فالسبب في المدة بعد الجذب، هو الذي ذكرت. ألا ترى إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، لما نبئ أجاب فرقا ووقع كالمغشي عليه؟ فلم تزل النبوة تعمل فيه. ثم أمر بأن يصدع بأمر الله. وقبض يده عن الحرب، حتى هذبه وأدبه، في هذه السنين العشر. وسلط عليه أعداءه بألوان الأذى: من الضرب وسوء الجوار وفنون المكروه. وفي خلال ذلك يقول (له): {فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين}، {فاصفح عنهم وقل سلام}، {إنما أنت مذكر لست عليهم بمصيطر}، {وما أنت عليهم بوكيل}، {فإنما عليك البلاغ وعلينا الحساب}، {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا}، {إنك لا تهدي من أحببت}، {وإن كان كبر عليك إعراضهم} إلى قوله: {الجاهلين} يعني: أن من كانت له مشيئة معه مشيئة الله فذلك شعبة من الجهل، فيلزمه اسم الجهل.
فهذه الآيات تأديب من الله له، وموعظة لعبده: ليعلم أن النبوة أخذته والنفس حية تعمل عملها. فقبض يده عن (ولاية) قتل عبيده (بالعدل)، والحكم فيهم بسلطانه (سلطان الحق). فلم يوله ولاية السلطان (بالحق والعدل) حتى تمت له السنون العشر، من يوم أظهر الدعوة. وذلك تمام العدد، وهي عشرة كاملة. فلما انتهت المدة، أثنى الله عليه فقال: {وإنك لعلى خلق عظيم}.
وأي خلق أعظم من خلق من ترك مشيئته ونبذها وراء ظهره حتى استقام قلبه على أخلاق الله، وهي مائة وسبعة عشر خلقا؟ حدثني بذلك أبي، رحمه الله، حدثنا يحيى بن إبراهيم، قال: حدثنا عبد الواحد بن زيد، قال: حدثنا راشد، مولى عثمان، قال: حدثنا مولاي عثمان بن عفان، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((إن لله مائة وسبعة عشرة خلقا، من آتاه بواحدة منها دخل الجنة)).
فلما زالت عنه أخلاق النفس، جاء الإذن بضرب السيف فجاءت النصرة: قال الله تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا} أي: في سبيل الله. ثم قال تعالى: {وإن الله على نصرهم لقدير} فوعدهم النصرة، وبوأ لهم مكان الهجرة. فأعطاه النصرة على أيدي الأنصار. وقع قطعه من الرعب تسير أمامه مسيرة شهر، فتذهل النفوس، وتجزع القلوب، وتطير الأفئدة عن أماكنها من أجله! هذا، بعدما هذبه، وأدبه، وقوم نفسه.
Sayfa 71