لا صحة ولا أسرة ولا مكانة ولا مال! في البدء قصم ظهرك عثار أبيك، وبدد آمالك حدبك على شقيقك ثم أعقم مواهبك العقلية بيئتك الجاهلة، ماذا يتبقى لك من أحلام دنياك؟ ذهب الشباب فلم ينجب حتى ذكرى جميلة تتفيأ ظلها في هجيرة العمر، وها هي الكهولة تطعن بك فيما وراء مشارف الشيخوخة، فكيف تحتمل هذه الحياة العقيمة؟ إن الرجل ليطلق الزوجة الوفية إذا عقمت، ففيم احتمالك دنيا لم تعقم فحسب، ولكن تورث الألم والضنى؟! .. لماذا وجدت في هذه الدنيا؟ أما من نهاية لهذا الألم الممض وذاك الملل المسقم؟ .. ثم ماذا أجدى عليك هذا العقل؟ وماذا أفدت من المعرفة؟ حلفتك بهذه الآلام جميعا إلا ما أغلقت الكتاب إلى الأبد وحرقت هذه المكتبة العاتية، ولخير لك أن تدمن على مخدر يذهل العقل عن الوجود حتى يتداركك الذهول الأكبر، الحياة مأساة والدنيا مسرح ممل، ومن عجب أن الرواية مفجعة ولكن الممثلين مهرجون، من عجب أن المغزى محزن، لا لأنه محزن في ذاته، ولكن لأنه أريد به الجد كل الجد فأحدث الهزل كل الهزل، ولما كنا لا نستطيع في الغالب أن نضحك من إخفاق آمالنا فإننا نبكي عليها فتخدعنا الدموع عن الحقيقة، ونتوهم أن الرواية مأساة والحقيقة إنها مهزلة كبرى! وصمت قليلا متفكرا، متجهم الوجه، منقبض الصدر، ثم نهض قائما في وثبة عنيفة وقال بشيء من الحدة: «إلى الكهف المظلم، كهف الوحدة والوحشة، إلى القبر البارد، قبر اليأس والقنوط، لقد ركلتني الدنيا وهي الدنية ولأركلنها وأنا المتعالي، إن الخصي أزهد حيوان في المرأة، فإذا استأصلت من نفسي كواذب الآمال سدت باليأس الدنيا جميعا، فإلى كهف الوحشة نتزود من ظلمته غشاوة تحجب عن أعيننا خدع الحياة!»
والتفت بعنف نحو النافذة - نافذة نوال - التي أغلقها منذ حين وقال بغضب: غلقا إلى الأبد .. غلقا إلى الأبد؟
25
ورأى أن يذهب - كعادته صباح الجمعة - إلى الزهرة، ووجد حزنه حافزا يدعوه للذهاب إلى هناك ابتغاء الوسيلة إلى التسلي عن حظه، وأخذ يرتدي بذلته الجديدة وقد ذكر كيف فصلها ولماذا تكلف ثمنها فنفخ من الغيظ والحنق، وغادر الشقة، ولدى نزوله السلم تذكر الصباح الأول له في العمارة وكيف التفت وراءه فرأى عيني نوال لأول مرة، فكيف يمكن اتقاء الشقاء المقدر ما دام يبدو في حلل آمال مشرقة وألوان ناضرة؟ على أنه لم يغب عنه أن ما يعانيه من أحاسيس الألم والاضطهاد والظلم لا يخلو من لذة، لذة دفينة غامضة لا تكاد تفصح عن ذاتها، وسار في الطريق بقدمين متثاقلتين متفكرا فيما يجلبه إعراض بنت قاصر على كهل عاقل حكيم من الحزن واليأس فهاله الأمر وكبر عليه، وجعل يقول لنفسه كالساخر: «واخزياه، كيف أمكن هذا؟! .. بنت مقمطة تفعل بي كل هذا؟! كيف سمت بي إلى نضرة النعيم ثم ردتني إلى أسفل الجحيم! وما جدوى الحكمة إذا عبثت بها جراثيم الشهوة هذا العبث المزري؟! ألم يكن من الأفضل - غفرانك اللهم - أن نخلق خيرا من هذا؟ وإذا كانت الدنيا جميعا تمسي ظلاما ويبابا لمحض أن جرثومة - تنقض الوضوء - استاءت أو أخفق بها أمل، أفليس من الحكمة أن نبول على الدنيا وما فيها؟!» ثم انقطع عن حديث نفسه لدى وصوله إلى القهوة، ووجد الصحاب جميعا قد سبقوه إلى هناك - إلا سليمان بك عتة الذي لم يعد بعد من بلدته - ووجد معهم المعلم نونو وكان من عادته أن يغلق دكانه يوم الجمعة من الساعة العاشرة إلى ما بعد صلاة الجمعة، أما عباس شفة فأخذ مجلسه المعهود جنب المعلم زفتة غير بعيدين عن حلقة الصحاب، وكان الراديو يذيع بعض الأسطوانات بينما أخذ الرجال في الحديث، وأراد كمال خليل أن يشرك القادم في حديثهم فقال له متسائلا: وما رأى الأستاذ أحمد عاكف في الغناء، أيفضل القديم أم الحديث؟!
ويل الشجي من الخلي! ولكن ألم يجئهم ملتمسا العزاء في لغوهم؟! بلى، وإذن فليدل بدلوه وليكونن من الشاكرين، وكان مغرما بالغناء - وهل تلد أمة إلا مغرما بالغناء؟ - إلا أنه يفضل القديم وما يتبع طريقته من الحديث بحكم العادة وبوحي النشأة الأولى، فقد سمع أول ما سمع أغنيات القيان وأسطوانات منيرة وعبد الحي والمنيلاوي، فاختلس نظرة من خصمه أحمد راشد المخبأة معارفه وراء نظارته السوداء، ثم قال: الغناء القديم هو الطرب الذي يأسر نفوسنا بغير عناء!
فصاح المعلم زفتة بسرور: «الله أكبر!» وصفق المعلم نونو ثلاثا، أما سيد عارف فتساءل: وأم كلثوم وعبد الوهاب؟
فقال أحمد عاكف وقد اختلس من خصمه نظرة أخرى: عظيمان فيما يرددان من وحي القديم، تافهان فيما عداه!
فقال سيد عارف: أم كلثوم عظيمة ولو نادت ريان يا فجل !
فقال أحمد عاكف: أما صوتها فلا خلاف عليه، ولكن حديثنا عن الغناء من الناحية الفنية!
فقال كمال خليل: الأستاذ أحمد راشد يعجب بالغناء الحديث بل وأشاد بالموسيقى الإفرنجية!
Bilinmeyen sayfa