ضمير قلق
مآتمنا
نظرة في الطريق
رغيف الشفاء
الشباب المدبر والشعرة البيضاء
الدعوات
الكأس المرة
على مسرح الإدارة
واسع الرحمة
ساعة عبادة
Bilinmeyen sayfa
شكوى إلى الله
يمين رولان
القهوة والبيت
في ذكرى عام
في نعيم الفن
العيش الحقير والعيش الكبير
في شم النسيم
عيد آمنة
قرابين الانتخاب
الوطن
Bilinmeyen sayfa
الاكروبوليس
وقفة بالحصن المقدس
الله أكبر
لقاء الوطن
لعام 1924
السماء
الموت الساخر
عائلة
ضيق وضجر
لذكرى الأديب1
Bilinmeyen sayfa
في الغابة
دار ودار
حياة حول موت
طيف زائر
حول ما لله
رحاب العلم ورحاب الدين
الغيبة والبهتان
حقوق الأفراد
الجمود
إلى الفتيات المبعوثات
Bilinmeyen sayfa
حول الديمقراطية
فكر سجين
صورة من صور النفاق
صورة من صور التقلب
سعادة الباشا أو صورة من صور التصنع
لعام 1926
عند أطلال طيبة
أيام العيد الفائتة
التسامح
للعام الهجري الجديد
Bilinmeyen sayfa
لهجة ابن الخاقان
الرضا
عام 27
الإيثار
الدس والحسد
نصف شعبان
العفر الطاهر
التصنع والتواضع
أيام العيد
الإغراق في المجاملة
Bilinmeyen sayfa
القانون الخلقي وجلاله
أنت أنت الله
عام 1930
ضمير قلق
مآتمنا
نظرة في الطريق
رغيف الشفاء
الشباب المدبر والشعرة البيضاء
الدعوات
الكأس المرة
Bilinmeyen sayfa
على مسرح الإدارة
واسع الرحمة
ساعة عبادة
شكوى إلى الله
يمين رولان
القهوة والبيت
في ذكرى عام
في نعيم الفن
العيش الحقير والعيش الكبير
في شم النسيم
Bilinmeyen sayfa
عيد آمنة
قرابين الانتخاب
الوطن
الاكروبوليس
وقفة بالحصن المقدس
الله أكبر
لقاء الوطن
لعام 1924
السماء
الموت الساخر
Bilinmeyen sayfa
عائلة
ضيق وضجر
لذكرى الأديب1
في الغابة
دار ودار
حياة حول موت
طيف زائر
حول ما لله
رحاب العلم ورحاب الدين
الغيبة والبهتان
Bilinmeyen sayfa
حقوق الأفراد
الجمود
إلى الفتيات المبعوثات
حول الديمقراطية
فكر سجين
صورة من صور النفاق
صورة من صور التقلب
سعادة الباشا أو صورة من صور التصنع
لعام 1926
عند أطلال طيبة
Bilinmeyen sayfa
أيام العيد الفائتة
التسامح
للعام الهجري الجديد
لهجة ابن الخاقان
الرضا
عام 27
الإيثار
الدس والحسد
نصف شعبان
العفر الطاهر
Bilinmeyen sayfa
التصنع والتواضع
أيام العيد
الإغراق في المجاملة
القانون الخلقي وجلاله
أنت أنت الله
عام 1930
خطرات نفس
خطرات نفس
تأليف
الدكتور منصور فهمي
Bilinmeyen sayfa
ضمير قلق
القاهرة في 16 من يوليه سنة 1915
اليوم لا علما أكتب ولا منطقا. إنما هو حديث فتى مهموم في لحظة من تلك اللحظات التي تبعث فيها النفس أعز مكنونها من الشعر والإحساس. حديث فيه تاريخ حال من أحوال نفس بشرية يظفر منه القارئ بجزء صغير من أجزاء تلك الحقيقة الكلية العظمى، التي لو استقصيتها لوجدتها مجموعة لتاريخ الكون في جزئياته. وإن أكرم قسم في ذلك التاريخ ما تضمن أحوال النفوس ومنازعها.
