أحنت جهان رأسها أمام الشمس المتصاعدة تسبح الله وتتلو الفاتحة، ثم قالت في سرها: كل ما يأتينا به اليوم هو من لدنك أيها الرحمن الرحيم رب العالمين.
ولكن عقل جهان عقل غربي التهذيب، عقل تسعرت فيه الثورة والتمرد، غربي المعرفة، له صلاة خاصة تلتها في ذلك الصباح عندما وقفت في الرواق، ووجهها مرفوع نحو الشمس.
أيها الرب الكريم القدير، أنت الزارع فينا بذور الأماني الخالدة فلا تلعنا إذا تدبرناها بالتربية، أنت مبدع الحب والحرية فلا ترذلنا إذا حطمنا جدران سجننا، أنت متناه رحمة وعدلا، فلا تسخط علينا إذا قاومنا كفر الرجل وطغيانه.
ثم هزت رأسها قائلة: كلا، كأنها تريد أن تقتاد الشريعة الإلهية بيدها، وأعادت قولها: كلا، بصوت متقطع كأنها تجديف بعد صلاتها «كلا، إننا لن نخضع منذ اليوم لطغيان الرجل وجبره، ولا فرق إن كان زوجا أو أخا أو أبا، أو صاحب تاج وصولجان.»
قالت هذا وخطت نحو منضدتها لتراجع المذكرة التي كانت تدون فيها ما يطلب منها من الأعمال، فكان يومها هذا الذي تبتدئ فيه قصتنا كثير المواعيد ساعاته رهينة أعمال شتى، فإن شغلها في المستشفى يتناول ساعات الصباح، وبعد الظهر عليها أن تلقي عظة في إحدى مدارس البنات في إسطمبول، وفي المساء تبيع أزهارا في السوق الخيرية في جنائن تقسيم.
وكان عليها أيضا أن تنجز مقالة في موضوع الجهاد لجريدة طنين، ناهيك بفرضها اليومي من كتاب نيتشى «هكذا قال زاراتوسترا»، الذي كانت تنقله إلى اللغة التركية، ولكنها أهملته أياما، فهذا القدر من العمل لامرأة تركية ما يستوجب الإعجاب، ولكن ثقة جهان بنفسها لمن الأمور المدهشة، وفي كلا الأمرين لم تكن شرقية، على أنها لم تتجاوز في نشاطها وإقدامها كونها امرأة، وكثيرا ما حال إعجابها بجمالها دون ثقتها بنفسها.
كانت جهان سليمة الطوية، مخلصة فيما تقول وتفعل، وكانت فوق ذلك ذات حنكة عجيبة، كثيرة المعرفة بأساليب الاجتماع والسياسة، جديرة بأن تكون زعيمة من زعيمات أميركا المطالبات بالحقوق النسائية، أو نبيلة من نبيلات لندره، أو صاحبة صالون في باريس، ولكنها تركية المولد، وقد قضي عليها أن تقيم في وسط تقاليده قديمة قاسية، ناهيك بما ورثته عن الأجداد مما كان يحول دون أميالها العصرية، ويزعزع معقولا تشرب التهذيب الأجنبي، وطالما تجاذبت هذه الأضداد نفسها فأحدثت فيها حيرة الانتقاء والتفضيل، بل طالما قاست أشد العذابات الروحية والعقلية وهي تسعى في التوفيق بين عناصر متباينة متضاربة، ولم يكن لامرأة تركية، بل لامرئ شرقي فيما مضى من الزمان أن يتوفق في مثل هذا السير.
هكذا كانت جهان غريبة الأطوار متباينة الأميال والآمال، ولكنها ذات صلاح وفطنة، وقد كان الدين متأصلا في قلبها، ولكنها كانت بعيدة عن التظاهر بالتقوى، ولا تكترث بالخرافات والترهات الدينية، ولقد كانت وهي تسعى لإتمام مقاصدها الجليلة متأنية متسرعة معا، ثابتة حينا، وحينا مترددة، أديبة بارعة، تقية متعقلة، طامحة شاردة، ناشدة حب وإيمان وسيادة، كأن قلبها دائرة للأدب والأدباء، وعقلها ديوان للسياسة والسياسيين، ونفسها جامع للعصريين من المؤمنين، فضلا عن ذلك أن الجنرال فون والنستين كان قد سعى لها بإنعام من الإمبراطور، فزادها ذلك نشاطا وعزما، وأكسب حماستها الشرقية أجنحة غربية، وطلى معدن عجبها القليل من الذهب.
لبست ثيابها صباح ذاك اليوم وهي تقول: «تبارك هذا الفجر» ولكنها لما اقتربت من منضدتها وقع نظرها على كتاب نيتشى وفيه صحيفة ظاهر طرفها وضعتها علامة لمطالعتها، صحيفة خط فيها ما يفسد كل مساعيها لو اكترثت به، خط فيها ما يلاشي كل آمالها وأمانيها الحديثة والقديمة، لو قرأت مذعنة طائعة، وكانت تلك العلامة موضوعة في الكتاب منذ ثلاثة أيام، ولهذا كانت عرضة لاطلاعها ثلاث مرات، ولإثارة تمردها ثلاث مرات أيضا.
وجاءت ليلة أمس فانفجرت شعلة غضب من مصدر تلك الأوامر التي أخذت تقرأها جهان مرة أخرى.
Bilinmeyen sayfa