باب ذكر علل العربية أكلامية هي أم فقهية؟ ١
اعلم أن علل٢ النحويين -وأعني بذلك حذاقهم المتقنين لا ألفافهم٣ المستضعفين- أقرب إلى علل المتكلمين منها إلى علل المتفقهين. وذلك أنهم إنما يحيلون على الحس ويحتجون فيه بثقل الحال أو خفتها على النفس وليس كذلك حديث علل الفقه. وذلك أنها إنما هي أعلام وأمارات لوقوع الأحكام ووجوه الحكمة فيها خفية عنا غير بادية الصفحة٤ لنا؛ ألا ترى أن ترتيب مناسك الحج وفرائض الطهور والصلاة والطلاق وغير ذلك إنما يرجع في وجوبه إلى ورود الأمر بعمله ولا تعرف علة جعل الصلوات في اليوم والليلة خمسًا دون غيرها من العدد ولا يعلم أيضًا حال الحكمة والمصلحة في عدد الركعات ولا في اختلاف ما فيها من التسبيح والتلاوات إلى غير ذلك مما يطول ذكره ولا تحلى النفس بمعرفة السبب الذي كان له ومن أجله وليس كذلك علل النحويين. وسأذكر طرفًا من ذلك لتصح الحال به.
_________
١ لما كان هم أبي الفتح في هذا الكتاب إبداء حكمة العرب وسداد مقاصدهم فيما أتوا في لغتهم، كان ذلك بإبداء العلل لسننهم وخططهم في تأليف لسانهم أخذ نفسه في تقوية العلل التي تنسب إلى أفعالهم وتحمل عليهم؛ وهو ما يقوم به النحويون. وكان من دواعي ذلك أن اشتهر بين الناس ضعف علل النحاة؛ فهذا ابن فارس يقول:
مرت بنا هيفاء مجدولة ... تركت تنمي لتركي
ترنو بطرف فاتر فاتن ... أضعف من حجة نحوي
انظر وفيات ابن خلكان ص٣٦ ج١ في ترجمة ابن فارس.
٢ كذا في ش، ب. وفي أ "علل جلل النحو بين". وفي المطبوعة "علل جل النحو بين".
٣ الألفاف: القوم يجتمعون من قبائل شتى ليس أصلهم واحدًا، والواحد لف أو لفيف، وشأن هؤلاء الأخلاط الضعف وعدم استحكام القوة.
٤ كذا في الأصول ما عدا ج ففيها "الصفح". والصفح والصفحة: الجانب.
٥ أي لا تظفر، يقال: حليت من فلان بخير: أصبته وأدركته، من ذلك قولهم: ما حليت من هذا الأمر بطائل، وهو من باب علم.
1 / 49