قال الفتى:
إنك تحسبني يا سيدي من أهل السرور وأنصار الصفاء. يغريك بذلك ثغري الضحوك، وارتفاع صوتي في محافل الأنس والطرب، والتماس المجون في كل إشارة وكل عبارة.
على أنك قد نسيت، أيها العزيز، تلك الأوقات التي ألبث فيها ذاهلا عن الناس وأحاديثهم. فتنسدل على وجهي سحابة من الحزن، لا تترك لناظر فيه أن يتبين علامة من علائم النشاط والأمل. ولا تبقي من إشراقه ونضارة الشباب فيه إلا بسمة خاصة، أوهم الناس بها أني معهم فيما يقولون، وأفكر فيما يرتأون.
إنه ليخجلني البقاء يا صديقي في جمع من الجموع وعلي مسوح السواد، بينما تكون الناس راغبة في المسرات واقفة عند أبوابها. ولقد أعمل جهدي على صد غارات الحزن المتتابعة على نفسي، كما تتلاحق الأمواج المرهوبة على جرف حطيم. وحينئذ أعمد إلى البعد عن الناس حتى لا يشذ لباسي الأسود من الأسى عن سرابيلهم النضرة من السرور.
كنت أومن بطهارة الحياة إيمانا، وكنت أحسن الظن بالناس أيما إحسان؛ لأني لم أخرج إلى ساحة العيش إلا من عهد - كما علمت - قريب. وكنت عند عهدي بالشباب تلميذا مجدا كثيرا ما لابست الكتب وانقطعت للدرس، وقليلا ما لابست الناس، ونظرت في شؤون الحياة. ولقد جعل القضاء لطائفة من الكتاب الخياليين علي سلطانا، فكنت أصبو صغيرا للصور الجميلة والخلال الكريمة والأشباح الشريفة التي كانت تخرجها أذهانهم قبل أن أتصل بحقائق الحياة المرة المؤلمة.
خرجت من عالم الكتب إلى عالم الناس، وكنت أتوهم أن الناس يلقونني لأعمل معهم، وأكتب تحت أعينهم صحيفة من سفر الحياة الواسع، فأملأها برسوم الحق والواجب، وآثار العمل والأمل، وأصور فيها صورة الأب الصالح، والزوج الوفي، والوطني الصادق، والإنسان العادل في نفسه وفي الناس. وكنت أظن أن كلمات الحرية والإخلاص والفضيلة والرحمة والكمال وأمثالها مما وسعه المعجم تسعها معاملات الناس بعضهم لبعض، على أنني صدمت صدمة بالغة حين رأيت أن الناس يسيرون على خلاف ما كنت أظن. وأن الحياة تكاد تكون جارية لمقادير غير ما كنت أقدر. وأن السجايا التي كنت أظنها من صفات البشر إنما هي لمخلوقات خيالية تبصرنا ولا نبصرها، وترانا ولا نراها. هالني وأفزعني أن أرى في الحياة مسرحا واسعا للنفاق والرياء والخداع والأباطيل، وأن هذه الأشباح الشنيعة قد صرعت تلك المخلوقات الشريفة التي نسميها الفضائل، واستبدت وحدها بميدان الحياة كله. تساءلت: أكانت الكتب تخدعني، وتغير صور الأشياء، فتجعل ضعفاء الحقيقة هم الأقوياء، وأقوياءها هم الضعفاء؟ أم هو الوجود لم يبلغ بعد في تاريخ نشوءه طورا تنال فيه الفضائل منازلها من الكرامة والإجلال، وتسير في المعاملات كأنها الكواكب تجري في داراتها على سبل ممهدة، فتصبح حينذاك القوة والغلبة ميزة للسجايا وحدها، ثم تساءلت: هل فترة الحياة من شأنها أن يظل فيها أشباح خيالية، تتخذ وكرها في رؤوس البشر، وتشبه الأملاك في نورانية أجسامها، وتغري النفوس بالنزعات العالية، أم توجد كرام السجايا حقا عند أفراد أغنياء بأنفسهم عن الناس معززين منعمين بمداعبتها، يحسبهم الجهال مهزومين، وهم يعيشون كآلهة الأساطير، يسخرون من نعيم الناس، ولهم من أنفسهم أكبر نعيم. وقلت في نفسي بعد ذلك كله: هل القوي في الحياة الاجتماعية هو من يخضع لنواميسها من الرياء والظلم فيخدع ويظلم؟ أم هو الذي يحتقرها في قوانينها ليعيش تحت راية مبادئ أخرى تنسجها له تصوراته وخيالاته السامية؟
إن منشأ همي يا سيدي هو ذلك التنازع القائم بين ما تحن إليه نفسي ونزعاتها، وبين المبادئ التي يقوم عليها المحيط الذي يضمني.
