أدخلته قدس أقداس الحريم العابق بالروائح العطرية التي تسكر النفس، وتذيب الفؤاد، ولقد ظن بادئ ذي بدء أن كل ما كان أمامه وهم لا حقيقة ما خلا اليد التي أمسك بها، والعينين اللتين حدق بهما، وتلك الطلعة الجميلة؛ طلعة جهان! وذاك القد قدها اليتيم الذي ضمه إليه، فأضرم في نفسه النار وهي تشعر بحقيقة حال يفوق جمالها جمال التصور والخيال. - لا، لا، ليس الآن.
قالت هذا جهان متطلعة فيه بعينين عاشقتين ذابلتين وهي تبتعد وتقترب منه كلهيب النار في موقد كانون.
أما السيف الذي أرادت أن تريه إياه، فقد كان معلقا على الحائط فوق الديوان، فأنزلته قائلة: هذا أثمن السيوف وأجلها معنى، وهو أثر تحتفظ به العائلة، عائلتنا؛ لأنه جاء لوالدي بالتوارث عن أحد جدوده يوم حارب المسيحيين عند أبواب فيانا! أما أبي فلما قضى آخر أولاده استأمنني عليه قائلا: ليكن هذا السيف من نصيب عريسك الذي سيرث شرف أجدادك المقدس.
فتناول الجنرال ذلك السيف معيدا كلمتها «عريسك»: هذا هو السيف الذي أضعته، السيف الذي كان يجب أن أرثه، نعم. - هو تقدمة مني إليك أيها الجنرال. - لله درك من حسناء كريمة الأخلاق، بهية الطلعة، حلوة المحيا.
وقد تنحت عنه مرة أخرى أيضا حائرة بأمره مترددة قائلة: لعل سليما قد غلط بفنجال القهوة إذ قد نفدت حيلتها التي تظاهرت بها متلبسة صفات غير طبيعية فيها، ولهذا بدأت تشعر بعناء وقلق خائفة أن تكون لم تحسن ترتيب الأمر، أو أن يعود إلى ما سبق له من قلق البال، وإيجاس الشر بالرغم من أنها جاهدت في استبقاء رشدها، والمحافظة على التكتم بما تظاهرت به. - لم يحن الوقت بعد، اجلس ودعني وحريتي هذه الليلة، السيف لك، وأنا أيضا، و... و... وسأعود إليك في الحال.
وخرجت من الغرفة تاركة ضيفها على الديوان، أما هو فتناول السيف مرة ثانية مجيلا نظره في ما نقش عليه بالتركية، مقلبا إياه بيده، معجبا بنصابه المطعم بالذهب، وكان ذلك التطعيم عربيا، وهو آية من القرآن لا تروق لمسيحي ما، ولا يحب سماعها وهي:
واقتلوهم حيث ثقفتموهم ، والضمير في هذه العبارة عائد إلى الكفار المشركين، إلا أن جهل الجنرال اللغة كان بركة ونعمة، ثم أنعم النظر بالغمد المرصع بالحجارة الكريمة، ممسكا بالنصاب على طول ذراعه، وضغط بسنانه على البلاط ليراه يلتوي، فتبسم قائلا: لقد أصبح ملكي، وجهان، حوريتي، سلطانتي العائدة إلي قريبا هي لي ليلة واحدة أخرى في الأقل.
ومرت عشر دقائق قبيل أن عادت جهان وهو ينتظرها بصبر كاد أن يفرغ، وبعدئذ أخذ يتمشى في الغرفة، ولم يزل السيف في يده، وقد شعر بتخدير دب إلى يديه ورجليه، وبدوار استولى عليه بتدريج، فرمى بنفسه في الديوان، وأسند رأسه إلى وسادة شاعرا أن يدين خفيفتين كانتا تؤاسيانه وتلاطفانه، وأن شيئا غريبا استحوذ على صوابه، وامتلك رشده، وأن الإغماء استولى عليه، وقبل أن يغمض عينيه في الرمق الأخير الذي هو ليس بيقظة ولا بنوم رأى شبحا من الجمال والبهاء يتقدم نحوه، ودخلت جهان القاعة، فنظرها الجنرال آخر مرة في حياته؛ لأنه في تلك اللحظة سقط السيف من يده، ونام نوم الموت.
اقتربت منه جهان لتتأكد حقيقة حاله، فحلت عرى سترته وطوقه تبدو منه رقبته، وتناولت السيف محدقة بجثمانه الجامد الهادئ الذي كان منذ هنيهة هائما دنفا ملتهبا شهوة وغراما، ثم تراجعت خطوة مترددة، مذعورة ، ولكنها نشبت للحال كالنمرة صارخة، باسم الله، إما تضحية وإما انتقاما؟ وكانت يدها ثابتة لا ترجف، ولم تخطئ طعنتها النجلاء، فتدفق الدم من حبل وريده ملطخا فستانها، جاريا كالنهر على الديوان، وعلى البلاط الرخامي الأبيض، ملوثا حذاءها، فراعها مرأى الدم وأرعبها، ولهذا هرولت من الغرفة حافية صارخة: لقد نحرت الوحش الأشقر، لم يعد الوحش الأشقر في قيد الحياة.
ودخلت الدارخانة محكمة قفل الباب، وقد صور لها الوهم أن أحدا رآها كما هي رأت مصرع أبيها، وأنه لاحق بها، فارتمت على الديوان لابطة الكتاب الذي كان هناك، واحتملت رأسها بيديها كأنها تريد أن تهدئ ما فيه من ثورة الخوف والرعب، ولقد تراءت لها الرؤيا مرة أخرى؛ فكان أمامها بوابة النعيم، ولكنها خالية من الوحش الأشقر، فقد ذبح ذلك الوحش، ومات إلى الأبد، ولكنها وثبت بغتة من على الديوان، وفي عينيها حملقة تنطق عن جنون طرأ عليها في تلك الساعة، فصاحت ذعرا وألما، وقد رأت أمامها بدلا من وحش واحد، اثنين، ثلاثة، أربعة، خمسة، جمهورا كبيرا من الوحوش.
Bilinmeyen sayfa