فسأله أحمد: متى كان ذلك؟
فقال الرجل بلا جهد: وأنت في العاشرة!
آه .. تلك الأيام العذاب، أيام السرور والمرح والتدليل، لقد اتفق له ولوالده عهد واحد يبكيانه معا، ومضى أحمد ذاك المساء - كعادته الجديدة - إلى مقهى الزهرة، وقد استسلم لهذه العادة الجديدة التي استأثرت بنصف الوقت المخصص للمطالعة، ووجد في المعاشرة لذة ليست دون لذة القراءة والعزلة.
واجتمع بالصحاب الذين أخذ يألفهم ويألفون، ودار الحديث عن سهرات رمضان وكيف يقضونها، فقال عباس شفة - زوج معشوقة الأزواج - بصوته المبحوح: لا تتعبوا أنفسكم في التفكير فلنا في سهرات رمضان الماضية أسوة: نجيء إلى قهوتنا بعد الفطار ونسمر بها حتى منتصف الليل ثم ننتقل إلى «هناك» لنصل سهرتنا بالسحور.
وتنبه أحمد إلى «هناك» هذه وتساءل ترى هل يستبيحون المنكر في شهر التوبة! على أن سبيله كان واضحا فسيلبث بينهم ما لبثوا في المقهى ثم يعود إلى بيته فيطالع حتى السحور وهكذا حتى يختم الشهر.
10
وفي اليوم الأول من أيام الصيام كابد أحمد عاكف تعبا مرهقا، فشق عليه ألا يشرب قهوته ويدخن سيجارته على الريق، ومضى إلى الوزارة متوجع الرأس متثائبا، وغالب تعبه مغالبة بائسة حتى دمعت عيناه من التثاؤب واسترخت جفونه، وذكر أن أحمد راشد وأمثاله لا يعانون تعبا ولا حرمانا، فسره أن يحتقره ويتعالى عليه، وعاد إلى البيت ظهرا وقد نهكه التعب، فاستلقى على فراشه وراح في نوم عميق صحا منه قبل الفطار بساعة واحدة، وذهب إلى الحمام فرطب وجهه وأطرافه وفي طريق عودته رأى والده في حجرته متربعا على سجادة الصلاة يقرأ في الكتاب، فمر به ساكنا، وعطف رأسه إلى المطبخ فرأى أمه مشمرة عن ساعديها، ودعاه المطبخ إلى الوقوف بعض الوقت عند عتبته، فأجال بصره فيه متشمما فطاف بطبق كبير حفل بمواد السلطة من بقدونس وجرجير وجزر وبصل وطماطم، خضرة يانعة وحمرة فاقعة، فانشرح صدره وتحلب ريقه، وانتقل إلى سلطانية الفول قلم يستطع صبرا، وزايل مكانه، وفي الصالة مر بالسفرة وقد هيئت فوضع على ركن منها العيش وفرقت أمام كراسيها أكواب الماء وتوسطها طبق ملآن بالفجل، فهرع إلى حجرته وأغلق الباب، وكان أبقى الأهرام بغير قراءة ليتسلى بمطالعته في الساعة الأخيرة المعروفة بشدتها وثقلها فأكب عليه حتى فرغ منه، ونظر في الساعة فعلم أنه لا يزال عليه أن ينتظر نصف ساعة أخرى! .. وتجهم وجهه، ثم لم ير بدا من فتح النافذة المشرفة على العمارات ليقطع الوقت بالنظر، ورأى المعلم نونو يغلق دكانه وأطفاله ينتظرونه يكادون يسدون الطريق سدا، ثم مضى يحفون به ويتعلق الصغار بساقيه ويصيحون جميعا في جلبة تحسده عليها محطة الإذاعة، وقد أوشك الطريق أن يخلو إلا من باعة الزبادي، وشاهد شعاع الشمس الأخير يتقلص عن أسوار العمارات التي تواجهه من وراء مربع الحوانيت العظيم، والنوافذ المفتوحة تعلن عن السفر الحافلة، وعلى الشرفات انتصبت القلل لتبرد وانتثرت أطباق الخشاف المكللة بغلالات بيض، وأتى الهواء بروائح التقلية ونشيش المقليات فتاه في دنيا الطعام الساحرة ... ثم تحول عن هذه النافدة إلى النافذة الأخرى المطلة من جنب على خان الخليلي القديم ففتحها وارتفق حافتها، ورمى بطرفه إلى الحي القديم فوجده صامتا ساكنا تلوح قبابه المعزية كأنها تسجد تحية للشمس المولية، وكان يواجه نافذته عن قريب جناح العمارة الأيسر بنوافذ مغلقة، ولكنه سمع حركة خفيفة هفت من عل، فرفع بصره فرأى شرفة الجيران - التي تواجه نافذته ولكن في الطابق الأعلى من العمارة - ورأى في الشرفة فتاة مكبة على تطريز شال انسحب ذيله