Bilinmeyen sayfa
أأعيش منفردا واحدا في عالم الخيال، أم أدخل إلى ساحة البشر، وأخلع ثوبي الجميل الكريم؟!
مآتمنا
القاهرة في 30 من يوليه سنة 1915
مآتمنا تذهب برهبة الموت ووقار الأسى، فهي ممقوتة عند الله، وهي عار علينا في مظاهرها.
يزعم أهل النظر والعلم أن السرور أدعى إلى صنوف الحركات، وأن الحزن أدعى إلى السكينة. وذهب ابن خلدون إلى أن «طبيعة السرور هي انتشار الروح الحيواني وتفشيه وطبيعة الحزن انقباضه وتكاثفه»!
نعم. صدق في نتيجة رأيه الإمام، فالفرح والوجد أمران مقدوران على البشر من قديم يغشيان الأفراد والأمم. فأما الأول، فآيته الحركة وأما الثاني فآيته السكون. وإذا كان الأول يخلع على الوجوه بهجة ونضارة، فإن الثاني يلقي عليها صنفا من صنوف الحسن أبلغ معانيه الصبر على احتمال المكروه، والشجاعة على احتمال الألم.
إذا صح لي الشك في قول الأمثال السائرة أن الكلام من فضة والسكوت من ذهب، فلقد آمنت أن صمت الأسى أفصح من كلامه، وإشارته أوقع في النفس من عبارته.
ألا أن الموت لا يطلب إلينا إلا أمرا واحدا، هو أن نتعظ به، فإنه أفصح خطيب، ونحفظ الوفاء لمن يموت في الحزن الصادق. وما مظهر الحزن الصادق إلا غمامة جميلة تعلو الوجه، ودمعة حارة تروي الوجنات، وتأوه صامت ينتزع من أعماق الفؤاد.
روي أن النبي
صلى الله عليه وسلم
Bilinmeyen sayfa
أتى ابنه إبراهيم، وهو في حجر أمه يجود بنفسه، فأخذه النبي
صلى الله عليه وسلم
فوضعه في حجره، ثم قال يا إبراهيم: «إنا لا نغني عنك من الله شيئا»، ثم ذرفت عيناه، ثم قال يا إبراهيم: «لولا أنه أمر حق، ووعد صدق، وأن آخرنا سيلحق أولنا لحزنا عليك حزنا هو أشد من هذا، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون، تبكي العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب.» •••
اللهم ارحم قومنا، فإنهم لا يعلمون كيف يجلون وقار الموت، ولا ينعمون ببهجة الحياة!!
نظرة في الطريق
القاهرة في 6 من أغسطس سنة 1915
على هذه الطريق التي تقطعها قدماك كل صباح، ومن هذه المشاهد التي تجري تحت نظرك كل يوم، وفي واسع هذه الضوضاء التي يسبح فيها سمعك، أيها السائر، اتئد وانظر، واتعظ. فبين ذلك صحف حية منشورة بين يديك فيها، لو تعلم، حكم بالغة.
