مسكين فرغلي لقد حرمته الحياة الضياء الوحيد الذي يستطيع به الإنسان أن يشق طريقه في ظلام الأيام، ولكن الحياة العظيمة التي تستطيع دائما إذا منعت أن تهب، والتي إذا حرمت إنسانا نعمة من أنعمها أمدته في خفية وفي كرم بما يغنيه من هذه النعمة. هذه الحياة الرءوف الرءوم حرمته متعة الإشراق أو الضحك أو الابتسام، وفي نفس الوقت وهبت له نعمة الجهل بأنه فاقد لأجمل مقومات الدنيا وأحلى ما فيها والشيء الذي يجعل من الدنيا في كثير من الأحيان عليا قريبة من مسابح السماء.
3
نقلة
انتهت إجازة الصيف، وفي اليوم الأول من المرحلة الابتدائية كان فرغلي قد لبس حلة جديدة اشتراها له أبوه، وأكمل الحلة بكل ما يحتاج إليه صاحبها من رباط عنق وقميص وحذاء. ونظر فرغلي في المرآة التي لا يوجد غيرها في البيت، والتي تكاد تنطبع عليها صورة أمه من كثرة ما تقف أمامها. رأى في الملابس الجديدة إنسانا غريبا عليه بل رأى في المرآة وجها أوشك ألا يتعرف عليه فلم يكن هو أو أبوه يقفان أمام المرآة إلا لمناسبة، وما أقل هذه المناسبات في حياته أو في حياة أبيه!
أحس فرغلي وهو واقف أمام المرآة ينعم النظر أنه لأول مرة يجد في نفسه إنسانا ينبغي أن يحترمه الآخرون، أو على الأقل أحس أنه ليس عجيبا أن يحترمه الآخرون. فقد كانت ملابسه تشعره دائما أنها من أهم الأسباب التي تدعو الآخرين إلى احتقاره، وأحس فرغلي أنه يجب أن يكون كذلك دائما. وحينئذ خيل إليه أن صورته في المرآة تزداد تقطيبا ترادفه دهشة موصولة باليأس، وتنتهي به هذه المشاعر إلى نوع من الإصرار لا يدري من أين هبت عليه رياحه بل هو حتى لا يدري ما الذي يهدف إليه إصراره هذا. إنه مصر ولكنه لا يعلم على ماذا يصر، وتوهجت عيناه فيهما شرر وبريق شرس، وصرفت أسنانه يضغط بعضها على بعض، وفي حركة مفاجئة عنيفة لوى وجهه عن المرآة وذهب إلى السرير حيث كانت تنتظره الحقيبة الجديدة، وأمسك بها وتهيأ للخروج مع والده ليركب القطار إلى المدرسة الابتدائية. والمدرسة الابتدائية في البندر بطبيعة الحال، ففي ذلك الحين لم يكن في القرية أو في أية قرية مدرسة ابتدائية.
حين بلغ القطار أركبه أبوه وتركه وحده يسير إلى مصيره الجديد. ألم يكن من المناسب أن يركب معي ويذهب بي إلى المدرسة الابتدائية؟ إنها مرحلة جديدة من حياتي ولا شك أنني سأحس بعض الرهبة وأنا أخطو هذه العتبة لأول مرة، ويلي! ما هذا؟! إن تلاميذ كثيرين من البلدة يركبون القطار. أنا بينهم الوحيد الذي لا يرافقه أبوه.
والتقت العيون وتعرف أبناء القرية على فرغلي بل وتعرف عليه أيضا آباؤهم، ماذا أصابهم؟ لماذا صرفوا عنه عيونهم لينظر بعضهم إلى بعضهم؟ وما هذه الابتسامة الصارخة بالتهديد التي ترتسم على أفواههم؟ وما هذا التجاهل الذي يلقي به عليه آباء التلاميذ؟ أي شيء عجيب فيه يعرفه أبناء القرية ولا يعرفه الآخرون؟!
لم يلتق بهذه المشاعر في مدرسة البندر الإلزامية ولا التقى بها في رواد المقهى أو من زملائه بها أو من صاحب المقهى. ربما التقى بالظلم أو بالضرب من صاحب المقهى أو بالسخرية المعلنة من خطأ ارتكبه أو ملبس متهرئ يرتديه. ولكن هذا النوع العجيب من التفاهم الصامت على الهزء به لم يعرفه إلا من أبناء قريته هؤلاء.
وصل القطار ونزل متباعدا عن تلاميذ القرية، ولم يكن محتاجا إلى دليل ليعرف الطريق إلى المدرسة الابتدائية فقد عاش شهور الإجازة بالبندر، ومن الطبيعي أن يعرف المدرسة الابتدائية التي سيتعلم بها ...
ودخل المدرسة، وفي لحظات وجد التلاميذ قد أصبحوا جماعات متفرقة، ووجد أبناء قريته جماعة وحدهم، وما لبث أن وجد الكثيرين من أبناء مدرسته الأولى، ولم يفكر أن ينضم إلى أية جماعة وإنما بقي وحده منفردا لا يجد أحدا يأنس إليه. فهو غريب عن أبناء قريته غربته عن أبناء مدرسته السابقة.
Bilinmeyen sayfa