فتورد وجه أحمد وقال مسرعا: العفو يا هانم!
وكانوا يدعونها بست عليات فوقعت ... «هانم» من آذانهم موقعا غريبا، أما الست فقالت: أهلا بك في كل وقت.
وكان عباس شفة مكبا على تعبئة «الكراسي» ثم رص الجمرات على كرسي منها وركبها على الجوزة وقدمها إلى الست، واستقرت عينا أحمد على الجوزة في اهتمام مشوب بقلق وإشفاق، ثم مال نحو نونو، وهمس في أذنه: ألا يحق لي أن أخاف هذه الجوزة؟
فعاتبه المعلم قائلا بصوت منخفض: إذا خفتها أنت فماذا يفعل أبناؤنا!
وتوسط عباس شفة الدائرة، وجعل يدير الجوزة من رجل إلى رجل، مقتربا منه، حتى بلغت المعلم نونو، فوضع الغاب في فيه وأخذ نفسا طويلا اتصلت قرقرته حتى ملأت الأسماع، وزفره من خيشوميه قطعا من سحاب داكن! وأخيرا رأى الغاب يدنو من شفتيه والأنظار تتحول إليه، فأطبقهما عليه وأخذ نفسا قصيرا كالخائف ونونو يهتف به: «شد ... شد.» ثم قال له بلهجة الآمر: «ازدرد الدخان!» فازدرده ثم زفره بسرعة وقد شعر كأن يدا تكتم أنفاسه، ثم سعل سعلة اضطرب لها جسمه النحيل ودمعت عيناه، وكان نونو يرقبه بقلق فسأله لما أفاق: كيف الحال؟
فقال وهو يتنهد: أولى بي أن أبدأ بأخذ أنفاس خفيفة، ألا ترى أنك مدرس قاس يا معلم؟
فقهقه المعلم قائلا: كما تشاء ففي التأني السلامة!
ودار عباس شفة بالجوزة خمس مرات متعاقبة، وتصاعد الدخان من كل جانب وانعقد سحبا، وشم أحمد رائحة غريبة أثارت ذكرى قديمة، ذكرى رائحة تشابه هذه الرائحة، بل هي نفسها دون غيرها، فأين شمها ومتى؟! ولم يطل به عذاب التذكر، فذكر أول لياليه بخان الخليلي، ليلة التسهيد إذ تسربت هذه الرائحة الغريبة العميقة إلى حجرته فحيرته، فلم تكن إلا رائحة هذا المخدر العجيب المخيف، ولعلها انطلقت ليلتئذ من هذه الحجرة نفسها أو من أخرى تماثلها في ذاك الحي العجيب الذي لا يبعد أن تكون جميع الأنفاس المترددة في جوه من هذه الأنفاس، وسر للذكرى وارتاح إليها أيما ارتياح لأن التخدير كان قد أخذ يسري في أعصابه المتوترة فلينها، فابتسمت أساريره، وعاد عباس شفة إلى مجلسه يستريح قليلا، بينما مضى المعلم زفتة في تعبئة الكراسي من جديد استعدادا للدورة الثانية وقالت الست عليات الفائزة: أما هنأتم سيد عارف أفندي؟
فالتفت إليها القوم، وقال نونو: خير إن شاء الله!
فقالت المرأة الهائلة مبتسمة: أرشده طبيب ماهر إلى أقراص جديدة وأكد له أنها مضمونة النجاح!
Bilinmeyen sayfa