فهذا شأن الله تعالى في العباد. فإذا جاء الحق يشكو معاندا ثار السلطان، بالعقوبات، واعتزلت الرحمة، فإن المعاند مبارز . ورب عبد تحل به (العقوبة) في طرفة عين، ورب عبد تطل العقوبة على رأسه إلى مدة سنين، حتى يؤذن لها فتحل به عند وقت ظهور فعل من الأركان، ليكون عذر الله ظاهرا في حلول العقوبة. وقد مضت العقوبة على قوم لوط عشاء، فحلت بهم عند الصبح. وكذلك حكى الله تعالى في تنزيله، فقال: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا} وكذلك فرعون وقومه، مضت العقوبة عند إجابة الله تعالى لها في وقت الغرق.
فهذا المنتبه يأخذ عن الله. فإن كنت وجدتني كذلك، فإنما وجدتني أحتذي على مثال ما حكى (الله سبحانه). فإن المؤمن إنما يعامل الخلق عن الله وبالحق؛ وهو يقتضيهم ذلك. فإن لم يجد هذا وجد في قلبه لهم من الرحمة ما يطفئ ذلك السلطان الذي في قلبه. فإن مع الحق سلطانا، والسلطان كالنار. وإذا وجد هذا العبد من الخلق أذى للحق وجد قلبه عليهم وثار السلطان فيه، فتجيء الرحمة، التي في قلبه فتطفئ تلك الثائرة، فيلين كلامه (ولكن) إذا جاءه معاند، فهو رجل جبار (فيجب على المؤمن حينئذ أن) يجر نفسه وما فيها من الحسد والكبر، ولا يتركه يعاند الحق. فإذا عاند الحق، فكأنه بارز الله تعالى، فعندئذ يثور السلطان وتلين الرحمة. فمحال أن يستعمل الصادق في أمره الرحمة على المعاند. وكيف يقدر أن يستعمل الرحمة ونفسه جبارة عنيدة؟
وقد قال الله تعالى: {وخاب كل جبار عنيد} فهل خاب إلا من الرحمة؟ فكيف يرحم (الصادق) عبدا خيبه الله من الرحمة؟ إلا (أن يكون) عبدا يريد أن يتزين للخلق، ويتضع تكلف الرحمة فيتكلفها بالإعراض واللين والسكون؛ لا يحب أن تسقط عند الخلق مدحته. فإن للنفوس خدائع، تقول لصاحبها: متى أغلظت وأظهرت الغضب يقال إنك لست بحليم. فهو يتكلف الحلم ههنا، في هذا الموضع مرآة وتصنعا، إبقاء على مدحته وجاهه عند من لا يملك ضرا ولا نفعا.
فأولياء الله وأهل صدقه ووفائه، قد طار عن قلوبهم رضى الخلق وسخطهم وقبولهم ونفيهم. وإنما شأنهم استعمال الحق في أوانه، واستعمال الرحمة في أوانها. فالحق كالنار، لأنه من السلطان وهو مقرون به. والرحمة كالماء. فإذا جاء الحق، واقتضاك النصرة وجاءت الرحمة فأطفأت سلطانه، فأنت مغرور. وإذا اقتضاك النصرة، واعتزلت الرحمة: فإن تكلفت الرحمة فكففت عن النصرة، ترفقا كترفق النساء فأنت مراء. وصاحب هذا، لم يبلغ بعد نصرة الحق، ولا أعطي سلطانه. إنما هو رجل تابع للحق في زعم نفسه.
Sayfa 79