ومنها ما له ابتسامة السماء في ليالي الشتاء.
من الكلام ما يفعل كالمقرعة وهو كلام الانتقاد والتنديد، ومنه ما يجري كالنبع الصافي وهو المعد للرضى والغفران.
ومنه ما يضيء كالشهب وهو كلام التعظيم.
كذلك من الألفاظ ما ليس له طابع خاص فيؤتى به لتقوية الجملة ودعم المعنى فهو يلائم كل حال.
تلك هي الأدوات المعدة لبناء الخطبة تتطلب مهندسا بارعا ومصورا حاذقا ليؤلف بينها تأليفا موافقا ويرصفها رصفا حسنا، ويخلع عليها بردا جميل النسج لامع الديباجة، يترجم معنى العظمة أو الجمال أو القوة كما في حجارة الفسيفساء. وإذا وقف الخطيب عند انتقاء الألفاظ ولم يعن بالتأليف والرصف فاته القصد وقصر دون الغاية من البلاغة؛ لأن الألفاظ حاصلة لكل إنسان دائرة على كل لسان، ولا يمتاز جامعها إلا بفضل تركيبها، قال الجاحظ: انظر إلى قوله تعالي:
وقيل يا أرض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعدا للقوم الظالمين
وما اشتملت عليه هذه الآية من الحسن والطلاوة والرونق والمائية التي لا يقدر البشر على الإتيان بمثلها، ولا يستطيع أفصح الناس مضاهاتها، على أن ألفاظها المفردة كثيرة الاستعمال دائرة على الألسنة، فقوة التركيب وحسن السبك هو الذي ظهر فيه الإعجاز.
إن البلاغة لا تقتصر على إفهام السامع كلام القائل وإلا لتساوت الفصاحة واللكنة والملحون والمعرب، وإنما المقصود الإفهام على سنة كلام البلغاء بأن «يجعل لكل طبقة كلام، ولكل حال مقام» وأن يخلع الخطيب من ألفاظه على معانيه حلة نور وضياء؛ ليتسنى للسامعين أن يشاركوه في تلك الرؤيا الجميلة التي تتجلى في ذهنه وبين تصوراته، ولا يكون الخطيب فيما يقول كالرجل الذي يكثر من الإشارات في الظلمة ثم هو يتعجب كيف لا يراه الناس.
3
إن الأساس الذي يبنى عليه الإنشاء الخطابي هو العاطفة والشعور لأن الغاية الأولى من الخطاب هي أن تنقل ما في قلبك من الإحساسات إلى قلوب سامعيك، قال دلامبر: «إن الذي يكتفي بالإقناع دون التحميس فهو متكلم لا بليغ.» وقال رفالور: «إن الأهواء والعواطف هي الخطيب في الجماهير.» وقال ميرابو: «السر كل السر في البلاغة الخطابية أن يكون الإنسان ملتهبا بالعواطف.» قال الحسين - وسمع متكلما يعظ فلم تقع موعظته من قلبه بموضع: «يا هذا إن بقلبك لشرا أو بقلبي.» يريد أن الكلام الخالي من العاطفة قد يكون مفعما بالحقائق، ولا يجد مع ذلك سبيلا إلى النفس.
Bilinmeyen sayfa