - طول عمرك ذكي وتفهمها وهي طايرة. - متى عرفت ذلك؟ - ألست أباك؟! - متى كان هذا؟ - أهذا أيضا يحتاج إلى نقاش؟ - بل هذا هو موضوع النقاش. - من أبوك إذن إن لم أكن أنا؟ - إذا كان معنى الأبوة أنك قضيت لحظة هانئة مع زوجتك أصبحت أنا نتيجتها فأنت أبي، ولكن أهذه هي الأبوة؟ - هل قصرت في شيء؟ - هل فعلت شيئا؟ - فكيف تعلمت ووصلت إلى ما أنت فيه؟ - تعلمت بالصدقة، ووصلت إلى ما أنا فيه بالرغم من أنك أبي وليس لأنك أبي. - لماذا تكرهني كل هذا الكره يا فرغلي؟ - كل هذا الكره! وهل رأيت؟ يكفي أنك سميتني فرغلي ... ألم تجد إلا هذا الاسم؟ - يا بني كان يتهيألي أنه اسم طيب . - أمعقول أن يختار أب لابنه اسم فرغلي؟ - وكيف كان يمكن أن استشيرك في الاسم؟ - وهل هذا الاسم يحتاج إلى استشارة؟ وهل كان يمكن أن تجد اسما أسوأ منه. - شحات مثلا. - له معنى على الأقل ... ثم شحات هذا صفة مرت علي أوقات طويلة كنت أتمنى أن أحصل عليها، وحين كنت أعمل بالقهوة ماذا كنت؟ شحات. كان سيكون اسما على مسمى على الأقل. - على قدر جهدي. - أنا أضرب لك مثلا، قد يبدو بسيطا ولكنه مجرد مثل. - أهناك أشياء أخرى تريد أن تقولها؟ - وهل قلت شيئا؟ - كل هذا ولم تقل شيئا! - لم أقل شيئا مطلقا. - ماذا فعلت لك يا ابني؟ - هل أنت حقا لست تدري؟ - كان يتهيأ لي دائما أني كنت أبا طيبا. - خطأ؛ الطيب هو الذي يعرف الخبث والذكاء واللؤم ويختار أن يكون طيبا، ولكن أنت مخلوق هكذا تدمر كل ما حولك ولا تحس أنك أسأت في شيء، ويكفيك أن تقول لنفسك إنك طيب. وهل تستطيع أن تكون غير طيب واخترت الطيبة؟ هذا النوع من الطيبة له أسماء أخرى كثيرة لا أحب أن أقولها لأنني واثق أنني نقطة من دمائك. - وهل أبقيت من هذه الدماء شيئا؟ - بل إنها هي التي تمسك بي فلا أصفك ... - وصفتني يا ابني لا شك في ذلك. - لا أنا لم أقل شيئا. - بل قلت يا بني؛ قلت على الأقل إنني أهبل خيبة خبق. - لم أكن أتصور أنك تستطيع أن تفهم كل هذا. - أنت حكمت علي من غير محاكمة يا فر ... يا بني. - قل فرغلي لقد تعودت عليها. - لماذا لم تسألني؟ - أرى نفسي قتيلا وأسأل قاتلي وهو أمام عيني. - يا بني هذا القاتل تسأله المحكمة إنما أنت صنعت من نفسك المجني عليه والشرطة والنيابة والمحكمة، وزدت فحكمت دون أن تسمع مني حرفا كما تفعل الشرطة أو النيابة أو المحكمة. - لا داعي لهؤلاء جميعا. - أهكذا تصنع في الشركة؟ - هكذا أصنع وهكذا سأصنع طول عمري. - فأنت ظالم. - لا يهم. - إن كنت ذقت الظلم حقا ما ظلمت. - ما دمت ظلمت فلا يعنيني أن أظلم كل الناس. - حتى أبوك؟! - وخصوصا أبي. - أجريمتي كبيرة إلى هذ الحد؟ - يكفي أنك ... يكفي أنك ... - ماذا ... يكفي أنني ماذا؟ - اخترت أمي من السيرك ... يكفي أنك جعلت أمي غزية. - أتحاسبني على هذا؟ - ألم تفكر ماذا سيلقى ابن الغزية من الحياة؟ - أما كفاني ما لقيته من أمك؟ - الذي لقيته أنت أمر كان يمكن أن يحدث أو لا، أما ما لقيته أنا، وما ألقاه وسأظل ألقاه فأمر كان مؤكدا منذ كتب كتابك عليها ... ألم تدرك هذا؟ - لا حول ولا قوة بالله! - بل إن لي أيضا القوة التي وصلت بها والتي سأصل بها رغم كل ما صنعته بي. - وكفرت أيضا؟ - ومن قال لك إني آمنت يوما حتى أكفر. - تكفر بالله؟ - التفكير في الإيمان والكفر أمر يشغل من لا تشغله نفسه. - أما أنا فحسبي الله ونعم الوكيل. - ليكن حسبك كما تشاء. - لن تراني بعد اليوم. - هذا شيء لم أفتقده يوما ويسعدني اليوم أن أفقده. - تجبر ما شئت ولكنك ستحتاج إلى الله وستحتاج إلي. - أفضل أن أموت قبل أن أحتاج الى أحد منكما. - ومن قال لك إنك تعيش؟ - إنه أنت الذي لا تعيش. - كنت أظن ذلك، أما اليوم وبعد أن رأيتك فقد تبين لي أنني أعيش ... أعيش ملء الدنيا وملء العليا ... ملء الحياة وملء الآخرة ... أنا أسعد بضحكة من ابن لي، ببسمة من زوجتي، وأهنأ بصلاتي وأسعد وأنا أرى أن الطريق بيني وبين الله مفتوح واضح منير أنا أعيش، وسأحاول أن أنساك تماما لأنك أكثر موتا من الميتين. لا سلام عليك يا فرغلي وأرجو ألا يجمعني بك بعد اليوم طريق. - أمنية أتمناها أنا أيضا.