ما أرى في الطريق، وما يجري فيه كأنه عبارة صارخة تقوم على كلمات شتى!!
وما أكثر مفردات هذه العبارة، فيها العامل المكب على عمله، والمتعطل الساكن إلى كسله، والمنعم التائه في نعيمه، والبائس المصدوم في بؤسه، وهذا الطاغي وذاك الباغي. وهذا المسرور وذاك المدحور، وهذا الشاكي وذاك الباكي، وهذا وذاك.
كل واحد من مفردات هذه العبارة؛؛ بل كل فرد من هذه الأفراد الذين يمرون أمامك، إنما هو يمثل معنى من المعاني و«يلعب دورا» من الأدوار في مسرح هذا الوجود.
Bilinmeyen sayfa
هذه كلمة للعمل، وذاك للكسل. هذا للشقاء وذاك للنعمة، هذا للخديعة، وذاك للغرور، وهذه للقوة، والآخر للضعف، وهذا للحق، وهذا للباطل. وهلم جرا.
تلتئم هذه المفردات جميعا لتركب جملة واحدة؛ بل هيكلا واحدا معناه حياتنا الاجتماعية. •••
إذا جاز لأهل البلاغة أن يحكموا على فصاحة الجملة بسلامة الألفاظ وحسن التركيب، فقد يجوز لأهل الاجتماع أن يحكموا على رقي الجماعة بما تحمله أفرادها من تلك المعاني المختلفة.
في الجماعات الوضيعة تربى المفردات السقيمة ذات المعاني الواهية، فإذا رأيت الطريق تموج بأفراد، هذا يمثل دور الكسل وذاك دور اللئيم، وهذا دور المنحط، وذاك دور الخادع. وهذا دور الذليل، فقل: إن هذه الجملة الاجتماعية عليلة لا ينشرح لها الصدر، ولا تجود إلا بمعنى الحياة المنحطة.
وإذا رأيت في بلد ما أن الطريق تموج بأفراد تحمل النشاط قلوبهم والجمال وجوههم، والبشر محياهم، والقوة أجسامهم والنظام أعمالهم، فقل: إن تلك الجملة الناطقة التي يحملها هذا الطريق هي فصيحة بليغة، تدل على رقي الجماعة.
رقي الجماعة هو رقي أفرادها وعظمتها تكون في تعدد أساليب هذا الرقي تعددا يظهر في اختلاف المواهب السليمة للأفراد.
رغيف الشفاء
بين الواقع والخيال
شرنفاش في 8 من أكتوبر سنة 1915
في الحياة ناس ممتعون يحويهم الوجود وهو كاره. يدنون إلى النعيم من طرق يكره الله أن يسير فيها البشر الصالح؛ لأنها مسالك الأدنياء والأشرار، ويقول أهل العبادة والتوكل بأن الله لا يطرح البركة في عيش هؤلاء الناس وصدق السادة المتوكلون.
Bilinmeyen sayfa
إن الرجل الذي آتيك بحديثه ، أيها القارئ، هو شبيهك في نوعه الحيواني، وأرجو أن تكون أعلا منه في إنسانيتك، وأرقى مطمحا.
عاش هذا الرجل حينا من الدهر بين الناعمين، يطعم كما يطعمون من ألوان مختلفة، وينام كما ينامون على لين الفراش، ويخلع الحرير، ويلبس الحرير. وكان يشتغل قليلا، ويظفر من عمله بأجر غير قليل وجاه جزيل، وينال من هذا الجاه تحيات وافرات.
ظل على هذا الحال حتى تولاه مس سيء من حياة النعومة، التي ليست من حقه؛ فأصبح شاحب اللون، شحيم الأعضاء، أجش الصوت، مرتجف القلب، مضطرب الضمير.
هال الرجل أمر مصيبته، ففزع إلى التداوي، فجيء له بصفوة الأطباء.
