وليس بمدع أن هذا باب مستور ولا حديث غير مشهور حتى إنه لا يعرفه أحد إلا الله وحده وإنما العادة في أمثاله عموم معرفة الناس به لفشوه فيهم وكثرة جريانه على ألسنتهم.
فإن قيل: فقد جاء عنهم في كتمان الحب وطيه وستره والبجح١ بذلك والادعاء له ما لا خفاء به؛ فقد ترى إلى اعتدال الحالين فيما ذكرت.
قيل: هذا وإن جاء عنهم فإن إظهاره أنسب٢ عندهم وأعذب على مستمعهم ألا ترى أن فيه إيذانًا من صاحبه بعجزه عنه وعن ستر مثله ولو أمكنه إخفاؤه والتحامل٣ به لكان مطيقًا له مقتدرًا عليه وليس في هذا من التغزل ما في الاعتراف بالبعل٤ به وخور الطبيعة عن الاستقلال بمثله ألا ترى إلى قول عمر "بن أبي ربيعة"٥:
فقلت لها ما بي من ترقب ... ولكن سري ليس يحمله مثلي٦
وكذلك قول الأعشى:
وهل تطيق وداعًا أيها الرجل٧
وكذلك قول الآخر:
ودعته بدموعي يوم فارقني ... ولم أطق جزعًا للبين مد يدي٨
_________
١ البجح بالشيء: الفرح به.
٢ أي أرق نسيبا واغزل.
٣ مصدر تحامل في الأمر وبه: تكلفه على مشقة.
٤ البعل -بالتحريك: الضجر.
٥ زيادة من ج.
٦ من قصيدة له مطلعها:
جرى ناصح بالود بيني وبينها ... فقربني يوم الحصاب إلى قتل
وقبله:
فقال وأرخت جانب الستر بيننا ... معي فتحدث غير ذي رقبة أهلي
وانظر الديوان. والحصاب -بزنة كتاب- موضع رمي الجمار بمنى.
٧ صدره:
ودع هريرة إن الركب مرتحل
وهو مطلع معلقته
٨ هذا البيت أول ثلاثة أبيات في المختار من شعر بشار ٣٤٨ ويه "صالحته" بدل "ودعته".
1 / 44