وسمع الأب توديع ابنه وهو يقفل باب الخروج، وارتمى فرغلي على الأريكة الوثيرة وقد انقسمت نفسه أقساما بعضها مرتاح وحجته أنه قال ما تمنى قوله طول حياته، وبعضها مرتعد؛ لأنه سمع وعيدا لم يسمعه، وسمع من أبيه وصفا لوجوده في الحياة شك قلبه بحربة مسنونة وشق أمنه بسيف باتر، وفكر، وما أطول ما فكر، ثم ما لبث أن أطلق بسمة سخرية وطلب من حياة طعام الغداء.
13
سواتر
نديم الطوبجي ابن أسرة عريضة الاسم ضامرة الثروة شأنها في ذلك شأن كثير من الأسرات المصرية التي اضطرت أن تحافظ على الاسم العريض بالإنفاق الذي لا يتواءم مع حقيقة ثروتها. وهذه الأسرات تصبح مع الزمن ذات مظهر خادع يظن من لا يعرفها أنها على ثراء حين تعلم هي والمقربون إليها أنهم يتسترون بالكبرياء ولا أقول الكبر. فهذه الأسرات في أغلب أمرها يتمثل غناها الحقيقي في صلاتها بالناس من جميع المشارب والدرجات، فهم أصدقاء لكثير من الفلاحين ولأعيان الفلاحين وللوزراء الذين ينتمون جميعهم بلا استثناء إلى الفلاحين أو أبناء الطبقات المتوسطة، والذين وصلوا إلى مناصبهم الوزارية بالعلم وبصلاتهم وصلات آبائهم بالقرى وبلغوا من المجتمع المصري هذه المكانة المرموقة. ولولا أنني الآن أكتب لك رواية ولا أروي لك تاريخا لذكرت لك أسماء مئات الوزراء الذين ينتمون في أصولهم إلى الفلاحين وتنتمي قلة منهم إلى العمال لأن المدينة لا تعرف الروابط الأسرية التي يعرفها أهل الريف.
وهذه الأسرات ذات الرنين فيها الفقير وفيها الغني، وأغلب بيوتها مستورة لا فقيرة تستجدي ولا هي غنية تسرف في الإنفاق. وهناك أسرات تلتئم عناصرها فيعين غنيها فقيرها فيبدو الفقير مستورا حتى ليظنه أصدقاؤه غنيا. وكان نديم وحيد أبويه، وكان أبوه من هؤلاء المستورين ولكنه شأن الكثيرين من هذا الجيل أراد أن ينمي ثروته فقضى عليها، وأصبح لزاما على أفراد الأسرة الآخرين أن يخصصوا له مبلغا شهريا يمكنه أن يعيش في منزل معقول وأثاث نظيف ويمكنه أيضا أن يكمل تعليم نديم.
وكان من الطبيعي أن ينقص هذا المبلغ حين يتخرج نديم ويحصل على وظيفة. ومن ميزات هذه الأسرات ومن بينها أسرة الطوبجي أنها تستطيع دائما أن تجد وظيفة لأبنائها ولغير أبنائها بما لها من صلاتها الكثيرة المتباينة التي قد تصل أحيانا إلى رئيس مجلس الوزراء نفسه. وهكذا عين نديم يوم تخرجه موظفا بمجلس النواب وفى الدرجة السادسة ولم يكن تعيين المتخرج في الدرجة السادسة أمرا محتما في ذلك الحين وإنما كان بحسب المتخرج أن يحصل على أي وظيفة ولتكن في الدرجة الثامنة أو السابعة ما دامت هذه الدرجات هي المتاحة. وكانت الحياة كما يعرف الجميع رخيصة غاية الرخص في تلك الأيام وكانت المرتبات على ضآلتها تقيم أود البيت.
Bilinmeyen sayfa