نصح له الطبيب بالملاهي ليستريض بأنوارها وحسناتها وحسانها، فلم يزده اللهو إلا سقما على جسمه، وسعيرا في نفسه.
نصح له الطبيب أن يتعدى البلاد، ويجوز الشرق للغرب، وينعم هناك بأرض حيا الله رباها، وجدد بهجتها، فلم تزده بلاد البهجة والنعيم إلا هما.
وصف له الطبيب إكسير البحار، وهواء الجبال، وعصير القلوب والأكباد. وصف له الطبيب ما وصف، فلم يبق من الأدوية ولم يذر، ولكن ظل فيه الداء.
وبينما هو ذات يوم يفكر في حاله، ملقى على مقعده، إذ ساقه النوم إلى عالمه، فرأى فيما يرى النائم كأن الحائط قد انشقت، وظهر له من خلفها شبح نوراني، يكاد يكون وجهه كالشمس، أو كالقمر، وسمع صوتا ينادي بأن العلة لا تزول إلا بغذاء من رغيف طاهر معجون بدم الناس، بدم لا ينبع من جرح، ولا يرشح من مرض.
ذعر الرجل من هذه الرؤيا، وضرب في الأرض يسأل كل عالم بتأويل الأحلام؛ حتى التقى بشيخ من أهل الله صالح، قال له: أنا آتيك بتأويل رؤياك، فاتبعني وسار به بعيدا بعيدا عن المدينة، وانتهيا إلى شجرة عجوز، بارك الله في ظلها لمن يلجأ إليه من عملة المزارع الواسعة القريبة إليها، وجلسا يرقبان رجلا عليه ثوب خلق أزرق، يعمل بجد في الأرض.
ولما كادت الشجرة تنتقل ظلالها، وتتوسط الشمس في السماء، مال العامل عن عمله، واتجه نحو الشجرة والعرق يتصبب من جبينه، وإشراق الجهد الصالح يتألق على وجهه، وانتحى ناحية في ظلها الواسع، وأخرج من جعبة حقيرة رغفانا تكاد تكون سوداء ومعها نبات يؤكل، ودعا الشيخ وزميله دعوة الكريم، فتقدم الشيخ إلى الطعام، وأشار على زميله العليل بإتباعه، وأكلا من طعام العامل وشربا من مائه.
Bilinmeyen sayfa
شعر العليل بنوع من الرغبة في الطعام، لم يكن يشعر به من قبل، وبدأ يفكر في أمر الحياة واختلاف جهد الناس فيها ونصيبهم منها، وأخذت تتسرب إلى فكره طائفة من الخواطر من شأنها أن تكسر حدة الطمع، وتحقر النعيم المكتسب من وراء الذلة والدناءة، وتهدي إلى حياة الرضا، والبساطة، والحلال. وكان في ذلك اليوم بدء الشفاء. •••
أن رغيف العامل الفلاح معجون بدمه وعرقه، وبينما هو يهيئه تنقض على كتفه غربان من البشر، يختلسون من لحمه الطاهر طعاما هنيئا، فيئن وهو صابر، ولكن الله عدل شهيد يعطف على الفقير المظلوم جزاء صبره، ويصيب الغربان بمرض في الجسم، ووخز في الضمير.
الشباب المدبر والشعرة البيضاء
شرنفاش في 5 من نوفمبر سنة 1915
أيها القارئ الصديق الشاب:
إن الفتى الذي ألقى عليك قوله كان من هؤلاء الذين أعزهم الله بآية الشباب فقضى ربيع العمر بين لذة الحب ولذة الأمل، ولذة العمل، ولبث يعدو في ذلك السبيل الزاهي حتى اشتعلت في رأسه شعرة بيضاء أدرك بها أنه قطع في سبيل الله ما قطع. وأنه كاد يدخل في مسلك قفر من نعمة الصبا، ونعيم الغزل.
