بل هو قائم في النفوس قبل ورود الشريعة به ألا ترى أن الجاهلية الجهلاء كانت تحصن فروج مفارشها وإذا شك الرجل منهم في بعض ولده لم يلحقه به خلقًا قادت إليه الأنفة والطبيعة ولم يقتضه نص ولا شريعة. وكذلك قول الله تعالى ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ﴾ قد كان هذا من أظهر شيء معهم وأكثره في استعمالهم أعني حفظهم للجار ومدافعتهم عن الذمار١ فكأن الشريعة إنما وردت فيما هذه حاله بما كان معلومًا معمولًا به حتى إنها لو لم ترد بإيجابه لما أخل ذلك بحاله لاستمرار الكافة على فعاله. فما هذه صورته من عللهم جار مجرى علل النحويين. ولكن ليت شعري من أين يعلم وجه المصلحة في جعل الفجر ركعتين والظهر والعصر أربعًا أربعًا والمغرب ثلاثًا والعشاء الآخرة أربعًا ومن أين يعلم علة ترتيب الأذان على ما هو عليه وكيف تعرف علة تنزيل مناسك الحج على صورتها ومطرد العمل بها ونحو هذا كثير جدًّا. ولست تجد شيئًا مما علل به القوم وجوه الإعراب إلا والنفس تقبله والحس منطو على الاعتراف به ألا ترى أن عوارض ما يوجد في هذه اللغة شيء سبق وقت الشرع وفزع إلى التحاكم فيه إلى بديهة الطبع فجميع علل النحو إذًا مواطئة للطباع وعلل الفقه لا ينقاد جميعها هذا الانقياد. فهذا فرق.
سؤال "قوي"٢: فإن قلت: فقد نجد في اللغة أشياء كثيرة غير محصاة ولا محصلة لا نعرف لها سببًا ولا نجد إلى الإحاطة بعللها مذهبًا. فمن ذلك إهمال ما أهمل وليس في القياس ما يدعو إلى إهماله وهذا أوسع من أن يحوج إلى ذكر طرف
_________
١ الذمار -بزنة كتاب- ما لزمك حفظه مما يتعلق بك.
٢ زيادة في أ. وقد جاء هذا الوصف في المطبوعة، ش، ب بجانب "فرق" وسقط فيما في هذا الموضع.
1 / 52