قال هذا الباشا وحاجباه يقتربان قليلا قليلا حتى أصبح خطا أسود متواصلا فوق عينيه، أما الجنرال فكان يربت ركبته بأنامله وهو يستملك الحنق والحقد. - آذن إذن أن أكلمك بحرية لا تعرف المواربة، فأسألك بشرفك ألم يتصل بك خبر الفاجعة في ساحة القتال؟ - أية ساحة؟ وأية فاجعة؟
قال هذا الجنرال وهو يحاول كظم غيظه والتمويه في مقاصده: ما بالك تروغ مني، وتتجاهل الأمر؟ - ليس هذا الكلام في محله يا صاحب السعادة. - أتريد يا سعادة الجنرال أن تخفي عني الحقيقة؟ لا مراء أن الإذاعة التي وردت على وزراة الحربية وقد منع نشرها قانون المراقبة قد اتصلت بك، وجاءك تقرير عنها من ساحة الحرب أن الضابط الألماني الذي رمى ولدي برصاصة هو وحش ضار، ونذل جبان، ولا يستحق رصاصة جندي، المشنقة لأمثاله! - سكن جأشك يا صاحب السعادة، ولا تسترسل إلى المبالغة والأوهام، ودعني أنبئك أن ما اتصل بك من خبر الرواية لا صحة له، إنها لإذاعة كاذبة، فإن موت ابنك كان حادثا فجائيا يؤسف له شديد الأسف. - والأمر الذي صدر، ومؤداه أن يرمى بالرصاص كل جندي يتراجع، ذلك الأمر الذي احتج عليه ولدي ومن أجله تمرد، الأمر الذي كان سببا لما تدعوه حادثا فجائيا، الأمر الذي لم يستطع ولدي أن يعمل بموجبه ...
ومع ما جاش في صدر الجنرال فون والنستين من الغيظ والغضب ظل مدركا مقامه، مالكا صوابه، فرأى أن الباشا قد نصب لنفسه فخا في آخر ما جاء من جيشانه فقال: إذن أنت كجندي تذنب ابنك لتمرده، وتقاضه على عصيانه الأوامر العسكرية. - أها أها، إنما هذه هي الحقيقة، إن ولدي قد رمي بالرصاص لعصيانه الأوامر العسكرية، ولم يمت مجاهدا جهاد الأبطال، ولا شك أنك يا سعادة الجنرال كنت عالما بذلك حينما كتبت تنبئني بإنعام جلالة الإمبراطور على ولدي، فلو كنت كريما لأخفيته عني بعد مصرعه، ولو كنت شفيقا لرثيت لحالة شيخ تركي مخلد إلى السكينة والسلام، ولاستغنيت عن هذا الهزء والسخرية، وفوق ذلك يا سعادة الجنرال فإن صليبك الحديدي مكافأة نيئة، وتعزية حقيرة لأب خسر ابنه.
وفي هذه اللحظة جاء الخادم بالقهوة ولفائف التبغ، ولكن الجنرال أبى قبولها، وانتصب هاما بالانصراف، وعلى وجهه الأحمر الضارب إلى السمرة خطوط زرقاء حنقا وغيظا. - أرجو أن تعذرني يا صاحب السعادة لرفضي البحث في هذا الموضوع.
وكانت لهجته لهجة محرق الأرم، وقد وقف وقفة المتوعد المهدد أمام العثماني الذي ظل جالسا في مكانه، والاضطراب لم يزل مستحوذا عليه، وتابع كلامه قائلا: فإن هذه المسألة حربية محضة، وهي من خصائص أولياء الأمور العسكرية. - أتعني أنها ليست من خصائصي؟ ألا يهم الأب مقتل ابن له ؟
قال هذا رضا باشا بصوت أجش، وقد هم بالنهوض.
في أية شريعة حربية أم أدبية أم سياسية كتب ذلك؟ إنه والله لأمر غريب، لم يسمع بمثله قبل اليوم.
وحدث سكوت قصير تكلم فيه بالتهديد والوعيد، والجنرال يداه مشبوكتان وراء ظهره جامد لا يتحرك، ثم اقترب منه الباشا وحاجباه يرقصان غيظا، والشرر يقدح من عينيه. - وأغرب من هذا تصرفك أيها الجنرال؛ فقد أنعمت على ولدي بالصليب الحديدي بعد ما بلغك رميه بالرصاص لعصيانه الأوامر العسكرية، ثم أتيت الآن تقابلني وتقول لي إنه ليس من شأني استجلاء الأمر، بل جئت لتهنئني بمصرع ولدي! أهذا هو القصد من زيارتك؟ يا للأسف!
سمع الجنرال هذا الكلام والتفت بحدة مجتازا البهو، وقد كانت طرة طربوشه تتمايل من طرف إلى آخر وهو يهز رأسه مرددا كلمة الباشا: يا للأسف! ولما وصل إلى الباب أحنى رأسه مودعا سعادته الذي ظل وسط البهو واقفا واجما.
الفصل الثامن
Bilinmeyen sayfa