ظن الفتى أن تلك الشعرة هي نذير كاذب بفوات الشباب، وزعم أنها فوتت على نفسها غذاءها من لحمه ودمه فابيضت فخاطبها قائلا: «ليس لك أن تزعجيني أيتها الشعرة، فما زلت بحمد الله فتيا أحب زهرة الربيع الوليدة العطرة، وأطرب من حديث الغانيات وأصبو لذكر كل عمل مجيد.»
ما زلت محبا للحياة أعانقها إجلالا لما فيها من عظمة، وحرصا على ما تظهر به من جمال، فيغشاني الليل، ويجود بفترة هادئة تقبل علي فيها طوائف الرغبات، وإذا بخل الدهر برغبة جاد الليل لنا عنها بجميل العزاء.
يلحق الليل النهار فيشرق وجه الوجود، وتلقي شمس الصباح في نفسي قذيفة من القوة أتعقب بها كل عمل صالح. وهكذا اليوم الصالح إن أغلق في الليل عن عزاء، فإنه يفتح مع الفجر على نشاط ورجاء.
هذه يميني أيتها الشعرة البيضاء، محشوة بالعافية، وهاتان قدماي تحملاني على الأرض غير وجلتين ولا متخلخلتين، وهذا سمعي ليس به وقر، وهذا بصري حديدا، فإذا كنت أيتها الشعرة نذير الهرم، والهرم نذير الموت، فاجعل اللهم يوم لقائي لك في أيام الشباب، فلقد نعمت به ولقد أحببته ووددت لو ألقاك اللهم فتيا.
Bilinmeyen sayfa
يقولون: «إن في تلك الكواكب البراقة أودية وظلالا، فأي فتاة من أهل السماء تنتظرني اليوم تحت كروم هذا النجم اللامع لأقبلها وأشرب من عصير تلك الكروم وأستأنف الحب في عليين، على مرأى من الملائكة والمطهرين.» •••
وا أسفاه لو فلت الشباب، ولم نقض من الشباب إربته.
أن الحياة جميلة، وخير ما في الحياة ربيعها، وخير الربيع ما انقضى بين الحب والعمل والأمل.
الدعوات
على ذكر الحرب
شرنفاش في 12 من نوفمبر سنة 1915
لأهل القرى أصوات أجهر من أصوات المتحضرين؛ وربما كان ذلك؛ لأن صدور القرويين هي أقدر على دفع الهواء وهزه بقوة، أو لأن هواء القرية غير ممزق بالحركات المختلفة التي تقوم عليها المدينة، أو لأنه بليل برطوبة النبت الغض والحقول العطرة، أو من هذه الأسباب جميعا. ولقد طوح النوم عني صوت علا غير بعيد من نافذة غرفتي يدعو لآخر بالبركات. وبمقدار ما آلمني أن أتخلى عن راحة كنت في حاجة شديدة إليها، سرني أن استقبل الصباح على صوت امرئ من الأنس يبغي الخير لأخيه.
أثار ذلك الحادث في نفسي خواطر شتى، تطوف حول الدعوات، وتجر إلى البحث في ماهية الأماني، وما ينجم من الشعور بالضعف عند عدم نيلها، وما يكون من الاستنجاد بقوى عظمى تذعن لها قلوب الناس يوم تظل عقولهم وقدرتهم قاصرة عن إدراك ما يطمع العلم في كشف أسبابه، وغير ذلك من المسائل التي يطرحها أهل العلم للتنقيب.
وقد يكون للسادة رجال الدين آراء في تلك المطالب التي يوجهها العبد إلى رب حكيم قدير، إن شاء ردها، وإن شاء لقيها بقبول.
لست اليوم أبحث في الدعوات من سبيل السادة أهل العلم، أو من وجهة السادة أهل الدين، وحسبي أنها نزعات فطرية موجودة في البشر منذ علم للبشر تاريخ. يسجل القلب تلك النزعات، ثم يرفعها اللسان نحو ملكوت مسير الأمور ومصرف الأحوال.
Bilinmeyen sayfa