على حجرها وهي جالسة على كرسي ملتفة الساقين، وعرفها من أول نظرة - حتى قبل أن ترفع إليه عينيها - فاهتز صدره، فما كان يحسب أن شقة كمال خليل في هذا الجناح الذي يواجهه، ولا أن فتاته دانية إليه لهذا الحد، فشعر بارتياح وسرور، ورفعت الفتاة عينيها إليه ثم ردتهما بسرعة إلى إبرتها فنظر في العينين العسليتين النجلاوين لثالث مرة، وفي تلك اللحظة الخاطفة من التقاء العيون اضطرب قلبه وغلبه الارتباك وتولاه الحياء فتورد وجهه الشاحب واختلج جفناه ولم يدر ماذا يصنع ولا كيف يتخلص من موقفه، ونكس رأسه الأصلع وهو يود لو يختفي عن النافذة ريثما يأخذ أنفاسه، ترى هل عادت إلى النظر إليه؟ .. هل ترنو الآن إلى صلعته؟ .. وشعر بأن موضع نظرها من رأسه يشتعل كما تشتعل الورقة تحت أشعة الشمس المتجمعة في بؤرة، ومضى وقت طويل أو قصير حتى تنبه على طقطقة الكرسي فرفع رأسه فرآها قد نهضت لتذهب إلى الداخل، وخال أنه لمح على وجهها بشير ابتسامة وهي تتحول لتدخل، وعاد إلى النافذة الأخرى متسائلا ما معنى هذه الابتسامة؟ .. لماذا ابتسمت الصبية؟ هل تسخر من صلعته؟ .. أو تضحك من نظرته الوجلة الخجول؟ .. أم تعجب لما حسبته غزل كهل في سن أبيها؟ إي والله في سن أبيها! ... فلو تيسر له الزواج في إبانه لأنجب فتاة في مثل سنها، ولما أمكن أن تبعث مثل تلك النظرة في أطرافه ما بعثت من ارتباك واضطراب وحياء، ولكن قضي أن يفقد جنانه لدى أية صبية، وأن تستثير جوعه وحياءه أبرأ النظرات! وابتسم ابتسامة يأس وخجل فافترت شفتاه عن أسنان صفر! ودوي المدفع، وتصايح الأطفال، فعجب كيف انقضت نصف الساعة بغير تفكير في الجوع أو العطش، وهتف المؤذن بصوته الجميل «الله أكبر ... الله أكبر» فأجاب أحمد بصوت مسموع «لا إله إلا الله»، ثم تحول عن النافذة ذاهبا إلى الصالة، والتأم جمع ثلاثتهم حول السفرة، ثم غيروا ريقهم على عصير قمر الدين حتى رووا ظمأهم، وأتت الأم بطبق الفول المدمس فأقبلوا عليه بنهم شديد وتركوه أبيض من غير سوء، فقال الأب وهو يعتصر بقليل من الماء: أظن الأوفق أن نؤخر الفول حتى نصيب من أنواع الطعام الأخرى وإلا امتلأنا به وحده.
فقالت الأم ضاحكة: هذا ما تقوله كل عام ولكنك لا تذكره إلا عقب الفراغ من الفول!
ولكن لم يزل في البطون متسع فجيء باللوبيا والفلفل المحشو واللحم المحمر وتعاونت الأيدي والأعين والأسنان في عزم وسكون. ولم يكن الطعام الشيء الوحيد الذي يلذ أحمد، فهناك خواطر سارة زحمت رأسه الصغير الأصلع، حدت من شهوة الطعام نفسها، من هذه الخواطر: أن الفتاة جارته، وأن شقتها تشرف على شقته، فاللقاء منتظر، والتقاء العينين مرتقب، والتفاعل محتمل، والانفعال مؤكد. ومن يدري بعد ذلك ماذا يحدث؟ سيرمي بالقلب في بحر لجي يعلو به أمل ويسفل به قنوط، ويذهب به رجاء ويجيء به يأس، ويخيفه أفق مظلم ويطمئنه شاطئ آمن، فما يدري أين المستقر ولا أيان المنتهى، وحسبه من السرور يقظة دبت في قلب موات. وليقظة القلوب فرحة وإن أدى الإنسان ثمنها من دمه وراحة باله، وهل ينكر أن قلبه جمد من البرد وبرم بالنوم وضاق بالراحة؟ فها هي ذي يقظة تدب، وتبشر الشرفة بدوامها، ما عقباها؟ ما غايتها؟ لا يبالي في سروره الراهن ما ينطوي عليه غده، فليشرق الأفق أو فليغرب، وليبتسم الحظ أو فليتجهم، فبحسبه أن قلبه صحا، وأنه منذ أيام ينتفض في اضطراب، ويضطرب في سرور، ويسير في حيرة، ويتحير في رجاء، ويرجو في خوف، ويخاف في لذة، هذه هي الحياة، والحياة أجمل من الموت، مهما كابد الحي من تعب ووجد الميت من راحة.
11
Bilinmeyen sayfa