فهز أحمد عاكف رأسه ونظر لمحدثه نظرة لا معنى لها ولاذ بالصمت، والصمت في مثل حاله مأمون العواقب. فهو يغنيه عن خوض ما ليس له به علم، ويهيئ له جوا آمنا لاهتبال الفرص السانحة، أما صاحبه فاستدرك يقول: ليس يوجد شر من نظام يقضي على أناس بالانحدار إلى مستوى الحيوان الأعجم.
ولست أدري كيف تطيب الحياة لقوم عقلاء وهم يعلمون أن غالبية قومهم جياع لا يدخل بطونهم ما يقيم أودهم، جهلاء لا ترتفع عقولهم عن أدمغة الدواب، مرضى تستوطن الجراثيم أجسادهم الهزيلة، ألم يخطر لهم أن ينادوا بمبدأ المساواة بين الفلاحين والحيوانات مثلا؟ فإن للحيوان على سادة الريف حقا في الغذاء والمأوى والصحة لا مراء فيه، ولم يقر بمثله للفلاح!
ولم يعد يستطيع كبح شهوة المعارضة، وكبر عليه أن يستمر الشاب في محاضرته وأن يقنع هو بالإنصات كالتلاميذ فقال: إذا كان للفلاح حق فلماذا لا يطالب به؟
فقال المحامي بحدة: الفلاح مضغوط تحت المستوى الأدنى للإنسانية، فلا يمكن أن يطالب بشيء ولكن خليق بكل إنسان أهل لشرف الإنسانية أن يمد يده ليرفع عن كاهله المتهالك هذا الضغط، وقديما حارب الرق الأحرار لا العبيد!
وتنازعت الكهل عواطف جد متناقضة، فجانب من نفسه ارتاح لما يقول الشاب، فلو اعتدل ميزان العدالة في هذا الوطن ما عاقه عن إتمام تعليمه عائق، ولبلغ ما يشتهي من الشرف في الحياة، واحتقر جانب آخر اهتمامه الحماسي بالمشكلات الاجتماعية، ورأى أنها دون ما ينبغي أن يفكر فيه «المثقف» من أمور العقل كالمنطق والتصوف والأدب! ثم ذكر عنف الشاب في حديثه وثقته برأيه فثارت كبرياؤه، وغلبته على أمره، فقال بحدة: لو أن الفلاح يستحق أكثر مما هو متاح له لناله، والحق لمن يقدر عليه، وما عدا ذلك فهراء في هراء!
وثبت الشاب نظارته على عينيه بحركة عصبية ، وقال بلهجة غربية: أأنت من أتباع نيتشه يا أستاذ؟!
رباه من نيتشه هذا؟ .. ألا يمكن أن يوجد رأي - ولو كان من وحي الغضب والحنق - من غير قائل سابق من الحكماء الذين يجهلهم كل الجهل؟ .. وكيف يجيب الشيطان البغيض؟! .. هداه عقله إلى سبيل واحد رأى أنه يخلصه من الفخاخ التي ينصبها له عدوه، فقال وقد غير لهجته، وخفف من شدته: إنك يا أستاذ راشد تدفعني إلى أحاديث ليست بذي بال! - حياتك ليست بذي بال؟! - دع الفلاح إلى نفسه أو إلى من يعنيه أمره، ألم تقرأ شيئا عن أرسطو؟ .. ألم تلم بفلسفة إخوان الصفا الدينية؟ .. ألم تثقف شتى المعارف الروحية؟
فلاح الانزعاج في وجه الشاب وقال: إن مثلنا مثل ربان سفينة تمخر عباب مضيق ثائر تهب عليه ريح زعزع عاصفة، فيفور زخاره ويصطخب ركامه، فتعلو السفينة وتسفل، وتميل ذات اليمين وتميل ذات الشمال، مضطربة البنيان مزلزلة الأركان، فهل يجوز للربان - وتلك حال السفينة - أن يولي آلة القيادة ظهره ليرمي بطرفه إلى الأفق متأملا ومنشدا؟! نحن نجتاز الآن مضيق الموت تكتنفنا الآلام من كل جانب، فلنأخذ من الآلام ذخيرة لتأملاتنا، حقا إن للأبراج العاجية لذتها، ولكن ينبغي أن نقاوم أنانيتنا إلى حين. - فأنت في سبيل أن تنقذ البائسين من وهدة الحيوانية، تضحي بإنسانية المثقفين وتقتل أرواحهم! - قلت إلى حين .. ألم تر إلى فترة الحرب وكيف تحول العلماء - وهم أشرف الخلق - إلى نوع من المجرمين! - ومع ذلك فلك نصيبك من التأملات البعيدة كالفلك والذرة!
فضحك أحمد راشد - لأول مرة - بصوت مرتفع فلفت إليه جماعة اللاعبين وجعل المعلم نونو يقول له: إن ضحكتم فأعلمونا!
فسكت المتحاوران حتى شغل عنهم اللاعبون ثم قال المحامي: لا غنى عن التسلح بالعلم للمكافح الحق، لا للاستغراق في تأملاته، ولكن لتحرير النفس من أصفاد الأوهام والترهات، فكما أنقذتنا الديانات من الوثنية ينبغي أن ينقذنا العلم من الديانات!
Bilinmeyen sayfa