1
لا بد لي في مطلع هذا الباب من كلمة في الترجمة، كما يجب أن تكون وكما أفهمها، وكما تعودت أن أسير عليه فيما عانيته منها، فإني أعتقد أن الغاية من الترجمة ليست في إظهار مناهج الإنشاء بقدر ما هي في التعبير عن فكرة المؤلف ومقصده ونقل معانيه وتمثيل تصوراته، ولو كان المقصود ترجمة الألفاظ والتراكيب قبل غيرها لفسدت الترجمة على الإطلاق، وربما كان هذا ما حمل اللورد بيرون أن يقول: «إن من أكبر المصائب على المؤلف أن يترجم إلى لغة غريبة.» فإنه من المستحيل أن تتفق تراكيب الجمل في مختلف اللغات، والقالب الذي يختاره الكاتب أو الشاعر ليفرغ فيه معانيه لا يمكن أن يكون واحدا فيها كلها، فإذا حاولنا أن نترجم ما نريد ترجمة حرفية للمحافظة على هذا القالب ما أمكن؛ أسأنا إلى المؤلف من حيث لا ندري، وأسأنا إلى أنفسنا بما نقع فيه من غرابة التعبير وركاكة الإنشاء، وهذا ما نراه كل يوم في أكثر ما نقرؤه في الجرائد والمجلات من المقالات الطبية والأدبية وغيرها التي تبدو أعجمية بألفاظ عربية، فتتعبنا قراءتها وتقصينا عن فهم ما فيها أو التلذذ به.
فالترجمة الحرفية - كما يقصد من هذه الكلمة - ليست بالطريقة المثلى لحفظ جمال الأصل، أو للوصول إلى الغاية من أثرها في ذهن القارئ العربي. حسب المترجم أن يتفهم معاني الكاتب ويدرك مقاصده ويدخل في إهابه - إن سمح لي بهذا التعبير - ثم يجتهد أن يقدم للقارئ قالبا عربيا لا ينفر منه ذوقه، ولا يأباه سمعه، فيختلف التركيب عن الأصل بعض الاختلاف، ويبقى المعنى والأسلوب على حالهما.
إن في الفرنسية أو الإنكليزية مثلا جملة تفيد معنى، ولكن هذا المعنى لا يمثل في لغتنا إلا بجملتين وبالعكس، فقد تجد المعنى الذي يقتضي التعبير عنه جملتين في إحدى اللغات الغربية يكفيه في العربية جملة أو كلمة، فلا يجب أن يمنعنا عن استعمال هذه الجملة أو الكلمة بعدها عن الترجمة الحرفية ما دامت موصلة إلى التأثير المطلوب.
وإني أورد هنا مثلا من هذه الترجمة التي لا يسعنا أن نسميها حرفية، وهي مع ذلك أمينة لا تذهب شيئا من جمال الأصل، ولا تضعف من الأثر الذي أراده المؤلف فضلا عن أنها تتجرد عن العجمة ما أمكن، وتظهر للقارئ في برد عربي فيكاد لا يشعر أنها مترجمة:
يقول لامارتين في مطلع قصيدته «البحيرة» ما معناه بالحرف الواحد: «أهكذا ونحن مدفوعون أبدا نحو شواطئ جديدة ومحمولون في الليل الأبدي بلا رجوع لا نستطيع أن نلتقي على شواطئ الأعمار مرساتنا يوما؟» مهما نحاول تنميق هذه العبارة فنقدم ونؤخر فيها مع المحافظة على «حرفيتها» فهي لا تسلم من الركاكة والعجمة، ولكنا إذا اكتفينا بالمعنى واجتهدنا أن نشعر شعور الناظم عند ما قاله، ثم حاولنا نظمه كأنه صادر عنا قلنا مثلا:
أهكذا أبدا تمضي أمانينا
نطوي الحياة وليل الموت يطوينا
تجري بنا سفن الأعمار ماخرة
بحر الوجود ولا نلقي مراسينا؟
Bilinmeyen sayfa