يا معشر الأزد وربيعة، أنتم إخواننا في الدين، وشركاؤنا في الصهر، وأشقاؤنا في النسب، وجيراننا في الدار ويدنا على العدو. والله لأزد البصرة أحب إلينا من تميم الكوفة، ولأزد الكوفة أحب إلينا من تميم الشام، فإن استشرف شنآنكم وأبى حسد صدوركم ففي أموالنا وسعة أحلامنا لنا ولكم سعة. (10) قطري بن الفجاءة
هو من مازن بن مالك، كان من أبطال الخوارج وقادتهم وبلغائهم، خرج في زمن عبد الله بن الزبير، وكان مصعب واليا من قبل أخيه على العراقيين، فبقي قطري يقاتل جند السلطان عشرين سنة، صعد منبر الأزارقة فقال:
أما بعد، فإني أحذركم الدنيا فإنها حلوة خضرة، حفت بالشهوات وراقت بالقليل، وتحببت بالعاجلة، وحليت بالآمال، وتزينت بالغرور، لا تدوم حبرتها، ولا تؤمن فجعتها، غرارة هزارة، خوانة غدارة، وحائلة زائفة، ونافذة بائدة، أكالة غوالة، بذالة نقالة، لا تعدو إذا هي تناهت إلى أمنية أهل الرغبة فيها والرضا عنها أن تكون كما قال الله تعالى:
كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيما تذروه الرياح وكان الله على كل شيء مقتدرا
مع أن امرءا لم يكن معها في حبرة إلا أعقبته بعدها عبرة، ولم يلق من سرائها بطنا إلا منحته من ضرائها ظهرا، ولم تطل غيثة رخاء إلا أهطلت عليه مزنة بلاء، وحري إذا أصبحت له منتصرة أن تمسك له خاذلة متنكرة، وإن جانب منها اعذوذب واحلولى أمر منها جانب وأوبى، وإن أتت أمرا من غضارتها ورفاهتها نعما أرهقته من نوائبها نقما، ولم يمس امرؤ منها في جناح آمن إلا أصبح منها على قوادم خوف. غرور ما فيها فان ما عليها، لا خير في شيء من زادها إلا التقوى، من أقل منها استكثر مما يؤمنه، ومن استكثر منها استكثر مما يوبقه ويطيل حزنه ويبكي عينيه.
كم واثق بها قد أفجعته! وذي طمأنينة إليها قد صرعته! وذي اختيال فيها قد خدعته! وكم من ذي أبهة بها قد صيرته حقيرا! وذي نخوة قد ردته ذليلا! وكم من ذي تاج قد كبته لليدين والفم! سلطانها دول، وغيثها رنق، وعذبها أجاج، وحلوها صبر، وغذاؤها سمام، وأسبابها رمام، وقطافها سلع، حيها بعرض موت، وصحيحها بعرض سقم، ومنيعها بعرض اهتضام، مليكها مسلوب، وعزيزها مغلوب، وسليمها منكوب، وجامعها محروب، مع أن وراء ذلك سكرات الموت، وهول المطلع، والوقوف بين يدي الحكم العدل:
ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى .
ألستم في مساكن من كان أطول منكم أعمارا، وأوضح منكم آثارا وأعد عديدا، وأكتف جنودا وأعند عنودا؟ تعبدوا للدنيا أي تعبد، وآثروها أي إيثار، وظعنوا عنها بالكره والصغار، فهل بلغكم أن الدنيا سمحت لهم نفسا بفدية، أو أغنت عنهم فيما قد أهلكتهم بخطب؟ بل قد أرهقتهم بالفوادح، وعقرتهم بالمصائب، وقد رأيتم تنكرها لمن دان لها وأخلد إليها حين ظعنوا عنها لفراق الأبد إلى آخر المسند، هل زودتهم إلا الشقاء، وأحلتهم إلا الضنك أو نورت لهم إلا الظلمة، أو أعقبتهم إلا الندامة، أفهذه تؤثرون، أم على هذه تحرصون، أم إليها تطمئنون؟ يقول الله:
من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون * أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون .
فبئست الدار لمن أقاموا فيها! فاعلموا وأنتم تعلمون أنكم تاركوها لا بد، فإنما هي كما وصفها الله باللعب واللهو، وقد قال الله تعالى:
Bilinmeyen sayfa