قال هذا شاب شديد السمرة، أسود العينين، معصب بالربائط وهو يلتفت نحو الضابط.
وكانت رئيسة الممرضات ترافق جهان بالتجول بين المرضى وهي كهلة ذات محيا وقور، وعليها شيماء التقى والحنان، ولما لم تكن تفهم إلا النذر اليسير من اللغة التركية دعت إليها ابنة بملابس الممرضات مساعدة في ذلك القسم من المستشفى طالبة إليها أن تنقل لها ما كان يقوله الجنود.
وإذ عرفت ما جال بين جهان والضابط التفتت إليها وقالت: أأنت أيضا تحبرين المقالات للجرائد؟ ما شاء الله!
ولكن جهان لم تسمع كلام الرئيسة إذ كانت تعين في الجلوس كهلا معصب الرأس، ولما استوى في سريره ظل ماسكا بيدها، وقال: أنت شقيقة مجيد بك، بيكنا الشريف الباسل، إنه كان ضابطي يا سيدتي، وقد شهدت مصرعه، تغمده الله برحمته ورضوانه، وجعل هذه المصيبة خاتمة أحزانك، وا أسفاه لقد مات من أجلنا، مات مدافعا عنا، ومقاوما قسوة الألمان وبربرتهم! أولئك الكلاب، ألا لعن الله تراب آبائهم.
وإذ قال هذا ارتجفت يداه وترجرج صوته كأنه شاهد ثانية هول تلك الفاجعة.
ولكن الرئيسة وقد فهمت بعض ما قاله، سارعت لمساعدة جهان، فأسندت معها الجريح إلى وسادة لافظة بعض كلمات بالألمانية لم يفهمها، إلا أن ابتسامتها ورنة صوتها اللطيف لمما رعى قلبه، واستهواه.
أما جهان فمسحت دموعها قائلة في نفسها: ما أشرفها وما أرقها! أوتستطيع يا ترى امرأة تركية أن تؤانس امرأ أو تؤاسيه، وقد شتم أمامها آباءها؟! إن في الروح الألمانية لعظمة وأنفة! ثم وقف فكرها فجأة كأنها أمسكت شعورها الأصلي، فسمعت صوت عقلها يقول: ولكن الألمان قد تعلموا هذه العظمة والأنفة تعلما صناعيا، تعلما اكتسابيا، وهو من قواعد نظامهم العسكري، مع هذا فإن سيادتهم المطلقة على شعورهم لمما يستحق الإعجاب.
ذهبت جهان إلى غرفة خاصة لتلبس ثوبها الرسمي إذ لم يكن عملها لينحصر في توزيع اللفائف والأزهار على المرضى، أو في الابتسامات اللطيفة، والكلام الحلو الجميل، بل كان لها عمل آخر في المستشفى وهو التمريض، وهي لم تتهجم تهجما على الوظيفة، فقد أنشأت من أخواتها بنات عائلات الأستانة فيلقا من مسلمات ومسيحيات درست وإياهن مهنة التمريض، ومارسته قبل أن أجيز لها حمل الربائط، وأدوات الجراحة.
وحالما خرجت مع من خرج من غرفة الجراحة تقدم منها طبيب ألماني وقال: أتأمل أن يكون الخبر صحيحا، فإن الجنرال أحد رجالنا العظام، هو بطل همام.
فابتسمت جهان ابتسامة تريد بها إخفاء الحقيقة تحت ستار الإلباس، ولكن الطبيب الألماني تابع كلامه: ومع أنه بطل مغوار عقد له النصر مرارا، فأنت اليوم أعظم فتوحاته، ولهذا أهنئك. - أشكر لك عواطفك الشريفة، إلا أن خبر انتصاره الأخير لم يعلن رسميا، وقد يكون مبالغا فيه.
Bilinmeyen sayfa