ولم تتم حديثها فخنقتها العبرات، وأوشكت الأم أن تتأثر لها، ولكنها تداركت عواطفها أن ترق لها فتدفع بها إلى الهلاك، فقالت بلهجة لا تدل على ذات نفسها: وما جدوى أن يصاب إنسان بداء وبيل من أجل صديق لن ينتفع بمرضه فتيلا؟! إن أباك حريص على صون شبابك الغض وله الحق في ذلك كل الحق. - أواه يا أماه! ولكني إذا ضلت نفسي بهذا الغدر القبيح فلن أنتفع بها، ليس المرض بالشر الوحيد في هذه الدنيا، فالغدر شر من المرض، ماذا يظن بي؟ بل كيف أدفع عن نفسي أمامه وأمام الناس؟ - تقولين إن أباك أجبرك على الامتناع عن عيادته، فعلى أبيك التبعة وعليك الطاعة، ولن يجادلك إنسان في حق والد على ابنته. - ما أقساك يا أماه! .. سأموت كمدا. - أفضل ألف مرة أن يلعنني الناس على أن ألقي بفلذة كبدي إلى التهلكة!
فقالت الفتاة وما تزال عيناها تسحان دمعا ساخنا حتى سدت خياشيمها وتغيرت نبرات صوتها: سيمقتني ويحتقرني، وغدا إذا برئ ...
وخنقتها العبرات مرة أخرى، فقالت الأم وهي تتنهد: هذا هو حظك فما حيلتنا؟! .. بيد أنك ما زلت على عتبة الشباب، والفرص أمامك كثيرة، والله قادر على جبر خاطرك، فلندعه أن يصون للشاب المسكين شبابه وأن يعوضك عنه خيرا!
فهتفت بها منتحبة: ما أقساك! ما أقساك!
وفرت إلى حجرتها، وكان الوقت مساء، فدلفت من الشباك محمرة العينين ورمت ببصرها إلى النافذة المحبوبة، وكانت النافذة مغلقة ينبعث من خصاصها نور خافت. وتمثل لها راقدا على جنبه تلوح من عينيه تلك النظرة الحزينة المتجهمة، ثم تمثل لها وهو يسعل ذاك السعال القتال الوحشي: لهفي عليك يا حبيبي، وا أسفي على رقادك بلا حول ولا قوة .. ونظرتك التي تنم عن أفظع الآلام البشرية؟ .. أين نضارتك؟ أين شبابك؟ أين حديثك؟ أين آمالك، بل أين نضارتنا؟ أين شبابنا؟ أين حديثنا؟ أين آمالنا؟ رباه ما أتعس حظي .. وما أحلك دنياي!
وارتمت على مقعد تكفكف دمعها وتتنهد من الأعماق، وأوهنها التأثر فانطلقت خواطرها بلا ضابط، مرت حياتها مع رشدي أمام ناظريها في مثل لمح البصر فأيقنت أنها فتاة تعيسة الحظ، ولم يغب عنها ما في حديث والديها عن مرض الشاب من يأس وقنوط، فتولاها الذعر، وما كانت تعرف عن الموت إلا لفظه، فكيف وقد تمثل لها وحشا كاسرا يتوثب للانقضاض على قلبها؟ رباه! ويأمرانها بألا تعوده! ويحولان بينها وبينه بعزيمة لا تعرف الرحمة! وتجهم وجهها الباكي وشعرت برعدة تسري في أطرافها، فتحسست راحتها صدرها! .. شعرت في أعماقها بأنها تخاف المرض قدر ما تخافه على حبيبها، الرقاد، والسعال، والهزال، والعذاب، ثم أحست تعاسة وقنوطا وحزنا وخوفا، ومزقتها الحيرة إربا إربا بين حبيبها وصحتها وسعادتها! رباه، ألم تكن تحيا في دعة وطمأنينة وأمل مشرق؟! فما الذي أوجب هذا الشقاء وهذه التعاسة؟!
ولدى عصر اليوم التالي عادت المدرسة فوجدتهم قد نقلوا حجرتها إلى حجرة أخرى بعيدا عن نافذته، وأنه حيل بينها وبين رؤية ذاك البصيص من النور.
45
ولم يعد رشدي إلى ذكر نوال، وعجب أحمد لصمته وتساءل أيعاني آلامه وحده أم أنه يتناسى باستهانة واحتقار، ودعا له مخلصا - وهو المبتلى - بالنسيان وراحة القلب، ولم يكن من الممكن استكناه باطن الشاب من محياه، لجمود ملامحه وتجهم نظرة عينيه العميقة الحزينة وملازمته حالا من الكآبة لا تكاد تزايله، فظل أحمد متحيرا مشفقا، وشاركه الوالدان حيرته وإشفاقه، ولم يكن الأمر يعنيهم من ناحيته العاطفية، ولكنهم خافوه على الصحة المتهالكة التي تجاهد في سبيل الحياة، خصوصا وأن مضي الأيام قد بعث في النفوس الأمل بعد أن أوشكت أن تشفى على اليأس، ولو سألت على بواعث الاستبشارات لما وجدت غير كرور الأيام وتعود الحال، أما رشدي فلبث عاجزا عن مغادرة الفراش، ونضو هزال يستثير الذعر والإشفاق، وظل لونه مصفرا مشربا بزرقة، ولم يخف عنه السعال إلا قليلا.
وفي النصف الأول من مايو جاءه طبيب المصرف، ليعيد الكشف عليه وليجدد له الإجازة حسبما يرى، وفحصه الرجل فحصا سطحيا ثم قال: أظنك تعلم أن إجازتك القانونية تنتهي في 30 مايو سنة 1942!
Bilinmeyen sayfa